رغم كثرة المؤلفات عن تاريخ السودان إلا أن فئة الرقيق أو المنبتون قبليا قد غيبت الدراسات دورها المهم الذي لعبته هذه الفئة في رسم معالم البلاد وتطورها وتشكيل مسارها التاريخي. وقد كان عن قصد تهميش وتشويه دور هذه الفئة المستضعفة والتقليل من دورها الوطني بل طمسه، واقتصار الدراسات والأبحاث علي ما يخدم مصالح أقلام مؤرخي السلطة . وإذا كانت المناهج الدراسية تتكتم عن ذكر ذلك خوفا علي الوحدة الوطنية ، فان تعامل أقلام مؤرخي السلطة مع تاريخ الكتائب السودانية لا يرجع إلا موقفهم السياسي المناوئ لنظام خليفة المهدي وحسب بل بسبب الخلفية الاجتماعية التي احتلها هولاء في المخيلة الجماعية، واغلب عناصر الكتائب السودانية هم أناس لا يمتلكون سلطة ولا حتي إرادتهم في اغلب الأحيان ، وينحدرون من خلفية ادني عن مستوي أولاد البلد لذا إهمالهم وتهميشهم وإلصاق تهمة العمالة مشروعة حسب النظرة الضيقة لبعض مؤرخي السلطة ، ما كان يجب محاكمتهم من خلال وجهة نظر معاصرة لشخصيات عاشت في القرن التاسع عشر حيث غياب مفهوم الوطنية في السودان آنذاك. ولن نكون منصفين في الكشف عن أوضاعهم بعد أن قذفت بهم ظروفهم في المساهمة إلي جانب الجيش الانجليزي المصري في حروبه ضد المهدية، وإذا كان إتقان عملهم العسكري، وانتصارهم علي دولة المهدية في كرري مسالة لا يرقي إليها الشك . في وقت غادر فيه السلطان علي دينار امدرمان ومعه بعض أنصاره إلي دارفور قبيل معركة كرري بساعات معدودة ، منتهزا انشغال الخليفة بالمعركة، مما يؤكد عدم قناعته بالخليفة ولا مبادئ المهدي نفسه ، وعند وصوله الفاشر طرد منها القائد المهدوي أمبدي الرضي من الفاشر إلي غير رجعة ، رغم كل ذلك لم يجرم ، أو يضع السلطان في خانة العمالة أو ارتكاب جريمة الخيانة مثلما تم تجريم الكتائب السودانية . مما يؤكد عدم حيادية اغلب من نطلق عليهم صفة مؤرخ ورؤيته للتاريخ مرتبطة بالسلطة ومن ثم كتابته انطلاقا من موقف الدولة، ولان الكتائب السودانية كانت اغلبها من العناصر المضطهدة ، لذا تبنت موقف معاكس لدولة الخليفة آنذاك ، لذلك فان بعض مؤرخي السلطة الآن وجدوا في تلك الفئات فتنة وتمردا وخيانة ثم ذهبوا لإدانتها وتشبيهها بقطاع الشمال في الحركة الشعبية ، بل أحجموا عن الخوض في تفاصيلها احتقارا لها، واعتبار كل حركة أو فئة تهدد أو تشكل خطر علي الحاكم مسا بقداسة الدين وخروجا عن الجماعة.لذا نجد اهتمام من يدعوا أنهم مؤرخين اهتموا بالسلطة متمثلة في الخليفة لا بالرعايا الذين كانوا تحت حكمها ، رغم أنهم استغلوا استغلالا فظيعا وسخروا في الإعمال الشاقة إلي جانب الإعمال المنزلية دون انقطاع، وبعد كل هذا لم يقوموا بتمرد أو انتفاضة مثلما حدث في ثورة الزنج، بسبب انعزالهم عن بعضهم وعدم تكتلهم في مجموعات،رغم ذلك لم تراع حقوقهم علي الوجه المطلوب رغم أنهم اعتنقوا الإسلام، فكان العديد منهم يورث كما تورث الأملاك ماعدا أذا ترك السيد وصية بتحريره. أو يظل رقيقا برغم ما دعت إليه مبادئ الإسلام، فلم تسقط عنه وصمته ولا استعاد ذاته المسروقة، و كانت الجندية طريق للانعتاق الذاتي والحرية حتي لو كانت شكلية تحت مستعمر أجنبي،لذلك كان انتصار الكتائب السودانية في كرري فرصة لعتق العديد من الرقاب.