"من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجد والحفيد .. بقلم: عبد الله علقم
نشر في سودانيل يوم 22 - 12 - 2012

تلقيت على بريدي الالكتروني رسالة لا تخلو من الطرافة تحمل عنوان "ردا على مقالاتك العدائية ضد جدي الراحل المقيم د. جعفر محمد علي بخيت." يقول كاتب الرسالة:
رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما قدم للسودان من أعمال وإنجازات، بذل الغالي والنفيس من أجل أن يرتقي بهذا البلد وأفنى شبابه في خدمة المجتمع المدني وكل من عايش فترة حياته شهد له بالصدق والأمانة وطهارة النفس.. كل الشعب السوداني يشهد له بذلك وهذه شهادة نعتز بها كسلف، في كل مجلس يذكر فيها اسمه لا يذكر بشيء غير الخير ولكن في كل مجتمع توجد "بصلة" فاسدة تحرص على افساد بقية المكونات..
لماذا هذه العدائية؟؟!! هل قام برفدك؟؟ وقطع عيشك؟؟ أم كنت ممن يحاربهم؟؟
أما اان لك أن تترك سيرته العطرة وتبتعد بتنجيسها بمقالاتك التي لا تلقى أي تأييد وأي دعم من جمهور الشبكة العنكبوتية، مر على رحيله ما يقارب الأربعين عاما وأنت لا زلت تحرص تمام الحرص على الاساءة اليه.. ولكني أطلب منك أن تواصل هذه المقالات الفاشلة.. لانها تعتبر حسنات جديدة تدخل في رصيده وسيئات تدخل في رصيدك العامر.. جعفر محمد علي بخيت رمز من رموز هذه الأمة.وهو رقم مرتفع "لن" تستطيع الوصول اليه..
جعفر الطيب محمد – حفيد المرحوم الدكتور جعفر محمد علي بخيت
(وأذكروا محاسن موتاكم).
انتهت الرسالة التي نقلتها بنفس كلماتها التي وردت إلىّ.
رأيت في البداية إهمال الرسالة كما أفعل في معظم الأحيان مع هذا النوع من الرسائل، ولكني قمت بالرد على مرسلها (أشكر لك رسالتك الكريمة،أيا كانت كلماتها،وأشكر لك قراءتك لما كتبت،أيا كان استيعابك له،وأرد إليك وعليك ما في رسالتك من طفح). ثم رأيت أن أنشر الرسالة كما هي،رغم أنها تعكس،في رأيي، أن مرسلها خارج الشبكة تماما، فهو يتحدث عن مقالات نشرت قبل سنوات، أولها كان عام 1986م، وآخرها كان قبل عدة سنوات. هو يعتقد أن عنواني البريدي هو المنبر المناسب للرد عليها ويتوهم أن ما أرسله إلى بريدي هو رد بالمعنى المفهوم. الرسالة تعكس قلة حظ مرسلها، ربما لصغر سنه، من المعرفة وقواعد الأدب،وهو أمر في البداية والنهاية يعود إليه وإلى من يعنيهم أمره، لكن نفس الرسالة دفعتني للقراءة من جديد في ملف الجد بوصفه شخصية عامة تربعت على عدة مناصب في وقت واحد،وكانت في موقع اتخاذ القرار في فترة من تاريخ السودان الحديث، وقد اضرت قراراته بكثير من الأسر مثلما أضرت بمؤسسات الخدمة المدنية والإدارة الأهلية والحكومة المحلية ، وما زال الضرر قائما إلي يوم الناس هذا.
كل فتاة بأبيها معجبة، كما يقول المثل، ولجعفر الحفيد أن يعجب بجده ما شاء. جاء في مجمع الأمثال للآدمي: إن العجفاء بنت علقمة السعدي، خرجت مع ثلاث نسوة من قومها، وتواعدن روضة من الرياض، ذات الخضرة والأزاهير، ليتحدثن فيها، مع صفاء الجو المشمس نهاراً، والقمر المزهر في الليل، فوافين قمراً متلألئاً، قلن: أي الرجال أفضل؟ قالت إحداهن: إن أبي يكرم الجار، ويعظم النار، وينحر العشار، بعد الجوار، ويحمل الأمور الكبار، ويأنف من الصغار.وقالت الثانية: إن أبي عظيم الخطر، منيع الوزر، عزيز النفر، يُحمد منه الورد والصدر.
وقالت الثالثة: إن أبي صدوق اللسان، حديد الجنان، كثير الأعوان، يُروي السِّنان عن الطعان.
وقالت الرابعة: إن أبي كريم النزال، منيف المقال، كثير النوال، قليل السؤال، كريم الفعال.
ثم تنافرن إلى كاهنة معهن في الحي، فقُلن لها: اسمعي ما قلنا، واحكمي بيننا واعدلي، ثم أعدن عليها قولهن؛ فقالت لهن: لكل واحدة منكن مارده - غاية - بأبيها واجدة، على الإحسان جاهدة، ولصويحباتها حاسدة.
نتناول في هذه السطور الجد بوصفه كشخصية عامة كما ذكرت، وهو قد سبقنا إلى حساب الله، نائين عن الجوانب الشخصية، فكلنا بشر خطاؤون تثقل كواهلنا العيوب والذنوب، ولا ملجأ إلينا إلا من رحمة الله التي وسعت كل شيء.أما حديث (أذكروا محاسن موتاكم) فهو حديث ضعيف ولا يحتج به عند بعض العلماء، وقد حكم عليه الشيخ الألباني بالضعف. ما صح عند البخاري قوله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا". قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث غريب، سمعت محمدًا - يعني البخاري رحمه الله - يقول: عمران بن أنس المكي منكر الحديث، وروى بعضهم عن عطاء عن عائشة.
والحديث حكم عليه الشيخ الألباني -رحمه الله- بالضعف. قال الامام ابن حجر رحمه الله أي وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر. وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساوئهم للتحذير منهم والتنفير عنهم وقد اجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتا.
لما ورد ذكر الحجاج بن يوسف في مجلس سيدنا عمر بن عبدالعزيز خامس الراشدين ، لم يدعو له بالرحمة بل وصف دمويته بقوله "لو تخابثت الأمم في يوم القيامة وأتت كل أمة بخبيثها، فخرجنا عليهم بالحجاج، لغلبناهم".
الموت إذن لا يحجب حق الأحياء في المعرفة وإعادة قراءة التاريخ والاعتباربأحداثه وأشخاصه.
عمل الدكتور جعفر محمد علي بخيت في وظيفة ضابط حكومة محلية (التي اصبح اسمها "ضابط إداري" فيما بعد) حتى ابتعث أواخر سنوات الخمسين من القرن الميلادي الماضي (1958 تقريبا) إلى انجلترا حيث بقي هناك إلى عام 1966 ثم عاد للسودان بعد أن نال شهادتي الماجستير أولا ثم الدكتوراة في الإدارة العامة وكانت أطروحة الدكتوراة تحمل عنوان "تطوير الإدارة الأهلية في السودان". لا يعرف على وجه التحديد الظروف التي أهلته للابتعاث لانجلترا ولكن المعلوم أنه لم يجلس لامتحان مع زملائه منح على ضوء نتيجته دون سواه فرصة الدراسة العليا في انجلترا ولهذه السنوات الطويلة المتواصلة التي تزيد عن السنوات اللازمة للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراة في الإدارة العامة، مما لا يشكل أساسا منطقيا لصفات التميز أو التفرد التي اكتسبها بعد صعوده للسلطة. على كل، أعارته أو انتدبته وزارة الحكومة المحلية للعمل في جامعة الخرطوم فاصبح في عام 1966م محاضرا في شعبة العلوم السياسية في كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية. كان محاضرا محبوبا وسط طلابه وكان قارئا مجتهدا كثيرا يبدأ القراءة أحيانا في مكتبه في الرابعة أو الخامسة صباحا ويرتب مذكراته لمحاضراته القادمة. كان يؤكد في محاضراته في المدرجات على ضرورة حياد الخدمة المدنية والنأي بها عن التسييس ويضرب مثالا بتانزانيا كنموذج سيء للخدمة المدنية المسيسة. كان في نفس الوقت ، وفي انسجام تام مع ثوابته الأكاديمية ينادي بتطوير الإدارة الأهلية، وليس إلغائها، ونشر هذه الآراء في مساحات كبيرة من صحيفة "الصحافة" رغم أن الجو السائد والمزاج العام آنذاك، عقب ثورة أكتوبر، يدعو لتصفية الإدارة الأهلية تماما. فضلا عن ذلك كان من أشد دعاة الحوار والرأي والرأي الآخر ويشجع طلابه على ذلك.
ولكن بدأ يظهر للرجل وجه آخر بعد تعيينه مشرفا على شئون الطلاب عام 1969م ، فأقحم نفسه في مشاحنات وملاسنات مع الطلاب لا مبرر عقلاني لها ولا تليق بجلال المنصب، لا يتسع المجال لسردها، وبلغت قمة ذلك ذلك في مشهد مأساوي تعرض فيه للضرب من بعض هؤلاء الطلاب في أول سابقة من نوعها تحدث في الجامعة.كانت شهوره الأخيرة في الجامعة ساخنة عاصفة حتى قررت إدارة الجامعة فجأة إنهاء إعارته وإعادته لعمله في وزارة الحكومة المحلية في سبتمبر 1970م لظروف معينة نمتنع عن الخوض في تفاصيلها، ليس بسبب ضعف في الذاكرة، ولكن لأنها لا تقع في سياق المضمون الرئيس لهذه السطور.
في فبراير 1971م اصبح الدكتور جعفر بخيت وزيرا للحكومة المحلية ، واستمر يشغل هذا المنصب مع مناصب أخرى ،أمبراطورا متوجا وآمرا ناهيا حتى عام 1975م، حينما أعفي من مناصبه وانتقل لمنصب شرفي هو رئيس مجلس إدارة جريدة "الصحافة" وظل يشغله حتي رحيله عام 1976م. بادر بعد أقل من شهرين من جلوسه على كرسي الوزارة بعقد مؤتمر لتطوير الحكم المحلي ولكنه لم يكن مؤتمرا بالمعنى المعروف للمؤتمر الذي يتم فيه التفاكر وتبادل الآراء لأن الدكتور جعفر رفض أي ورقة أو مقترحات مقدمة من زملاء أمسه الضباط الإداريين الذين توافدوا من مختلف بقاع السودان لقاعة الامتحانات في جامعة الخرطوم، مقر المؤتمر، ولم يجد في نفسه حرجا من أن يقول ألا حاجة له برؤية من أحد فقد أعد بنفسه قانون الحكم المحلي الجديد الذي أسماه قانون الحكم الشعبي المحلي وأمرهم بالجلوس مستمعين أو المشاركة في أعمال سكرتارية المؤتمر التي تتضمن طباعة وتوزيع الأوراق على الحاضرين، فكان النجم الأوحد والصوت الأوحد الذي يعلو وتخرس كل الأصوات.وكانت النتيجة قانونه الذي يحمل كل عيوب الفردية، ومن بينها ارتفاع عدد المجالس المحلية في كل السودان من دون المائة إلى رقم فلكي فتضخم بذلك بند الأجور على حساب بند الخدمات وتحولت المجالس إلى مراكز منزوعة الصلاحيات والموارد في ظل ما كان يسمى ب"تقصير الظل الإداري" ، نشطة في الإتجار بالمواد التموينية في السوق السوداء.
ولكي يخلق قاعدة من الموالين له شخصيا، قام بترفيع بعض الكتبة والمحاسبين من خريجي المدارس المتوسطة والثانوية العاملين في المجالس المحلية ليصبحوا ضباطا إداريين.آخر دفعة من غير حملة الشهادات الجامعية أختيرت لشغل وظائف ضباط إداريين كانت مع مطلع الاستقلال عام 1956م ثم لم تعد حاجة لذلك بعد توفر الأعداد والكفاءات اللازمة لهذه الوظائف مع ازدياد أعداد خريجي جامعة الخرطوم وغيرها من الجامعات داخل وخارج السودان. إن تطوير أي عمل يبدأ بتطوير وتأهيل الإنسان الذي يؤدي ذلك العمل، وكلما كان ذلك الانسان يملك القاعدة المعرفية والتأهيلية المطلوبة التي يبدأ منها التطوير كلما كانت فرصه وفرص عمله في التطور أكبر. للأسف كان عدد كبير من هؤلاء القادمين الجدد وبالا على الحكم المحلي بفقر خلفيتهم المعرفية والأكاديمية، وزاد الوبال بقيام الدكتور جعفر بفصل عدد كبير من قيادت الحكم المحلي وكبار الضباط الإداريين من العمل، فأصبح الضرر مزدوجا. وضع الدكتور جعفر أسسه الخاصة للفصل من الخدمة تحقيقا للصالح العام، وكانت هذه الأسس هي ما أسماه بالتحجر الفكري وعدم الموالاة لنظام مايو والجمود وكان هو وحده الذي يمنح صكوك الغفران ويمنعها، ويصنف عباد الله على هواه ،ويفصلهم من العمل بلا مساءلة ولا محاسبة. بدلا من حياد الخدمة المدنية صار الشعار الجديد هو "لا حياد مع مايو"،إما معنا وإما ضدنا، وكأن البلد كلها ضيعة لنظام مايو ولجعفر بخيت بلا حق للآخرين في المواطنة، تماما كما فعل جورج بوش الإبن الرئيس الأمريكي السابق وكما فعل الدكتور مجذوب الخليفة المسئول عن عملية فصل الموظفين أو "التمكين" في نظام الانقاذ واكتسب لقب "البلدوزر" قبل أن يلقى ربه بعد أن قطع أرزاق مئات الآلاف من الأسر.
ابتدع الدكتور جعفر نظام "القفز بالعمود"، أو الترقية بالجدارة كما كان يحلو له أن يسميها، وقد أدى القفز بالعمود إلى إشاعة عدم الانضباط وعدم الرضاء الوظيفي والفوضى ، وانتقل الداء من وزارة الحكومة المحلية إلي كل الخدمة المدنية. كانت أسس الترقي التي وضعها مؤسسو الخدمة المدنية في السودان نقلا عن المتبع في بلادهم(انجلترا)هي70% للأقدمية و20% للأداء و10% للمؤهلات باعتبار أن الأقدمية تكسب معرفة أكثر بالعمل وولاء له فضلا عن أنها تحد من فرص التأثير والمزاج الشخصي أمام من يبتون في ترقية الآخرين. أصبحت المعادلة الجديدة 70% للأداء و20% للمؤهلات و10% للأقدمية، بوما أن بند تقويم الأداء مفتوح من الجانبين ويخضع للمزاج الشخصي فقد انفتح المجال للقفز بالعمود أمام عدد كبير من قليلي الموهبة الذين ينعمون برضاء متخذ القرار، واختلط الحابل بالنابل.
لم تسلم جامعة الخرطوم من سطوة الدكتور جعفر وأذاه بعد أن عاد إليها رئيسا لمجلسها وهو يمتطي صهوة حصان السلطة الجامح ويحمل سيفها البتار، فكان لها نصيب كبير حيث عمد الرجل إلى تصفية حساباته القديمة ففقدت الجامعة في عهده عددا من خيرة أساتذتها بنفس مبررات عدم الولاء وعدم المواكبة والتحجر الفكري. أما الإدارة الأهلية فقد حرر لها بنفسه شهادة وفاتها الرسمية وقام بتصفيتها دائسا بقدميه على أطروحة شهادة الدكتوراة التي يحملها، "تطوير الإدارة الأهلية في السودان"، لما اكتشف أن توجه نظام مايو هو تصفية الإدارة الأهلية وليس تطويرها، ولتذهب الإدارة الأهلية إلى العدم مهرا للمنصب وعربونا لود السلطان.
كان يجد متعة غريبة في فصل الناس من عملهم تماما كما كان يستمتع أباطرة روما القديمة بمشاهدة ضحاياهم من فوق المدرجات في "الكوليسيوم" وهم يصارعون الأسود الجائعة.لم يبق على ضابط إداري واحد من أبناء دفعته. في مرة من المرات فصل ضابطين إداريين شقيقين من الخدمة للصالح العام في كشف واحد. وفي مرة أخرى وفي زيارة له لأحد الأقاليم، أو الولايات بلغة هذه الأيام، وجد من بين مستقبليه ضابطا إداريا يعرفه معرفة شخصية، فدهش وسأله لماذا هو لا يزال في الخدمة؟ ويبدو أن الرجل سقط من ذاكرته وهو يعد قوائم ضحاياه، فلما عاد للخرطوم،أصلح خطأه وبادر بفصله من الخدمة. لا أود أن أنسب لنفسي بطولة،ما عاد يتسع لها العمر ولا الفؤاد، على جدث ميت أدري أنه سبقني إلى حساب الله الذي لا يظلم عنده أحد في يوم الموقف العظيم، ولكني حقيقة كنت أحد ضحاياه في يوم من الأيام، وقد فصلني من الخدمة تحقيقا للصالح العام وعمري لم يتجاوز وقتها الخامسة والعشرين، فكنت بذلك الأصغر سنا من بين كل الأسماء التي ضمتها قوائم المفصولين للصالح العام، ليس فقط من بين الضباط الإداريين، ولكن في كل قوائم الخدمة المدنية، وظللت أحمل هذا الرقم القياسي لسنوات طويلة حتى أتي حين من الدهر بعد 30 يونيو 1989م أصبح فيه الفصل من الخدمة ممارسة شائعة تشمل جميع الأعمار بمن فيهم من هم دون الخامسة والعشرين. كنت أسير في ضحى يوم من الأيام لشأن من شؤون دنياي في الجانب الغربي من ميدان الأمم المتحدة وأهم بعبور شارع عبدالمنعم متجها إلى مكتب ما في عمارة عبدالمنعم حينما سمعت صوتا ينادي باسمي فالتفت إلى مصدر الصوت لأجد أنه صادر من سيارة روفر متجهة إلى الشمال. عندما وقفت بجانب السيارة وتطلعت إلى داخلها رأيت أربع حقائب (سامسونايت) مرصوصة بعضها فوق بعض ويجلس بجوارها الدكتور جعفر نفسه. كانت كل حقيبة مخصصة لمنصب من مناصبه التي كان يشغلها في وقت واحد، فحقيبة لوزارة الحكومة المحلية، وأخرى لمجلس الشعب الذي كان يشغل فيه منصب الرائد، وحقيبة ثالثة للإتحاد الاشتراكي حيث كان يشغل منصب أمين الفكر والمنهجية، وحقيبة رابعة لجامعة الخرطوم التي كان رئيسا لمجلسها. كان يبدأ يومه بوزارة الحكومة المحلية ثم يطوف من بعدها على أجزاء امبراطوريته التي هيء لبعضهم آنذاك أنها لن تغيب عنها الشمس. مددت يدي مصافحا أستاذي السابق، الذي كنت أحد طلابه منذ أول محاضرة له في الجامعة، وهو في نفس الوقت الرجل الذي فصلني من الخدمة وجعلني أجوب الشوارع في مثل تلك الساعة من اليوم. سألني: "اشتغلت وللا لسة؟" أجبته: " لسة بحاول با أستاذ". رأيت الابتسامة تتسع على الوجه. كنت في غاية السذاجة حينما توهمت للحظة عابرة أنه سيقول لي "خلاص .. بكرة تعال الوزارة قابل فلان أو علان" دلالة على أنه كفّ أذاه ورفع غضبه عني، ولكنه أومأ إلى سائقه بمواصلة السير وبقايا الابتسامة ما تزال على الوجه، بعد هذه البداية الطيبة ليومه. سبحان الله، رغم كل هذه المناصب وكل هذا السلطان والجبروت،ما يزال في ذهنه متسع لمثلي. خطر بذهني المثل الصيني الذي يقول أننا لا نحتاج لاستخدام مدفع لقتل ناموسة. أيقنت تماما يومها أنني أمام حالة مرضية حقيقية.عبرت الشارع وأنا في أقصى حالات تضخيم الذات. الأرزاق والأعمار والموت والحياة والهواء كلها من عند الله خالق كل شيء وواهب كل شيء. لم يكن لدي الكثير لأخسره مقارنة بكبار الزملاء الضباط الإداريين (أستخدم لفظ "الزملاء" هنا مجازا لمجرد أني جمعني العمل معهم في وزارة واحدة، فهم قيم كبيرة وقامات سامقة وكثيرون منهم كانت سنوات خدمتهم تتجاوز سنوات عمري) ، كنت ما أزال في بداية السلم الوظيفي في الدرجة "كيو" ، ولكني خسرت أحلاما مشروعة تأجل تحقيقها لسنوات قادمة،بعد أن الله سبحانه وتعالى عوضني بلطفه وكرمه خيرا مما انتزع مني. ظلت المرارة باقية في الحلق، وظل الإحساس بالغبن جاثما في النفس، لأني كنت، وما زلت، أحس أن فصلي من العمل سلب أو انتقص من حق مواطنتي. لربما تكون إعادتي لعملي في الحكومة المحلية بعد الانتفاضة عام 1986م قد أزالت شيئا من هذه المرارة، رغم أن عودتي كان مجرد فعل مفرح على الورق زهدت في متابعة واستكمال إجراءات تحويله إلى واقع، فقد اختار الله سبحانه وتعالى لي أن أسلك دروبا أخرى في الحياة.
ساهم الدكتور جعفر مثل كثيرين غيره من المثقفين في صنع الصنم فأطلق عليه ألقاب "الرئيس القائد" و"جعفر المنصور" بمثلما أقحم في حياة الناس ألفاظا بلا معني مثل الشمولية،والفئوية، والضباط السيارة، وتقصير الظل الإداري، والقائد الملهم (بفتح الهاء)، والقائد الملهم (بكسر الهاء) (أي إلهام يأتي من مثل هؤلاء لأستاذ جامعي؟)، ألفاظ أقحمت بفعل القوة في حياة الناس فذهبت كلها جفاء كتوالي الترابي. وقف يوم افتتاح كوبري كوبر ليدعو في تزلف معيب لإطلاق اسم "جعفر نميري" على الكوبري، ولكن جعفرا الآخر، الذي لم يكن وقتها قد اكتسب لقب أمير المؤمنين، رد لجعفر بضاعته وأمر بتسمية الكوبري الجديد باسم كوبري القوات المسلحة، ولكن لا هذا ولا ذاك، فقد تعارف الناس فيما بعد على تسميته باسم كوبري كوبر.
حقيقة أنه كان طاهر اليد، لم يتربح من منصبه على الإطلاق، ولكنها كانت ثقافة العصر آنذاك، فلم يكن الناس في تلك الأيام يمدون أياديهم للمال العام أو يتربحون من مناصبهم العامة، وكانت تلك ممارسة غالبة وعادية كالأكل والشرب والتنفس، أرساها الرعيل الأول من المتعلمين وصناع الاستقلال، ولم يكن الدكتور جعفر في ذلك مختلفا عن الآخرين. كان يعشق السلطة وحدها، فأفرط على نفسه وعلى عباد الله، وأشاع الخراب، ليس في الحكم المحلي وحده،ولكن على وجه الخصوص في كل الخدمة المدنية، ومؤسسة الإدارة الأهلية، وجامعة الخرطوم،ومضى لحساب ربه بعد أن ترك دمعة في أكثر من عين، وغصة في أكثر من حلق، وسلب أكثر من حق، يختصم أصحابه إلى الله الحكم العدل يوم الموقف العظيم.
(عبدالله علقم)
[email protected]
/////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.