سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحزنية الرابعة: في ذكرى رحيل الطيب العباسي.. مثلك لا يُنسى!! . بقلم: د. أبوبكر يوسف إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 15 - 08 - 2012


بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ( هَذَا بَلاغٌ لِلْنَّاس وَلِيُنْذَرُوْا بِه وَلِيَعْلَمُوَا أَنَّمَا هُو إِلَهٌ وَاحِد وَلِيَذَّكَّر أُوْلُو الألْبَابْ) ..الآية
هذا بلاغ للناس
*[email protected] mailto:[email protected]
- أخي الحبيب الطيب :
والأب والصديق الغالي، اليوم يبدأ العام الرابع على فراقك الأليم اليوم التاسع والعشرون من رمضان، فالفراق زاد من وهجك في وجداننا .. ومن قال بالفراق ينتهي كل شيء ؟!، وأنت لم تفعل إلا كل شيء ؛ فعطش السنين كان يراودك في شكل أحلام البرودة النائمة في أبراج الخيال ، يسقط نجم الوجع المنسي في قاع الغربة الذابلة تحت صقيع الطبقات المعزولة عن مكونات السبات الطويل؛ لا الريح قادرة على اكتشاف الألم، ولا الصمت الكوني تطاوعه دهشة الفراق ؛ ولا أنت تحمل جسدك خلف ظلك ، وينتهي بك الرحيل وحيدا عن ملامح وجهك الذي لا تعرفه أنت ونعرف قدره نحن.. كانت بساطتك وعفويتك تتجلى في تجردك عن (الأنا) وإيثار الذات ؛ ربما تتذكر تقاسيمه الشاردة مع طلوع القمر في متاهات الإحتمالات الصعبة أمام سواد الليل .
- أخي وصديقي الشاعر الفذ والقاضي العادل الطيب العباسي، حينما أجتر ذكرياتنا معاً أشعر وكأنني ركبت صحوي في انبلاج القمر ؛ ويكفي أنني لا أستطيع توصيف أسرار الجرح الذي يعتريني لفراقك، ويشق جسدي إلى نصفين، نصف لي و آخر وهبته للذكريات ؛ كي تنثر زرع مودتنا خلف سياج فيعتريني من ألمٍ عميق لفراقك، تسقط كل مزارع الأفق في كف القدر، يمسح عن وجهه سواد حلم يراودني في كبح صهيل والرغبة العالقة في تخوم سفن الذكريات الغارقة في قاع أعماقي ؛ هناك ينجلي صوتك كضوء مرجاني على تلاشي بقية الصور أمام مساليك الصمت العتيق ؛ فتخرج أنت في هيئة صخرة على شواطيء الذكرى فتنم عن اندفاع الموج الصاخب ، يواسي عشب الذاكرة في فتح شهية الملح والحجر؛ مثل ظلك تحت خيال القمر، يقف جسدي ليواجه شبح ذكريات ناضجة في سراب صحراء تحرق نفسها انتقاما من عطش العيون لغياب قمر الشعر فيولد فينا محنة السؤال الصعب عندما يختار الله إلى جواره الأحباء الأخلاء الأصدقاء الأوفياء!!
- وفي آخر جلسة لنا في منزله بحلفاية الملوك قلت لك:«هو الشعر فالتصدح بلابله».. وأذكر في آخر يوم خميس تم اللقاء بحضور الشاعر صديق مدثر والصديقين المشترك أسامة عوض حسينوالأمين أحمد على وبعض من أقاربه فقرأ علينا قصيدا يحرّك السواكن ويحيى النفوس، وبعد ذلك تحدث عن كهولته وكبره وتعلمه فما كان مني إلا أن عقبت وقلت له: رفعت الرؤوس وأطلت الاعناق ياأبا أسعد. واليوم أشعر بفراقه أن في نفسي ألم مرير لفقده كشعلة كانت تتقد، يا شاعرا تعرف الساحات صولته إذا صدحت وغنى واد واديك لا ند يخالفه ولم يبق في الدرب ند يناديك , إن كل لقآء لنا كان لقاء المحبين للأخاء الصادق والوفاء النادر لقاء للشعر والابداع.
- اليوم وفي ذكرى رحيلك عنا إنها مناسبة تدعو الى نبش الذكريات والاعتبار مناسبة تستحق واجب التقدير والإكبار لروح الطيب العباسي. أصدقكم القول أنه منذ اللحظات الأولى لنبأ رحيله لا أقول موته، لأن الشاعر لا يموت وإنما يرحل من مدن الحبر والكتابة إلى مدن قلوب أحبته قبل الرحيل وبعده، الطيب العباسي شاعر شعلته متوهجة لا يموت، شاعر انشغل بوجدانيات الإنسان الصغيرة منها والكبيرة، لأنها لا يموت، شاعر عشقت الناس قصائد عشقه لا يموت، شاعر عاش كوتر على أهبة الحب والغناء لا يموت، شاعر تفّرد منذ قصيدة الأولى لا يموت، شاعر يزرع الجفاف بالعشب والحب لا يموت، شاعر ظل مخلصا لحريته فحين يرحل لا يموت!! نعم كأسُ الفراق مرٌّ، ولكنْ وأمّا عندما يودّع إنساناً تحت أطباق الثرى، فإنه لا أمل له في لقائه بهذه الدنيا، هذه هي الدنيا، مهما عمَّر الإنسان فيها فمصيره إلى التراب ومفارقةِ الأهل والأصحاب والأحباب. عند ساعة الفراق، كلٌّ يعبر عمّا يجيش في نفسه بطريقته، فهذا بالنحيب، وذاك بالبكاء والدموع، وغيرُه بالعويل، والآخر بالصبر والسُّلوان... أما الشعراء فتتحول دموعهم إلى مراثيَ حزينةٍ، حروفُها الأحزانُ، وسِفرها قلبٌ مُضنى، وقافيتها اللوعة والأسى، وبحرُها من فيضانات العبرات.... كلُّ واحدٍ منّا في هذه الحياة الدنيا قد تجرّع كأس الفراق، وذاق علقم الفقد، ولوعة الوداع، وسكب دموعَ القلوب قبل العيون. وكلّ واحد منا فقدَ أمًّا رؤوماً، أو أباً عطوفًا، أو أخاً شفيقاً، أو زوجاً حنوناً أو صديقاً حميماً مخلصاً. والإنسان عندما يودِّع مسافراً فإنه يعيش على أمل اللقاء به ولو بعد حين. وأمّا عندما يودّع إنساناً تحت أطباق الثرى، فإنه لا أمل له في لقائه بهذه الدنيا. نعم كأسُ الفراق مرٌّ، ولكنْ هذه هي الدنيا، مهما عمَّر الإنسان فيها فمصيره إلى التراب ومفارقةِ الأهل والأصحاب والأحباب.
- نعلم أن آلاف الشعراء كتبوا عبر العصور، لكن التاريخ لا يذكر سوى قلة منهم، ذلكم هم الشعراء الذين امتدت كلماتهم في عمق الأرض، فأينعت ثمرا وزهرا وشمسا، ذلك لأنهم سقوها من رحيق قلوبهم، وعندما يرحل واحد منهم كالطيب العباسي، نحس أن الزمن ليس هو الزمن، وأن الشمس فقدت شعاعا كنا نراه ونستضئ به، لكن الشعاع سرعان ما يعود متوهجا بأشد ما يكون التوهج، لأن الشاعر لم يرحل بعيدا عنا، بل رحل فينا وصار حياة في قلب كل منا.
- أخي الحبيب الطيب .. والقاضي العادل الذي يقدم الرحمة فوق العدل .. والشاعر الذي لا يشق له غبار، والأهم الخل الوفي بيننا برهة الذكرى.. ونعيد المياه إلى بحرنا ثانية.. هادئا سلسا لامعا كلجة..لماذ تعجلت يا أخي وصديقي وخلِّي الوفي.. هذا الرحيل المر نحو الأبد.. هذا الرحيل الفجائي نحو قصيدة كونية، تتغير حروفها كل حين.. بلغة فخخت أيامنا بسيل من الأسئلة التي لا تنتهي..؟ حتى أنك نسيت أن تهدي لي ديوانك الذي كنت ستعيد طبعه ، وتسألني رأيا فيه..! كنت غافلا عنك.. كنت منشغلا بأشيائي الصغيرة.. لولا أنك إتصلت بي تطلب مني محاولة المجيء ولم تشاء إرادة الله.. لمن سأجيء غدا حين أشاء أن أفضي بما في داخلي من هموم وبؤس وحزن كبير؟!.. إذا لم تكن أنت!!..من سيسمعني ؟! ومن سيصغي إلى وجعي وحنيني؟ من سيوبخني على أخطائي الكبيرة والصغيرة.. من سيغضب مني ثم يتصل محاولا استرضائي وهو يشتمني بكل ما أحب وأكره، وهي تخرج من قلبه البريء الأبيض كأنها سلالة اللغة الجديدة في مفردات المديح..! نقية بيضاء من غير سوء.. لماذا ترحل الآن باكرا يا صديقي هكذا قبل أن تبدأ الحكايات موسمها الشتائي..! لماذا؟ لم تترك لنا أية علامة.. كنت هادئا وادعا.. مطمئنا، تضحك وتهيج، من سيجمع لنا ذرات حكاياتك الآتية لكي تكون لائقة بسرد ما.. على لسان ذرب محنك..؟ ومن سيجمع لنا غدا ضحكاتك ويرتبها بأناقتها المعهودة، لكي تروي لنا نفسها من جديد..!؟ أيها الحكاء العظيم.. يا من كانت ضحكاته الأنيقة الفارهة تملأ الأمكنة.. ثم تجول في حواف الذاكرة وأنحائها نتفة .. نتفة، كأنها تتفقدها استعدادا لحكاية غريبة آتية؟ حتى وأنت بيننا جسدا وروحا.. كنا نستحضرك بمجرك أن نغادرك من البيت أو تغادرنا من بيتنا..!
- وفي آخر جلسة لنا في منزله بحلفاية الملوك قلت له:«هو الشعر فالتصدح الليلة بلابله».. وأذكر في آخر يوم خميس تم اللقاء بحضور الشاعر صديق مدثر والصديق المشترك أسامة عوض حسين وبعد من أقاربه فقرأ علينا قصيدا يحرّك السواكن ويحيى النفوس، وبعد ذلك تحدث عن كهولته وكبره وتعلمه فما كان مني إلا أن عقبت وقلت له: رفعت الرؤوس وأطلت الاعناق ياأبا أسعد أطال الله عمرك. ان في نفسي ألم مرير لفقدان شعلة كانت تتقد، يا شاعرا تعرف الساحات صولته إذا صدحت وغنى واد واديك لا ند يخالفه ولم يبق في الدرب ند يناديك , إن كل لقآء لنا كان لقاء المحبين للاخاء والوفاء وللشعر والابداع.
اليوم ذكرى رحيلك عنا إنها مناسبة تدعو الى نبش الذكريات والاعتبار وواجب التقدير والإكبار لروح الطيب العباسي. أصدقكم القول أنه منذ اللحظات الأولى لنبأ رحيله لا أقول موته، لان الشاعر لا يموت وإنما يرحل من مدن الحبر والكتابة إلى مدن قلوب أحبته قبل الرحيل وبعده، الطيب العباسي شاعر شعلته متوهجة لا يموت، شاعر انشغل بوجدانيات الإنسان الصغيرة منها والكبيرة لا يموت، شاعر عشقت الناس قصائد عشقه لا يموت، شاعر عاش كوتر على أهبة الحب والغناء لا يموت، شاعر تفّرد منذ قصيدة الأولى لا يموت، شاعر يزرع الجفاف بالعشب والحب لا يموت، شاعر ظل مخلصا لحريته فحين يرحل لا يموت!! نعم كأسُ الفراق مرٌّ، ولكنْ وأمّا عندما يودّع إنساناً تحت أطباق الثرى، فإنه لا أمل له في لقائه بهذه الدنيا، هذه هي الدنيا، مهما عمَّر الإنسان فيها فمصيره إلى التراب ومفارقةِ الأهل والأصحاب والأحباب.ساعة الفراق، كلٌّ يعبر عمّا يجيش في نفسه بطريقته، فهذا بالنحيب، وذاك بالبكاء والدموع، وغيرُه بالعويل، والآخر بالصبر والسُّلوان... أما الشعراء فتتحول دموعهم إلى مراثيَ حزينةٍ، حروفُها الأحزانُ، وسِفرها قلبٌ مُضنى، وقافيتها اللوعة والأسى، وبحرُها من فيضانات العبرات.... كلُّ واحدٍ منّا في هذه الحياة الدنيا قد تجرّع كأس الفراق، وذاق علقم الفقد، ولوعة الوداع، وسكب دموعَ القلوب قبل العيون. وكلّ واحد منا فقدَ أمًّا رؤوماً، أو أباً عطوفًا، أو أخاً شفيقاً، أو زوجاً حنوناً أو صديقاً حميماً مخلصاً. والإنسان عندما يودِّع مسافراً فإنه يعيش على أمل اللقاء به ولو بعد حين. وأمّا عندما يودّع إنساناً تحت أطباق الثرى، فإنه لا أمل له في لقائه بهذه الدنيا. نعم كأسُ الفراق مرٌّ، ولكنْ هذه هي الدنيا، مهما عمَّر الإنسان فيها فمصيره إلى التراب ومفارقةِ الأهل والأصحاب والأحباب.
- نعلم أن آلاف الشعراء كتبوا عبر العصور، لكن التاريخ لا يذكر سوى قلة منهم، ذلكم هم الشعراء الذين امتدت كلماتهم في عمق الأرض، فأينعت ثمرا وزهرا وشمسا، ذلك لأنهم سقوها من رحيق قلوبهم، وعندما يرحل واحد منهم كالطيب العباسي، نحس أن الزمن ليس هو الزمن، وأن الشمس فقدت شعاعا كنا نراه ونستضئ به، لكن الشعاع سرعان ما يعود متوهجا بأشد ما يكون التوهج، لأن الشاعر لم يرحل بعيدا عنا، بل رحل فينا وصار حياة في قلب كل منا، .
- أخي الحبيب الطيب .. القاضي العادل والشاعر الذي لا يشق له غبار، والأهم الخل الوفي بيننا برهة الذكرى.. ونعيد المياه إلى بحرنا ثانية.. هادئا سلسا لامعا كلجة..لماذ تعجلت يا أخي وحبيبي هذا الرحيل المر نحو الأبد.. هذا الرحيل الفجائي نحو قصيدة كونية، تغير حروفها كل حين.. بلغة فخخت أيامنا بسيل من الأسئلة التي لا تنتهي..؟ حتى أنك نسيت أن تهدي لي ديوانك الذي كنت ستعيد طبعه ، وتسألني رأيا فيه..! كنت غافلا عنك.. كنت منشغلا بأشيائي الصغيرة.. لولا أنك إتصلت بي تطلب مني محاولة المجيء ولم تشاء إرادة الله..لمن سأجيء غدا حين أشاء أن أفضي بما في داخلي من هموم وبؤس وحزن كبير.. إذا لم تكن أنت!!..من سيسمعني ؟!ومن سيصغي إلى وجعي وحنيني؟ من سيوبخني على أخطائي الكبيرة والصغيرة.. من سيغضب مني ثم يتصل محاولا استرضائي وهو يشتمني بكل ما أحب وأكره، وهي تخرج من قلبه البريء الأبيض كأنها سلالة اللغة الجديدة في مفردات المديح..! نقية بيضاء من غير سوء.. لماذا ترحل الآن باكرا يا صديقي هكذا قبل أن تبدأ الحكايات موسمها الشتائي..! لماذا؟ لم تترك لنا أية علامة.. كنت هادئا وادعا.. مطمئنا، تضحك وتهيج، من سيجمع لنا ذرات حكاياتك الآتية لكي تكون لائقة بسرد ما.. على لسان ذرب محنك..؟ومن سيجمع لنا غدا ضحكاتك ويرتبها بأناقتها المعهودة، لكي تروي لنا نفسها من جديد..!؟ أيها الحكاء العظيم.. يا من كانت ضحكاته الأنيقة الفارهة تملأ الأمكنة.. ثم تجول في حواف الذاكرة وأنحائها نتفة .. نتفة، كأنها تتفقدها استعدادا لحكاية غريبة آتية؟ حتى وأنت بيننا جسدا وروحا.. كنا نستحضرك بمجرك أن نغادرك من البيت أو تغادرنا من بيتنا!!
- عرفت الطيب العباسي وتعرفت أن جلبابه يتلحف من العمر بعد السبعين سنوات ، كان مشدود القامة ومن جلبابه تنبثق رقبة طويلة ورأس كطير على كتفين ، هذا الرأس مثقل بحمل الكتفين ، قصرت الخطى كى أتأمل من القرن ثلاث أرباعه يمشى في مبتدأ قرن آخر في ألفية ثالثة . كان يتقدمنى في المكان والزمان ولكن بتريث ؛ يستنشق الاكسجين بتؤدة حكيم وينساب في الشارع جاسا الارض متحسسا نبضها : ولدت عند النصف الأول من القرن العشريني العجول حيث كل عشريني عجول. خلته يخالج النيل الساكن عنه في عشية رمضانية ، في ذلك المطلع ، تلفت ؛ هو يغرس القدم الامامية بين شجرتي سرو معمرتين أمام بيت جده لأمه الزبير باشا رحمة الذي كان يقيم فيه بقرية الجيلي ، كان يصعد الرصيف المحشور بينهما أخذا نفسا من هواء نقي، كان مثقلاً بالشعر كما النخلة العالية وجرحها حليب ناصع أبيض في مذاق العسل ، مثقل بالوطن كالكرمة التي تعرش لتقي كل بيت بظلها ، مثقل بالنفس الأبية والنفس اللوامة ، مثقل بهذا كما بمعاش اليوم الصعب . مثقل بالدهر ودبيب الكائنات وشعاع الشمس وبالأمل البعيد . الطيب العباسي قامة إبداعية سامقة تركتنا فجأة وغادرت .. وجع في الصدر ألم به فجأة .. وأخذه بعد زمن قصير فجأة آخر إلى العالم الآخر .. كل عشاق هذا الشاعر ومريديه وأصدقائه ما والوا حتى اليوم يعيشون صدمة الفراق.
أيها الطيب، الطيب إنا لفراقك لمحزونون فمثلك لا ينسى ولا يغطي الران ذكراه.. وإلى اللقاء عند مليك مقتدر حين تحين الآجال ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول :
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد ... أوما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصد من لم يصب ممن ترى بمصيبة؟هذا سبيل لست فيه بأوحد ...فإذا ذكرت محمدا ومصابه فاذكر مصابك بالنبي محمد
ولا أرى الله أحداً مكروهاً في عزيز لديه...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.