لقد كان شاعرنا الثورى هاشم صديق واقعيا عندما استهل قصيدته الحماسية الأخيرة بالتوكل على الله، فى مطلعها الذى يقول " اتوكلت عليك يا الله بكره بنمرق كلنا بره " ، طالما كان فى فهمنا العام أن التوكل على الله مطلوب فقط حينما ننوى فعل أمر جلل ، وطالما أصبح الخروج للشارع للتعبير عن رفض الظلم والاستبداد فى عهد الأنقاذ من الأمور الجلل . والحال كذلك فانى بدورى أستهل مقالى هذا بالتوكل على الله ، طالما أردت به انتقاد المعارضة ، وطالما كان النطق بكلمة الحق فى مواجهة المعارضة لا يقل خطورة عن النطق بها فى مواجهة الانقاذ . نجح انقلاب الانقاذ واستولى الانقلابيون على كراسى الحكم وفى المقابل سارع الآخرون واستولوا على كراسى المعارضة داخل وخارج السودان ، ووضعوا شروطهم التى تحدد من هو المعارض وكيف تكون المعارضة ومتى تكون وآخر موعد للحصول على العضوية ، فى استبداد لا يقل خطورة عن استبداد الانقاذ ، علما بأن استبداد الانقاذ من متطلبات بقائها فى الحكم ، لكن استبداد المعارضة هو استبداد لاجل ممارسة شهوة الاستبداد ليس الا ، فكانت نتيجته الطبيعية أن صب بدوره لصالح بقاء الانقاذ فى الحكم كل هذه السنوات ، وبقى حال المعارضة كما عليه حالها اليوم . وقعت المفاصلة المعلومة بين أهل الأنقاذ وسارع الترابى الى اعلان مسئوليته عن الانقلاب وما ترتب عليه وأعلن عن ندمه وتوبته وتخليه عنه والتزامه بالديمقراطية وطلبه بالانضمام للمعارضة ، لكن هذا الطلب لم يقبل الا بعد أن كاد يحدث شرخا كبيرا وسط المعارضة ، وظل الترابى ومجموعته يتعرضون لشتى ألوان السب والتقريظ ، رغم أن ما فعله الترابى ، كمعارض ، بالانقاذ عجزت عنه المعارضة بأحزابها الكبرى التى ظلت فى حالة توهان لا تدرى أيهما الأفضل لها ، عضوية المعارضة أم الحكومة ، فكفت نفسها شر التفكير وقامت بتوزيع عضويتها بين السلتين . ان ما لقيه الترابى المعارض من المعارضة ولا زال ، أصبح مؤشرا سيئا لكل من يفكر فى مفارقة الانقاذ والانضمام للمعارضة وما أكثرهم ، سواء من الانقاذيين الأصليين أو من الأحزاب المنشقة المتحالفة ، لكنهم ظلوا فى مكانهم خوفا من المعارضة ولسانها الساخراللآذع وبابها المغلق . الأدهى من ذلك أن مجموعة من الأنقاذيين عندما أحسوا بأن البلاد حتما تسير نحو الهاوية ، شقوا طريقا موازيا وخاطبوا السلطة بمذكرة ينتقدون فيها الفساد والأقصاء والشمولية والعقلية الأمنية المسيطرة على الدولة وعدم استقلال القضاء وتزوير الأنتخابات وازكاء روح الجهوية والقبلية ...الخ ، وطالبوا الدولة بتصحيح مسارها وأعلنوا أنهم لن يسكتوا على ذلك . فبرزت التصريحات والأقلام من كل جانب لتقابل ذلك بالشماتة والاستهزاء والسخرية ، و تستنكر عليهم هذا الموقف وتتهمهم بمحاولة القفز من السفينة وهى تغرق وتطلب منهم البقاء فى مكانهم . وهذا هو ذات الأمرالذى ظل يتعرض له بعض كتاب الصحف الأليكترونية ومنهم الكاتب الناشط الدكتور عبد الوهاب الأفندى ، فما أن كتب مقالا يعبر فيه عن وجهة نظره فى أمر ما أو ينتقد سلوك الحكومة تجاه حدث ما ، حتى طاله سيل من من الهجوم والاتهام بحجة أنه من الانقاذيين الانتهازيين ، وتبارت الأقلام تجاهه كل يستعرض مقدراته الفائقة فى استعمال عبارات الكراهية و العنف اللفظى . وكأن المعارضة بذلك تستنكر على الناس سنة الله فى خلقه ، من حيث قابليتهم للتبدل والتطور فى أفكارهم وآرائهم ومواقفهم نحو الأفضل . وكأن المطلوب من الانسان أن يبقى فى مكانه جامدا لا يتحرك مهما قامت الشواهد على خطأ المكان . وكأن المعارضة أصبحت حكرا وحصرا على أشخاص بعينهم يتقاسمون دور البطولة ويتبادلون أوسمة الشجاعة ، وفى ذات الوقت لا يملكون ولا يفعلون من استحقاقات المعارضة شئ سوى بيانات الشجب والأستنكار والسخرية . أعلنت الحكومة عن احباطها لمحاولة انقلاب يقودها نفر من أهل الأنقاذ ، ولعلهم ذات أصحاب المذكرة التى تحدثت عنها ، فاذابالأقلام تستهجن وتسخر من أصحاب المحاولة وتذكرهم بجرائم بعضهم فى حق الوطن والمواطن ، وكأن أصحاب تلك الأقلام يملكون حلا سحريا لأزمة البلاد وما وصل اليه حال العباد وما نفقده يوميا من أرواح فى النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور والقوات المسلحة ، بما يعرض بلادنا للمزيد من العنف والتفكك . فى اتجاه آخر ، خرجت علينا المعارضة ببيانات الشجب والادانة ورفضها لما أسمته الوصول للسلطة عن طريق الانقلاب والقوة ،وكأن المعارضة بذلك تتحين الفرص للأعلان عن مبدئيتها مداهنة واستعطافا للنظام ، متناسية أن هذا النظام وصل للسلطة عن طريق الأنقلاب وظل ولا زال ممسكا بها بالقوة . وأيا كانت الأفكار (الجهنمية) التى تقف وراء مثل هذه التصريحات فان مردودها السلبى أكبر من الأيجابى ، ففى ظل الأزمة الشاملة التى تعيشها بلادنا والعجز التام وانسداد افق الحكومة والمعارضة فى ايجاد المخرج الآمن ، فان الانقلاب العسكرى " يمثل الحل الوحيد الممكن وبكلفة قليلة للأزمة السودانية " كما قال وبحق ، الدكتور حيدر ابراهيم على – استاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم ، فى مقاله " السودان – البقاء للأضعف " . والحال كذلك ، وأيا كانت فرص نجاح انقلاب على انقلاب ، ما هى المصلحة فى رفضه واعطاء اشارات سالبة لمن يبحثون عن المخرج الآمن ؟؟ . فى ظل ماوصل اليه الحال فان آخر ما نتوقعه أن يأتى انقلاب من داخل الانقاذ ليقود البلاد نحو الأسوأ . بهذا الفهم لا أرى ما يمنع بالترحيب حتى بانقلاب قصر يقوده الرئيس البشير بغرض تشكيل حكومة قومية تمهد للانتقال للوضع الديمقراطى المطلوب . أعود للأقلام اللآذعة خاصة الأخوة المرابطون فى عجز المقالات الاليكترونية لا يفعلون شئ سوى أنهم يهمزون ويلمزون ويسخرون ويسبون ويتوعدون ، ويكابرون ويراهنون على سقوط النظام بالانتفاضة الشعبية ، وهم يعلمون أن السماء لن تمطر انتفاضة ، والأمر كذلك علينا أن نسعى جادين لفعلها ، ونعلم أن تحريض الناس للانتفاضة بالحراك نحو تغليبشهوة الانتقام والانتصار للذات يؤدى الى النتيجة العكسية ، وعلينا أن ندخل فى شراكات ذكية مع الجميع ، أفرادا وجماعات ، بما فى ذلك الاخوة " السائحون" . أما الحديث عن المظالم فاخوة يوسف لما سؤلوا عن جزاء من وجد صواع الملك فى رحله :-" قالوا جزاؤه من وجد فى رحله هو جزاؤه .. ". هذه العبارة نطق بها اخوة يوسف قبل عدة قرون لتعنى تسليمهم المطلق بسيادة حكم القانون . وطالما ظللنا ندعوا لدولة الحقوق والحريات وسيادة حكم القانون التى يستظل بظلها الجميع ، علينا أن نحتكم اليها ، ولكن فى البداية يجب أن نعمل على ايجاد تلك الدولة بأية وسيلة متاحة ، وليس من بينها الاستبداد . abdu ahmad [[email protected]]