الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أدروب : السيرة والمسيرة في دروب متاهات السلام -2- .. بقلم: محمد الحيدرابي
نشر في سودانيل يوم 10 - 10 - 2012


اتفاقية الشرق من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) صدق الله العظيم
الحمد لله الذي ذرأ وبرأ وخلق , الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.أخي القارئ لابد لنا من ولوج دهاليز السياسة ثانية لأن إتفاقية جبهة الشرق أصبحت حديث الساعة بعد الفراغ من مراسم التوقيع فاختلفت الآراء وتباينت وجهات النظر حولها ، بين مؤيد ومعارض ومحلل ولابد لأدروب أن يدلي برأيه حول هذا الحدث ولا بد مما ليس منه بد0 فذلك أمر فرَق الجموع وشتت الأفكار وبدد الآمال رغم إسكاته لقعقعة السلاح فذلك كسب لا بد إنه سامح لنا سماع صوت الأخر لاستدبار معاني الاحتراب واستقبال صوت العقل والجدية لتبادل وجهات النظر فيما اختلفنا حوله من المصالح والحقوق , لأن الضغط يولد الانفجار وما عادت سياسة العصا والجزرة مجدية لأنها إسلوب ممقوت وليس بذي جدوى ، بل معيب لمن إمتلك قيادة السلطة الوطنية ، لأنها اسلوب من اساليب المستعمرين الغاصبين ولا تليق بمن يتسنمون مقاعد القيادة في أوطانهم ويسوسون شعوبهم. والحال كذلك كان لابد لي من أن أعاود الكرة لاستضافة طيف أدروب ثانية لتقييم الوضع بعد أن وضعت الحرب أوزارها، إذ لا ندري أهي معركة ستتبعها معارك أخرى أم أهي نهاية أبدية للحروب والإقتتال وكفى الله المؤمنين القتال0 ولكن الشكوك مازالت تراود البعض و يبدو أن الأمر لا يزال له ضرامًا حسبما تومئ إليه الأصوات التي ترتفع بين الفينة والأخرى مهددة بالنكوص عن السلام على حد قول القائل:
أرى تحت الرماد وميض نار *** و أخشى أن يكون لها ضرام
أم هي اتفاقية سلام وأمن نلج بها ساحات عدل وصدق قوامها الحوار والتفكير بصوت مسموع لتتلاقح الأفكار ونقارع الحجة بالحجة والمنطق ليتم الاتفاق و لو على حد أدنى من الأسس التي تضمن لنا حياة سياسية ترفع فيها مختلف الرايات و الأفكار0 ولا شك أن من سار على الدرب وصل ولو بعد حين، ومن هذا المنطلق اسمحو لي بالإنتقال إلى مضابط اللقاء مع الأخ أدروب في الحوار التالي :
01/ الأخ أدروب : أهلا بك بعد أن وضعت الحرب أوزارها وتم توقيع اتفاقية الشرق , ولكن مازال الواقع يومئ إلى أن أوار الحدث مازال متقداً، فماذا يدور في ذهنك من تواشيح هذا الأمر ؟
*** يسرني أن يجمع بيننا اللقاء ثانية ولكن يبدو أن الأمر قد إنقلب رأساً على عقب لأنك أصبحت أنت المبادر بالملاحقة بعد أن كنت تتحاشى مجرد مقابلتي ولكن لا بأس لأن الواضح ما فاضح , وأنا اتقبل هذا الحوار عن رحابة صدر وأتمنى أن تلتزم أنت و تتولى مهمة نقله إلى القارئ دون تعديل أو تدليس , إذ من واجبه علينا إعطاءه الحقيقة كاملة ، لأنه لا يتيسر للمرء فهم الأحداث على حقيقتها إلا على ضوء تلك المعلومات التي تجتمع لديه بعد سماع مختلف الآراء ، وهي حكمة ندخرها ليوم قادم لا محاله وهو يوم الانتخابات التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى .
أما بالنسبة لاتفاقية الشرق أقول : يا فرحة ما تمت !! وكان عشمنا فيها أكثر من ذلك بكثير ولكنها سمة مميزة لواقع الإنسان الذي يسعى لتحقيق مصالحه الدنيوية على حد قول القائل :
هي الحياة كما شاهدتها دول *** من سره زمن ساءته أزمان
ففي واقع الأمر الإتفاقية لم يبق منها إلا اسمها ، وعلى أقل تقدير في وجهة نظري فالسلام كلمة رنانة تتوق الأذن إلى سماعها في كل حين . وكما لا يخفى على القارئ الحصيف هي اسم من أسماء الله الحسنى وهي كلمة ترددها الألسن المؤمنة آناء الليل وأطراف النهار ، ولنا أسوة في رسول الله وتلهج الألسن بترديدها إقتداءاً بتوسله و دعائه : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام 000 ) . بل هي تتمثل أمامنا من خلال موقف أمنا خديجة رضي الله عنها وأرضاها عندما حمل إليها رسول السلام -جبريل- رسالة السلام من المولى عز وجل إلى الصادق الأمين ، فنما إلى علمها أن الله يقرؤها السلام من فوق سبع سماوات طباقاً , فردت بإسلوب غاية في الأدب إذ قالت: ( هو السلام ومنه السلام وإليه يرجع السلام ) وإقتداءً بهذا الموقف , فالسلام بالنسبة لنا انتقل بنا من قالب وميض النار إلى شعلة مضيئة بدأت تلوح لنا من نهاية النفق ونسأله تعالي أن يعمنا بإشراقها في القريب العاجل إن شاء الله . وعلاوة على ذلك عزاؤنا الوحيد فيها قوله تعالى : ( و إ ن جنحوا للسلم فاجنح لها 000) وهي في واقع الأمر دعوة للانتقال من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر لما روى عنه صلى الله عليه وسلم وهو عائد من إحدى الغزوات قوله : ( عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) وهي للمتمعن فيها بروية وبعد نظر " حديبية" الملامح وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ونسأله تعالى أن يحقق لنا منها آمالاً عراضاً تحملنا إلى سالف عهدنا في الحرص على الإلتزام بسوداننا الموحد .
02/ حسناً فعلت , ولكني بدأت أستشف من ردك الجنوح إلى السلام وهو أمر يختلف فيه معك الكثيرون لأنهم يرون أن سنين الحرب كانت مضيعة للوقت وإنها ضاعت سدىً ولم يجنوا منها أي فائدة تذكر، فما هو ردك على هؤلاء ؟
*** لاشك إنك توافقني بأن الحرب ذميمة وسالت من جرائها دماء طاهرة من أبناء الوطن ولكنها مهر غال للحرية ودفع الظلم متى ما اقتضى الأمر ذلك كما قال القائل :
وللحرية الحمراء باب *** بكل يد مضرجة تدق
أقول لهؤلاء الأخوة من رفاق الأسنة والرماح فالحرب كر وفر وإقدام وتراجع ، فلندع أسلوب جلد الذات جانباً ونحكَم عقولنا لأن الحرب في واقع الأمر لم تكن هدفاً وغاية في حد ذاتها ، وإنما كانت وسيلة لتحقيق المطالب ووقوفها يفسح المجال أمامنا واسعاً لتحقيق ما نصبوا إليه من مطالب وكما يقولون : ( دق الباب مرة بعد مرة تلج ) وأطمئنهم بأنه لا يضيع حق وراءه مطالب وإن ألقى السلاح 0 إذن فلا بدأ للنفوس أن تهدأ ويجب ألا نجعل اليأس يتسرب إليها وأن نصبح أكثر حرصاً من ذي قبل على تحقيق الغايات التي من أجلها حملنا السلاح ، وأن نبدأ بتوحيد أفكارنا وجمع شتاتنا ولملمة أطرافنا– في الداخل والخارج - تحت راية الجهاد الأكبر وهي الانتخابات المرتقبة التي تكرم فيها الأحزاب أو تهان ولابد من إعداد العدة لها بالصبر والتريث وتوحيد الصفوف .
03/ عجباً ! أراك تميل إلى التلميح دون التصريح وقد لا يشفي ذلك غليل الكثيرين ممن حملوا السلاح فهلا وضحت لنا وجهة نظرك صراحة ليكون في ردك ما يقنعهم و يردهم عن الاستسلام لليأس ؟
*** هون عليك أراك هذه المرة تبدو وكأنك تريد رد الصاع صاعين , ولكن لن يحرجني أسلوبك وستكون الصراحة ديدن إجاباتي , التي أرجوا أن تعلم إنها أبعد ما تكون من التربيت على الكتوف وتهدئة البال بالأساليب العاطفية بما لا طائل من وراءه من الحديث المنمق ودعني أستميحهم العذر بقولي: دعونا نعود بالقضية إلى ركزها الأول ( أي المربع الأول ) من اكتوبر عام 1958 وهي بضاعتنا ولا بد أن نحرص على استردادها بكل ما أوتينا من قوة . ويحسب عدد غير قليل من شبابنا أن تكوين حزب مؤتمر البجا أصبح حدثاً موغلاً في القدم ويعزى ذلك إلى أن رؤوس الكثيرين منهم لم تر الشمس حينذاك ،بل ولم تطمح نفوسهم إلى استقراء تأريخ وطنهم و من ليس له تأريخ فليس له مستقبل ولابد لتأريخ حزب مؤتمر البجا أن تعود شعلته الميمونة إلى فكر وذاكرة الأجيال الحديثة لأن التأريخ مرتكز التجارب والممارسات العملية ومكمن العظات والعبر و تصاغ عبره استراتيجيات التطور والتنمية لبناء المستقبل الزاهر .
فعام 1958م محطة رئيسية تعكس نضج أبناء البجا وسمة مميزة للتوشح بالسلوك الحضاري حيث فسح فيه المجال للمثقفين والمتعلمين والمفكرين لتقدم الصفوف كنتيجة طبيعية لإستلهام العبرة من العهود السابقة التي تميزت في سابق حياتها بالاحتراب والإقتتال لأتفه الأسباب فحتم ذلك بالضرورة الإحتكام إلى صوت العقل فأحسنوا التخطيط والتنظيم وانتزعوا احترام الآخرين بالسلوك الحسن والمنطق القويم فوجهت الدعوة إلى كافة فئات الشعب السوداني بدءاً برئاسة مجلس الوزراء ممثلاً في سعادة اللواء عبدالله خليل ( حزب أمة ) ومروراً بسعادة وزير الداخليه السيد على عبدالرحمن ( وطني اتحادي ) وبحضور إعلامي مكثف متمثلاًً في صحف الأيام والعلم والزمان . فكان المؤتمر مثار إعجاب و دهشة للجميع بل ومبعث رهبة لدى قيادات الأحزاب التي رأت فيه وميضاً من تحت النار فلجأت طائفة منهم إلى تسليم السلطة إلى الفريق إبراهيم عبود ليكفيهم شرالمارد الذي خرج عليهم من قمقم السياسة وخشوا أن يسحب من تحت أرجلهم البساط الجماهيري فقضي الأمر بليل . ويكفي هذا المؤتمر إنه تلقى العديد من برقيات التهنئة من الداخل والخارج بل وتكفيه شرفاً برقية الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر الذي كانت مدينة بورتسودان إحدى المحطات التي تلقى فيها تدريبه العسكري تحت قيادة المستعمر البريطاني فأبت عليه مشاعره إلا أن يتفضل مشكوراً مأجوراً في ارسال برقية التهاني لشد أزر أبناء البجا ولعلها سياسة دبلوماسية لرد الجميل للوفد البورتسوداني الذي شد الرحال إلى قاهرة المعز تهنئة لشعبها بنجاح ثورته ، وهو وفد قاد ركبه كل من محمد أحمد النيل وبامكار محمد عبدالله وأبوعلي مجذوب وآخرون و ما جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
وإن أنسى لا أنسى ذكر سعادة السيد أحمد السيد حمد زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي حيث قال عندما انتهج حزبه أسلوب الترييس والتتييس وذلك عندما تمت الموافقة على إختيار دكتور طه عثمان بلية رئيساً لحزب الاتحادي الديمقراطي ولكن السادة عزت عليهم الموافقة على قبوله مرشحاً للاتحادي الديمقراطي فرشحوا معه من نفس الحزب السيد محمد أحمد النيل ففاز عليه في انتخابات دوائر بورتسودان فكانت تلك القشة التي قصمت ظهر بعير الاتحاد الديمقراطي لأن ردة الفعل لم تكن في الحسبان ، فكانت البداية في الشروع العملي لتكوين حزب مؤتمر البجا لأنهم لم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد 0 وعندها قال طيب الذكر : ( لن يتكرر هذا الخطأ ثانية لأننا بذلك فقدنا قاعدة عريضة من جماهير الحزب ) فالإعتراف بالذنب فضيلة ، فجزاه الله عنا خير الجزاء حياً وميتاً . ولكن على الرغم من ذلك أعاد التأريخ نفسه فتكرر نفس الخطأ بعد مضي قرابة نصف القرن من الزمان وفي إطار المظلة الجامعة لأحزاب المعارضة ( التجمع الوطني ) إذ قال رئيسه السيد محمد عثمان الميرغني لقيادة مؤتمر البجا : (أنتم لا تمثلون الشرق ) فما كان منهم إلا الإنسحاب من تحت عباءة ( التجمع الوطني ) ولسان حالهم يردد المقولة الشهيرة ( رضينا بالهم والهم ما راضي بينا ) .
04/ لا بأس بذلك , ولكني بدأت أحس أن هموم الانتخابات بدأ تلهب أعصابك – إن صدق حدسي بذلك - فأرجو أن تعود بنا إلى ذكر تاريخ تكوين مؤتمر البجا وخاصة كانت لديك إشارة سابقة إلى أنه من أوائل الاحزاب السودانية التي تكونت بعد الاستقلال فهل لك أن تتحف القاري بكشف النقاب عن ذلك ؟
*** للأجابة على ذلك يتحتم علينا بالضرورة وضع النقاط فوق الحروف للتفريق بين "نادي البجا " و " حزب مؤتمر البجا " فتأسيس النادي سابق لتأسيس الحزب واللافتة المثبتة على واجهة النادي اليوم تشير إلى أن تأسيسه يعود إلى عام 1950م وقد دفع رسوم القطعة التي بني عليها اللواء أحمد عبد الوهاب وتلك حقيقة ثابتة لا مراء فيها. كان ذلك مما يراود فكر المثقفين بين الحين والآخر إعتباراً بالتجارب التي عركتهم وعركوها في سبيل إيجاد موطئ قدم لهم في الساحة السياسية ، بل هي من إيحاءات طبقة المثقفين من أبناء البجا الذين إبتعثتهم الدولة إلى عاصمة الضباب لنيل الدراسات العليا في تخصصاتهم المختلفة فعاصروا اتحادات الطلبة العرب والأعمال الجماعية فراغت لهم الفكرة وأحسوا بضرورة تطبيقها بين أبناء عمومتهم بعد العودة ، وعند ما جاءت الفرصة المواتية إغتنموها على جناح السرعة. ومن طريف ما يمكن ذكره في هذا الصدد كان أثاث نادي البجا عبارة عن برش متواضع من الإنتاج المحلي ، فإسلوب الهمز واللمز أوحى لمحترفي السياسة تسميته ب ( نادي البرش ) أما الآن فهو صرح ممرد ولو جيئ بلقيس ثانية لكشفت عن ساقيها0 أما مسقط رأسه كان في بيت متواضع تبرع به - طيب الذكر-السيد الحاج الأمين وتبرع آخرون بما تيسر لهم من الأثاثات ، واستضيف فيه السيد زيادة أرباب وزير النقل والمواصلات في إحدى زياراته لبورتسودان فاستضافوه في ناديهم وتقدموا إليه ببعض المطالب التي كان تتوق أنفسهم لتحقيقها .
أما تأسيس الحزب مر بمخاض طويل وجاءت فكرته متأخرة ونتيجة لتجارب وممارسات ومعايشات للسلوكيات السياسة حين ذاك ، لأن الغالبية العظمى من البجا ختميون حتى النخاع وهو أمر ورثوه أباً عن جد، وعلى ضوء ذلك هم دوماً رهن الإشارة لتوجيهات الحزب0 ولكن حتمية التطور جعلت المثقفين على النقيض من آبائئهم في التعامل مع الحزب فأصبحوا ينظرون إليه بزاوية مختلفة ويعتبرون علاقتهم به لابد أن تكون على قدم المساواة مع بقية أعضاء الحزب من حيث الحقوق والواجبات وألا تكون تبعية عمياء تسيَر بها أمورهم دون مشورتهم. فأعلنوا ذلك صراحة وطالبوا أن يفسح الطريق أمامهم لتولي مناصب قيادية في الحزب تتناسب وقاعدتهم الجماهيرية العريضة وإلا سيضطرون إلى تكوين حزب منفصل يضمن لهم التمتع بالإمتيازات كبقية الأعضاء. وإمتصاصاً لهذه الغضبة العارمة تم إختيار الدكتور طه عثمان بلية رئيساً للحزب، ولكن أول تجربة عملية أكدت لهم – بما لا يدع مجالاً للشك – أن التبعية الحزبية لن تحقق لهم شيئاً فعادوا إلى الفكرة التي ظلت تراود فكرهم منذ عام 1954م وهي تكوين حزب منفصل لإتقاء السير في الزفة السياسية كالأطرش ، فعمدوا إلى تكوينة بالطريقة سالفة الذكر فصعب على الحزبيين تحمل ذلك فجاشت في أنفسهم سموم المكر و المكيدة فقضي الأمر بليل وقلبت عليهم الطاولة وذلك بتسليم مقاليد الحكم لأول حكم شمولي أعلنه الفريق إبراهيم عبود في السابع عشر من نوفمبر عام 1958 والذي أزالتة ثورة الحادي والعشرين من إكتوبر عام 1964م فأصبحت الفرصة مواتية لخوضهم الإنتخابات التي أحرزوا فيها أحد عشر مقعداً فكانت فرحتهم لا توصف لأن جهودهم كللت بالنجاح المؤزر. وفي البرلمان وعدهم حزب الأمة أن يفرد لهم وزارة خدمية للشرق إذا آزروهم في مواقفهم ضد سياسات الوطني الإتحادي وأخفق في الوفاء بوعده لإعتراض الطرف الآخر على ذلك.
05/ حديثك عن تكوين حزب مؤتمر البجا مشوق فهلا سلطت بعض الأضواء على الأهداف المعلنة وأسماء بعض المشاركين وبعض الذين تولوا مهمة تقديم البحوث والدراسات المقدمة كحلول للمشاكل التي كانوا يعانون منها.
***كان الإحتفال جامعاً كما أسلفنا وحضره لفيف من الوزراء والوجهاء والنظار والعمد هذا علاوة على أرباب وأساطين السلطة الرابعة ممثلاً بثلاث صحف يومية ، وقد تم تقديم العديد من البحوث نذكر منها -على سبيل التمثيل لا الحصر- مجالات الصحة والتعليم والمواصلات والثروة الحيوانية والمعادن والوحدة والتضامن وسبل تطوير الإنسان البجاوي. هذا وقد تلخصت روعة اللقاء في القصيدة العصماء التي ألقاها الشاعر البجاوي الدكتور محمد عثمان الجرتلي وهي أشبه ما تكون بالمعلقات الجاهلية وقوامها ستون بيتاً يعكس فيها بالتفصيل الممل قضية البجا ولو لم يقدم غيرها يومذاك لكفتهم عناء البحث والشرح، ومما ورد فيها قوله:
فتحية من شاعر ومواطن *** شرفتموه بذلك الحفل الندي شرفتموه
يوم جمع صفكم *** وتوحدت آراؤكم في موعد
ضموا ووحدوا آراءكم *** لاخيرفي ذي الرأي غيرموحد
إنا نطالب الصفوف حقنا من أهلنا *** وبني عمومتنا كرام المحتد
سوداننا تفديه كل قلوبنا *** يوم الردى جل الفدى والمفتدي
06/ ماذكرته عن المؤتمر يوضح إنه كان محكم الترتيب والتنظيم وهذا مدعاة للسؤال عن ردود الفعل التي ترتبت على إنعقاده فماذا تريد أن توضح لنا عن ذلك؟
*** الحقيقة التي كانت ماثلة أمام الجميع أكدت أن حزب مؤتمر البجا ولد بأسنانه - كما يقولون - لأنه أدهش الحضور بحسن الإعداد ووضوح الرؤى والأهداف وعلى رأس هؤلاء رؤساء تحرير الصحف الذين أخذوا على عاتقهم تحليل ومناقشة ونقد البحوث المقدمة وكان ذلك مؤسساً على النصح والترشيد بما يضمن تحقيق تلك المطالب في إطار السودان الموحد.
وأما أهداف المؤتمر يمكن إقتباسها من الخطاب الذي ألقاه الدكتور عثمان طه بليه في قوله : ( 000 وإنما غايتنا أن نضع صورة صادقة لما نحس به وأن نبسط لكم و للرأي العام السوداني قضيتنا ومطالبنا 000 ) ومما جاء في كلمة السكرتيرالعام للحزب قوله : ( 000فكانت تلك الليلة الشعبية التي أقمناها في نفس هذه البقعة، في اليوم السابع من شهر يونيو عام 1957م، والتي شرحنا فيها مشاكلنا ، ووضعناها في عرائض وقدمناها إلى كل مسئول في البلد، فلم نجد لها اثراً حتى يومنا هذا 000) لقد حدث كل ذلك في مؤتمر مضى على إنعقاده نصف قرن من الزمان وما زالت المطالب تراوح مكانها وكأننا نحرث في البحر. وتجدر الإشارة هنا إلى إنه كان من الإستراتيجيات المعتمدة لحل بعض مشاكل عدم الإستقرار بناء خزان خشم القربة لتوطين البجا عندما فتكت بهم مجاعة عام 1948م ليتم بناءه عام 1950م ولكن إتفاقية السد العالي جعلتة من نصيب الإخوة المهجرين من أبناء حلفا ( فأتت الرياح بما لا تشتهي السفن )
07/ حسب ما ذكرت كل الدلائل تشير إلى أن نقطة الإنطلاق كانت موفقة وناجحة بكل المقاييس ولكن بعد إعلان الحكم الشمولي الذي ترأسه الفريق عبود أما خبت جذوة الحزب كغيره من الأحزاب التي كانت في الساحة وهل تلت ذلك تجربة عملية فسحت له المجال في دخول المعترك السياسي؟
***نعم إنتهى إنعقاد المؤتمر تحديداً في الثالث عشر من إكتوبر عام 1958م وفي السابع عشر من نوفمبر نفس العام أطل الحكم الشمولي الأول برأسه دون سابق إنذار وذلك مما بدد الآمال وأورث الحزن العميق على الجهود التي ذهبت هباءأً منثوراً فعشنا في ظله سبعاً عجافاً حتي إنقشعت سحابته فجر ثورة الحادي والعشرين من إكتوبر عام 1964م فكانت عودة الروح في فترة الديمقراطية الثانية فأجريت الإنتخابات عام 1968م فكانت تجربة عملية رائعة جندت من خلالها كل الطاقات وانتظمت جميع أرجاء الشرق الندوات والليالي السياسية تحت قيادة موحدة متخطين بذلك كل العقبات التي كان من الممكن أن تعيق طريقهم فكلل هذا المسعى بإدخال أحد عشر نائباً إلى البرلمان فعمت الفرحة الجميع وإنشرحت الصدور دون أن نعلم بما كانت تخبئه لنا الأقدار إذ داهمنا – بغتة - الحكم الشمولي الثاني في الخامس والعشرين من مايو عام 1969م واستمر الحال على ذلك إلى حين إنبعاث الديمقراطية الثالثة في الخامس من أبريل عام 1985م التي إنقض عليها الحكم الشمولي الثالث - ولا شك إنه ثالثة الأثافي – وكان ذلك في الثلاثين من يونيو عام 1989م ، فالمستجير بعمرو عند عسرته كالمستجير من الرمضاء بالنار وقدر الله وما شاء فعل. وها نحن نفاجأ الآن بأصوات نشاذ تتعالى وتقول لن يسجل مؤتمر البجا كحزب وسوف يستبدل بحزب جبهة الشرق . ونقول لهم : كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ، ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون ولن يكون لكم ماتخيرون ، ونذكركم وأنفسنا بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء فالحذر الحذر من ذلك وسيعلم الظالمون أي منقلب سينقلبون ، ولا عذر لمن أنذر وإن غداً لناظره لقريب وإنا معكم منتظرون.
08/ أخي أدروب: فلنعد إلى جبهة الشرق ماذا ستذكرون للقارئ عن تفاصيل حيثياتها ، وما موقفكم من سعادة المستشار موسى محمد أحمد الذي قاد كفاحكم المسلح قرابة العقد والنصف؟
*** في تقديرنا إنه يتصف بالعديد من صفات القيادة من تأني وصبر وتِؤدة وحكمة – ولا نزكي على الله أحد – ونحسب إنه تكبد ما تكبد من متاعب في سبيل قضية إقتنع بها لتحقيق مطالب عادلة لبني عمومته وأجره في ذلك على الله وثقتنا فيه مازالت في الحفظ والصون وهذا أقل القليل مما يمكن أن نكافئه به وما زال عشمنا في الله كبير ونأمل أن تتحقق على يديه العديد من المطالب قبل أن تبتلعه دهاليز القصر الجمهوري كما فعلت بسابقيه . ونحن الآن نسميه (حبيس القصرين ) إذ حبس في أريتريا قرابة العام بعد توقيع الإتفاقية حتى تم الفراغ من الملفات المختلف عليها بين الحكومتين وها هو الآن في القصر الجمهوري ولايستطيع أن يتنبأ بما سيحدث له وسيمكث في الحبس الصوري حتى تفك أسره الإنتخابات القادمة0 ومما لا شك فيه هو في حيرة من أمره ولا يدري إلي أين ستسوقه الخطوة التالية، أما نحن ما زلنا على العهد الذي ألزمنا به أنفسنا أمام جماهيرنا الأبية منذ عام 1958م للنهوض بإنسان الشرق الذي بلغ به التهميش إلى مدىً بعيد وسنسعى جاهدين إلى البلوغ به لتلك الغايات والأهداف التي سبق إعلانها منذ نصف قرن مضى من الزمان كما أسلفنا ذلك في الإجابات السابقة لأننا اليوم أكثر إيماناً بالمثل القائل :
ما حك جلدك مثل ظفرك *** فتول أنت جميع أمرك
و لابد لنا من الإتعاظ بالتجارب السابقة حتى لا نلدغ من الجحر مرتين0
09/ ولكن هل هنالك محاولات جادة ومساعي حقيقية لإنزال بنود الإتفاقية على أرض الواقع ، أم مازالت تراوح مكانها رغم مضي قرابة ما يربو على العامين منذ توقيعها ؟
*** أقول بصدق والحق يقال كنت فيما مضى من الماضي القريب أقرأ أخبار ذلك الحدث في مرآة الصحافة اليومية والفضائيات التي لا تند عنها الأحداث مهما بعدت مواقعها وإن كانت لاتشفي الغليل0 أما الآن أستطيع أن أقول : ( رب صدفة خير من موعد ) فمحض الصدفة ساقتني في مأمورية عاجلة إلى ثغرنا الحبيب بعد غيبة طويلة فتذكرت المثل القائل : ( ليس راءٍ كمن سمع ) فالتقيت بالأهل والأحباب والإخوة والأصدقاء فكان ذلك مما أشجاني وأغراني في التفكير بصورة جدية في شد رحال العودة إلي حضن الوطن ، وإن كنت قد خرجت مغاضباً لأسباب لايتسع المجال لذكرها فذكرني ذلك الموقف بيتاً شجياً من الشعر ألا وهو :
لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها *** ولكن أخلاق الرجال تضيق
فانهالت على الذاكرة العديد من التبريرات والأعذار التي طمأنتني على إتخاذ قراري السابق في الهجرة ومنها الحكمة القائلة : ( وطنك حيث ترزق ، لا حيث تولد ) فمهما يكن من أمر في هذا الصدد دعنا نعود بالقارئ للحديث عن فحوى الصدفة سالفة الذكر0 فهي في واقع الأمر صدفة جميلة سنحت لي حضور زيارة سعادة مستشار الرئيس موسى محمد أحمد إلى بورتسودان في العشرين من أكتوبر 2007 حيث أقيمت في ذلك المساء ندوة سياسية بقاعة السلام لإلقاء بعض الأضواء على إتفاقية الشرق0
10/ أخي أدروب لا شك حديثك عن هذه الصدفة يجعل القارئ يتحرق شوقاً للإطلاع على ما دار في تلك الندوة الأكتوبرية بإعتبارك شاهدعيان فأرجو أن تعكس لنا ما دار فيها من حديث وتوضح لنا الإنطباعات التي علقت بذهنك منها0
*** كما لا يخفى عليك هذا مما يحتمه علينا شرف المهنة ، ومما يمكن أن يقال عنها إنها كانت ليلة ليلاء بكل ما تحمله الكلمة من معنى0 بدأها سعادة الوالي محمد طاهر إيلا والي ولاية البحر الأحمر بالترحيب بمقدمه ومن برفقته من ممثلي جبهة الشرق الذين أخليت لهم المقاعد المخصصة لهم في البرلمان ومن ثم فسح له المجال ليخاطب جماهيره بعد طول غياب وصدق من قال :
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما *** يظنّان كل الظن ألا تلاقيا
فرحب سعادة المستشار بجماهيره ووضح أنه يلتقي بهم دون أن تكون بين يديه مشاريع وإنجازات محققة لأن تنفيذ الإتفاقية مازال في بداياته وأكد إنه هنالك إرهاصات واعدة إذا ما نفذت سيتحقق قدراً لابأس به من المطالب0 ومن ثم أعقبه في الحديث ثلاثة من الوفد المرافق له بإلقاء بعض الأضواء - بصورة عاجلة – على ثلاثة من ملفات الإتفاقية، ومن إيجابيات ما ذكر في ملف الأمن إنه تم تحديد سقف لإستيعاب عدد معين من حملة السلاح ضمن القوات النظامية وأكد المتحدث عن ذلك الملف أن ردة الفعل من الذين لم يشملهم الإستيعاب كانت جد سريعة إذ عمدوا إلى حمل أسلحتهم ومغادرة المعسكر على جناح السرعة فأحس القائمون بالأمر بخطورة الموقف فأنقذهم قرار جمهوري عاجل من سعادة السيد رئيس المجمهورية يقضي بتعيين جميع حملة السلاح دون إستثناء فعادت المياه إلى مجاريها، و لا شك أن تلك خطوة إيجابية يجب أن تعقبها خطوات أكثر إيجابية في الملفات الأخري0
11/ حسناً ولكن هذا الذي ذكرت جميل ويعكس الجانب الرسمي من القضية ولا بد لنا من التعرف على الجانب الجماهيري لتكتمل الصورة أمام القارئ فكيف تصف لنا موقف الجانب الآخر وتعكس لنا حقيقة موقفه من تلك الإتفاقية ؟
*** أحسب أن الأمرما زال في بداياته كما ذكر سعادة المستشار، وإذا صرفنا النظر عن تفاصيل ما ذكر من أحاديث في تلك الندوة فهي في حد ذاتها عكست جانباً إيجابياً في معالجة قضية الحرية في التعبير عن الرأي دون خوف أو تهيب من الإعتقال من جراء عكس وجهة النظر التي يعبر عنها المتحدث0 وهنا أستطيع أن أقول رأيت وسمعت كل ما قيل من طرفي النزاع –حكومة ومعارضة- فشممت رائحة الحرية التي كانت تفوح من قاعة السلام وكان ختامها مسكاً و بمثل ذلك فاليتنافس المتنافسون و المتصارعون على الحلبة السياسية0
ومن ناحية أخرى قادتني أشواقي الزائدة إلى موقع مدرسة المنار الثانوية التي كانت خامس المدارس القومية في السودان والتي كانت تستقبل طلبتها من جميع أنحاء السودان فإذا بها قد تحولت إلى محراب من محاريب التعليم العالي وهي جامعة البحر الأحمر فسعدت أيما سعادة عندما وجدت بعض السابقين من طلبتها أساتذة فيها وهم يقودون الشباب إلى المعالي العلمية التي لا تتقدم بغيرها الأمم الناهضة0 ومربط الفرس هنا في ذكر تلك الذكريات العطرة ما سمعته من بعض أساتذتها حيث عبروا لي عن إعجابهم بما سمعوه من البروفيسور حسن علي الساعوري مدير جامعة النيلين أثناء زيارته إلى جامعتهم مؤخراً حيث تحدث لهم عن نظرية سياسية راق له أن يسميها ( توطين الوظائف ) ومحور دعوته إليها يتلخص في إعطاء الأسبقية القصوى لأبناء كل منطقة لأن أهل مكة أدرى بشعابها وأقدر على تطوير منطقتهم والنهوض بها كلبنة متينة في بناء صرح الوطن الموحد0 وإنطلاقاً من معرفتي به كأحد أساطين العلوم السياسية لا يسعني إلا أن أحمد له هذا التوجه وأتمنى أن يتبع القول بالفعل وما أحسب ذلك بالأمر السهل تحت المظلة السياسية ، وعلى أقل تقدير فهو في نظري مثل للرجل الذي يمكن أن يهدي الساسة وإن تفرقت بهم السبل ومزقتهم كل ممزق فنظريته ورؤيته هذه طوق من أطواق النجاة الحكيمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الغرقى السياسيين والإداريين الذين يصعرون خدودهم للجماهير ولا يدخرون لحل مشاكلهم سوى الردع والبطش0 ومما لفت إنتباهي في الجامعة حرص مجلس أساتذتها الموقر الذي تلخص في إهتمامه بتراث المنطقة بإتخاذ قرارلإنشاء نواة مركز تحت مسمى ( مركز أبحاث الثقافة البجاوية ) و لا يفوتني في هذا الصدد أن أذكر الدعم السخي المقدم من هيئة المواني البحرية لبناء المركز0 وفوق هذا وذاك تشرفت بزيارة نادي البجا ومما إسترعى إنتباهي النشاطات المتعددة التي يعج بها وعلى رأسها لجنة بعث ( صندوق تعليم البجا ) الذي يعود تأسيسه لعام 1920م وشارك في ذلك كل من السيد سعيد القدال والسيد شريف المليك وكان ذلك لدرء أسباب التسرب التعليمي الذي بدأ يطال حتى طلبة التعليم العالي فأنعم به من نشاط فلا عمل بلا علم فهو في حقيقة أمره كما قيل عنه :
العلم يرفع بيتاً لا عماد له *** والجهل يهدم بيت العز والشرف
أما حافظ إبراهيم يلفت الإنتباه لتعليم فئة مهمة في المجتمع ألا وهي المرأة إذ يقول :
الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيب الأعراق
فهذة بعض الوقفات مما يمكن ذكره من تلك الزيارة وأمل أن يفسح المجال أمامي لتناول ما يدور في النقاشات والندوات التي تعقد خصيصاً لإلقاء الضوء على تفاصيل الإتفاقية0
12/ الأخ أدروب : يبدو أن الزيارة العابرة رغم قصرها تركت في نفسك إنطباعات جمة ، فأسمح لي أن أعبر لك عن إعجابي بمتابعتك الدقيقة لمجريات الأحداث المتوالية في شرق السودان وأرجو أن تداوم على ذلك0 فهل من كلمة أخيرة تختم بها هذا اللقاء ؟
*** نعم تحضرني حكمة أرجو أن يشاركني الإخوة القراء في التفكر فيها وهي قول الشاعر :
ما مضى فات والمؤمل غيب *** ولك الساعة التي أنت فيها
في واقع الأمر هي خطا كتبت علينا ومن كتبت عليه خطاً مشاها بل دوام الحال من المحال وعليه أبدأ بنفسي وببقية الإخوة المنتشرين بأوطان المهجر وأقول لهم بدأت مسيرة السلامً ولابد من مد يد العون لإخوتنا بالداخل لأنهم – وإن إختلفت آراؤهم- يهدفون إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب من أجواء السلام المتاحة للعودة بالقضية إلى تجربتها الأولى من التوحد والتكاتف وهذا لايحيل بيننا وبين التفاكر والتحاور وصولاً إلى وحدة الصف بإعتباره الإسلوب الأمثل لإعداد العدة لمجابهة الإنتخابات المقبلة وكما يقولون : ( قبل الرماء تملأ الكنائن ) و(إيد على إيد تجدع بعيد ) ولابد أن نتذكر أن المعترك السياسي أمواجه متلاطمة وعمقه سحيق ولا تنال مكاسبه بالقيل والقال وكثرة السؤال ولا بالجدل والثرثرة بل بالتشمير عن ساعد الجد وشد الأحزمة على البطون 0 فماذا نحن فاعلون حتي لا نستبين النصح ضحى الغد فنخرج من مولد السلام من غير حمص0وخلاصة القول أن نردد قول شاعرنا الدكتور محمد عثمان الجرتلي حيث يقول :
سوداننا تفديه كل قلوبنا *** يوم الردى جل الفدى والمفتدي
إنا لنهوى أن نراه مخلداً *** يختال فخراً فوق هام الفرقد
ونرى بنيه الفاضلين تبوأوا *** في عالم الأحرار أحسن مقعد
وإلى لقاء تحت دوحة المحبة والمودة والإخاء في حضن الوطن الموحد0
محمد أحمد الحيدرابي
دافع الضرائب
سونا سابقاً
ج/0508243556


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.