عندما كان بإمكانك أن تتصدق بفضل ظهرك على شخص أو "شخصة" دون أن تخشى إلا الله والذئب على غنمك ، حملت أحدهم وأنا في طريقي من بيتي في "ضاحية" شمبات إلى مكتبي بالخرطوم. وبعد أن تقدمنا قليلاً في شارع "الانقاذ" سألت الرجل عن وجهته فأفادني بأنه سيترجل عند "شارع الظلط" ، تحيرت بالطبع فأردفت سؤالي بسؤال آخر عن أي شوارع الظلط يتحدث فأدرك الرجل لتوه أنني لست من سكان بحري الأصليين ، أو هكذا قال. علمت منه بعد ذلك أن "شارع الظلط" الذي يعنيه هو ما يعرف الآن باسم شارع الزعيم الأزهري ، وبعضهم يطلق عليه اسم شارع كوبري شمبات. ويبدو أن "شارع الظلط" هو الاسم الذي التصق بذاكرة أهل بحري منذ أن كان هو الشارع المسفلت الوحيد في المنطقة والله أعلم. غير أن أسماء الشوارع في عاصمة بلادنا تترك الإنسان في حيرة من أمره إذ أن الكثير منها يحمل على الأقل اسمين ، فالحكومة - جزاها الله خيراً - تقوم بتخطيط الشوارع في أنحاء المدينة المختلفة دون أن تكلف نفسها عناء إطلاق أسماء عليها. كما أن اللجان الشعبية وغيرها من السلطات المحلية مشغولة فيما يبدو بالقضايا القومية الكبرى أكثر من اهتمامها بهذه الأمور البسيطة. وبما أنه ليس من المعقول أن يظل المولود دون اسم فإن أهل الحي ودونما اتفاق بينهم يتواضعون لسبب أو آخر على أسماء "شعبية" لهذه الشوارع من شاكلة "شارع كترينا" و"شارع البلابل" و"شارع النص" وحتى "شارع المليون بليد". ولأن معظم الشوارع في العاصمة ليس لها أسماء أو أرقام فإنك كثيراً ما تلتقي في الطريق بمن يسألك عن منزل صديقه أو قريبه وهو يعلم فقط أنه قرب المسجد أو مدرسة البنات مثلاً ، فمن صفات السوداني كذلك أنه لا يهتم كثيراً بالاتجاهات الجغرافية وعندما يتحدث عن الشمال فهو يعني عادة "اليسار". ومن عادات الحكومات عندنا أنها ما أن تصل إلى كراسي الحكم حتى تشرع في "كنس آثار" العهد البائد فتطلق على بعض الشوارع أسماء رموز العهد الجديد ، غير أن هذه الشوارع تظل تحتفظ بأسمائها القديمة رسمية كانت او شعبية وإن كانت بعض الأسماء الجديدة تحتل مكان القديمة بسبب الاعلام المكثف مثل شارع "عبيد ختم" الذي حل بديلاً للاسم القديم "المركز الأفريقي" ، وكان البعض يطلقون عليه اسم شارع "أبيل ألير". وكما أن السماسرة درجوا في الآونة الأخيرة على إطلاق أسماء على الأحياء في عاصمة بلادنا لا تعبر عن تاريخنا او ثقافتنا بغية تحقيق الربح ، فإن المواطن العادي بإمكانه أن يطلق الاسم الذي يريد على الشارع الذي يمر أمام بيته مما يخلق الكثير من الفوضى. ففي بحري مثلاً شارع كبير ومعروف باسم شارع كسلا يبدأ من صينية الحركة بعد كوبري النيل الأزرق حيث توجد حديقة صغيرة نسيت المحلية أن تطلق عليها اسماً ، فتكفل العامة بتسميتها باسم شعبي غريب هو "حبيبي مفلس". ويستمر هذا الشارع حتى الحاج يوسف فيما أظن ، غير أن أحد المواطنين قرر أن يسمي الشارع الذي يقع فيه بيته بحي المغتربين بنفس الاسم. لم يكتف المواطن بتسمية الشارع على مزاجه وحسب ، بل قام بوضع لافتة كبيرة يراها كل من يمر بشارع الانقاذ من الشمال إلى الجنوب كتب عليها باللون الأحمر "شارع كسلا". لا بد أن هذا المواطن من أبناء كسلا الخضراء أو ممن عاشوا فيها ردحاً من الزمن لذلك فهو يعبر عن عاطفته تجاه هذه المدينة الرائعة التي تغنى لها الكثير من شعراءنا الأماجد. غير أن مواطناً آخر ربما كان يعبر عن موقف سياسي عندما قرر اختيار اسم لشارع آخر بذات المدينة. كنت أحاول تفادى الحركة المزدحمة في شارع الانقاذ صباح أحد الأيام فلجأت للشارع الذي يقع غربه مباشرة ويمتد جنوباً حتى حديقة عبود وكان قد تم رصفه للتو ، وبينما كنت أقف على تقاطع هذا الشارع مع شارع عز الدين السيد وقع نظري على لافتة غريبة كتب عليها "شارع شهداء 29 رمضان". لم تكن اللافتة هناك عندما عدت بنفس الطريق بعد عدة أيام مما يؤكد يقظة سلطات محلية بحري أو الجهة التي قامت بنزع اللافتة من مكانها ، غير أن الشارع ظل مجهول الهوية فهو لا يحمل حتى الآن أي إسم أو رقم حسب علمي. الذي حفزني لتناول هذا الموضوع هو ما خطه يراع الأخ محمد المكي ابراهيم في رثاء المغفور له بإذن الله الأستاذ حسن أبشر الطيب (الصحافة ؛ 10 يناير 2013) ، والذي أشار فيه بأسلوبه الأدبي الرائع للسعادة التي بدت في صوت الفقيد وهو يحدثه عن كيف تمكن من انتزاع شارع باسم صديقه "الطيب صالح" من مخالب البيروقراطية. وحق للفقيد أن ينام قرير العين هانيها بعد أن حقق أحد أهدافه النبيلة وفاء لصديقه العزيز. غير أن من يمر بشارع الستين "وهو من الشوارع ذات الاسمين أيضاً" لا بد أن يلاحظ تلك اللافتة الجميلة الضخمة المعلقة هناك بغرض إرشاد مستعملي الطريق. كتب على هذه اللافتة بخطٍ أنيق وألوان زاهية أسماء الشوارع المتفرعة عن الستين كما هي العادة في كل بلاد الدنيا ، غير أني لاحظت على اللافتة أمراً غريباً وهو أن اسم شارع أوماك لا زال يحتل مكانه على اللافتة دون أي ذكر لشارع باسم "الطيب صالح". قد يوافقني القارئ الرأي بأن هذا التضارب لا يصح في حق الأديب الكبير الطيب صالح ولا في حق صديقه الوفي ، كما أنه فوق هذا وذاك يعمل على تضليل السائقين إذ أنه لم يعد هناك شارع باسم "أوماك" إلا في الذاكرة الشعبية ، فقد قامت الجهة المعنية بتبديل كل اللافتات الموجودة عليه للاسم الجديد. ولا علم لي إن كانت هذه اللافتة قد وضعت قبل إعادة تسمية شارع بالطيب صالح أم أن البيروقراطية قد رجعت في قرارها ، غير أن غالب ظني أنها مجرد انعكاس لحالة "الهرجلة" التي تصبغ أعمال العديد من مؤسساتنا. Mahjoub Basha [[email protected]]