إن قيمة مفارقة الأوطان والرحيل عنها ونشدان أوطان بديلة لطالما كان منهلا للكتاب والمؤلفين يتحدثون من خلالها عن مسائل الهجرة وتعقيداتها ..واللجوء بكل أشكاله وما يطرأ على طالبيه من تشويشات اجتماعية وثقافية واضطرابات نفسية تجعلهم في حالة شتات وضياع وبلا توازن داخلي يجعل تلمسهم للبيئة الجديدة وعرا ويجعل حنينهم للبيئة الأم مهزوزا وغير واضح.. فقد عانى الأديب الإفريقي صنوفا من الغربة، الغربة داخل الوطن نتيجة لاستئثار المستعمر بكل شيء ، والغربة داخل اللغة نتيجة لاضطرار الكاتب إلى التفكير بلغة أمه والكتابة بلغة المستعمر، والغربة التي يحسها هو وكثير من مواطنيه نتيجة للتغيرات الكثيرة والمستمرة في بلده، بالإضافة عن الغربة عن وطنه الذي ولد فيه. ومع الموت والعسف والاضطهاد والنفي والظلم ، نشأ شعر الغربة والحنين إلى الأوطان خاصة من الذين اغتربوا للدراسة في أوربا مثل سنغور وشوينكا، أما الاغتراب داخل الأوطان ذاتها فنجده بارزا في شعر أبناء المستعمرات البرتغالية وجنوب إفريقيا البيضاء ، حيث يعرف الشاعر أرضه معرفة اليقين ، ولكنه لا يستطيع أن يلمسها إلا بالإذن. لقد صور شاعر جنوب إفريقيا دنيس بروتس الغربة داخل الوطن بقوله: يا شعبي ماذا جنيت وأين سأجد الراحة حتى أرفع برفق قناع خوفك واستعيد وجهك وإيمانك وشعورك ودموعك كما خرجت روايات كثيرة إلى الوجود عاكسة صور الحنين إلى الماضي والأهل والوطن . وتتحدد نوعية غربة (الإنسان الإفريقي) بشكل مختلف لأن غربة الإفريقي كانت ممرحلة فظهرت في عدة أشكال وبسبب ذلك كانت عذاباته كثيرة فمنها غربة الاستعمار العنصري وغربة التخلف والجهل والمرض الذي فرضه هذا الاستيطان المرير. وغربة التهجير القسري إلى ما سمي بالعالم الجديد في القارتين الأمريكيتين ، ونفي الإنسانية عنه بسبب لونه أو عرقه ، بينما هو في الواقع التاريخي المنصف يعرف أسلافه الحياة والحضارة قبل أن يعرفها مستعمروه. وفي الحقيقة لم يكن غائباً عن وعي الكائن الإفريقي حجم غربته التي يعيشها في هذا العالم لذلك أنتجت نصوصه أروع المفردات في معانيها.. ( [1])ولعلنا ندرك هذه المضامين عندما نقرأ نصاً للشاعر الإفريقي: تشيريكو ري تشيريكوري معنون ب"روكوفون" يقول: أبداً، لست حجراً ولا جباناً أو حتى ريح هناك شيء ما ربطني بأمي، في رحمها، لتسعة أشهر، ولم ينقصني غذاء ثمة شيء يوحدني مع العائلة البشرية على الأرض يمنحني الدعم والاكتفاء طيلة حياتي.. ثمة شيء يوحدني بأسلافي لتوجيههم ونورهم أدين ببقائي ثمة شيء يربطني بالخالق عز وجل الذي هداني السبيل في الميلاد والممات والقيامة.. في السراء والضراء، في زمن الوفرة أو المجاعة سنعمل معاً يداً بيد ثمة شيء يربطني إلى أرض أجدادي: إفريقيا فليقتلوني أو يعذبوني وليتحرشوا بي أو حتى يشوهوني سأظل صامداً.. هذا الشيء، مهما كان هذا الشيء سبب وجودي هنا حياً. الآن بالأمس واليوم وغداً وإلى الأبد وهنا يتجسد الوعي.. ويبرز فشل الغزاة في إلغاء ذاكرة الإنسان الإفريقي.. وأيضا إلغاء علاقته الوطيدة بأرضه وأسلافه. وفى ذات اٌلإطار يصف الروائي التنزاني الزنجي باري عبد الرزاق قرنه المقيم في بريطانيا والذي يكتب بالإنجليزية في روايته ذاكرة الرحيل صورة الرجل الإفريقي في الغربة لمهاجرين من زنجبار يعيشان الوحدة والمعاناة النفسية في بريطانيا. ( [2]) وهذه قصيدة (في الغربة) للشاعر الإفريقي صلاح أحمد إبراهيم يقول: هل يوماً ذقت هوان اللون ورأيت الناس إليك يشيرون، وينادون: العبدُ الأسود؟ هل يوماً رحت تراقب لعب الصبية في لهفة وحنان فإذا أوشكت تصيح بقلب ممتلئ رأفة ما أبدع عفرتة الصبيان! رأوك فهبوا خلفك بالزفة! عبد أسود عبد أسود عبد أسود..؟ هل يوماً ذقت الجوع مع الغربة والنوم على الأرض الرطبة الأرض العارية الصلبة تتوسد ثني الساعد في البرد الملعون أنّي طوفت تثير شكوك عيون تتسمع همس القوم، ترى غمز النسوان وبحد بنان يتغور جرحك في القلب المطعون تتحمل لون إهاب ناب كالسبّه تتلوى في جنبيك أحاسيس الإنسان تصيح بقلب مختنق غصان: وا ذل الأسود في الغربة في بلد مقياس الناس به الألوان! وهذا دليل على ارتباط الإفريقي الأصيل بالوطن ومما يدل و تدفقه بالحنين تدفقا حين يسافر إلى بلد غربي وحين يصدم لونه الناس هناك وحين يريد الاندماج مع هذا المجتمع عن طريق الزواج منهم على حد تلك التجارب التي قصها الدكتور عبد الله الطيب في شعره وقد تعرض يوسف التني لهذا الصدام فقال فيما قال: انه ينكر من أحوالهم عجمة اللفظ وتقديس الصليب وخلاقا غير ما يعهده وجمودا باردا جد عجيب مثلما أنكروا من لونه سمرة كالخال في خد حبيب فارحموا غربته عودوا به قد كفاه ما يلاقي من لغوب الصادق محمد آدم جامعة النيل الأزرق – كلية التربية Alsadig Mohammed Adam [[email protected]]