منذ بواكير حكم الإنقاذ لوحظت بوادر تغيّرات سلبية تجد طريقها على استحياء في منعرجات ودهاليز المجتمع السوداني، وتماثل إلى حدٍ كبير مراحل مرض السرطان الذي يتسلل ببطءٍ ونعومة فلا يفطن اليه المريض إلا بعد فوات الأوان. والآن تلك المتغيرات السلبية قد نمت وترعرعت وتحولت إلى غولٍ مخيف جثم بكل ثقله على صدر المجتمع فأشله وأقعده وتركه عاطلاً من كل فضيلةٍ وجرّده من كل القيم والموروثات الجميلة التي كانت سمةً من سماته وتميز بها على غيره من المجتمعات. أقول قولي هذا وقد عدت إلى السودان بعد غيابٍ دام عامين ونصف العام لأشهد بأم عيني هذه الحقبة السوداء من تاريخ أمتنا حيث يُرى أولئك الرجال الكبار العظام من موظفين وأرباب معاشات يُطأطئون الهامات أمام المساجد ودور العبادة، يطوون بين أصابعهم وريقاتٍ قد أراقوا كرامتهم حبراً بين سطورها..."عليّ متأخرات إيجار شهرين لصاحب البيت"... "رسوم مدارس الأولاد ماعارف أجيبها من وين" .. "زوجتي محتاجة تعمل عملية ما عندي حق العملية ولا حق رقاد المستشفى"..إلى آخر تلك المطالب التي لا تقبل التأجيل. ذات المشهد يتكرر يومياً أمام منزل أحد كبار المسؤولين في ذلك الحي الراقي فتراهم يتسابقون عند رؤيته خارجاً أملاً في بضع دريهمات يقلن عثرةً من بين عثرات. إنني عندما أتعرض لتلك المشاهد الدامية لا أرمي من وراء ذلك إلى التشهير بتلك الفئة فأولئك التعساء لم يجدوا أمامهم غير تلك الوسيلة لحل معضلاتهم الحياتية بعد أن عجزت حكومتهم وتقاعست عن حلها، أو بمعنى أدق بعد أن رأت حكومتهم أن مصلحتها تقتضي إنفاق أموالها على أهل الحظوة من المحاسيب والمريدين والمؤيدين ممن يشكلون ضماناً لبقائها وليذهب أولئك البؤساء ومن أفنوا سنوات عمرهم في خدمة الوطن إلى الجحيم. وفي هذا أقول حتى ولو ذهبت الإنقاذ غير مأسوفٍ عليها وأمطرت سماؤنا ذهباً وبترولاً وياقوتاً وزمرداً فلن نستطيع أن نغيّر من ثقافة الفساد التي أصبحت واقعاً متجذراً في المجتمع.. تلك الثقافة نفسها هى التي أفرخت ذلك الوضع المأساوي والذي تأذى من جرائه أولئك النفر الكرام الذين كانوا في يومٍ من الأيام على قمة الهرم الاجتماعي. أما إذا أردنا أن نعيد للمجتمع كل ما سلبته إياه حكومة الإنقاذ من مبادئ وفضائل خلال تلك الفترة البغيضة التي تولت فيها أمر البلاد والعباد، فذلك يتطلب منا الاستعانة بلمسة الملك "ميداس" السحرية . على أن تلك اللمسة السحرية أيضاً للأسف لا وجود لها سوى في لغة الأساطير.