كان من المفترض أن نواصل الحلقة الثانية من مقالنا حول أحمد خير المحامي.. الذي أطلقنا عليه (المغبون) ولكن وفاة محمود عبد العزيز (المغني) جعلتنا نكتب حوله على أن نعود للمواصلة.. لم تكن أذناي شديدة الانتباه لما كان يغنيه محمود، والسبب أنني أملك أذناً قديمة الجلد متأخرة الصوت، ظلت مرهونة لغبار التاريخ، لصيقة بمفردات قديمة لكنها (حنينة)، فالكاشف وأبو داوود ورمضان حسن، وإبراهيم عوض، وأحمد المصطفى، وردي - كابلي - محمد الأمين- وفي عاطفيتها، تشبثت شواغلي الوجدانية بهاشم ميرغني والطيب عبد الله وغيرهم، وكان في التسعينيات ظهر شاب قليل الحجم، عميق الصوت، جبار في التأوه والمد بالكلمات، فعندما يقول: (يا قائد الأسطول) تتمثل أمامك أساطين من البواخر الضخمة، وعلى مقدمتها ربانها، يحمل بين أصابعه، سيجارة كوبية ويعتمر قبعة من ريش النعام، صنعت له خصيصاً في واحدة من مغامراته في إفريقيا، حينما أجبره القراصنة الصوماليين على الوقوف والامتثال لطلباتهم، فمنحهم كل زاد السفينة، لكنه بخل عليهم بقبعته الإنجليزية الصنع، لكنهم أصروا أيما إصرار على سلبه القبعة، فأصر أن يرد الصاع صاعين فقام بعملية مبادلة، ومحمود يملك حضوراً عالياً، ومحبة كبيرة في قلوب الشباب؛ الشباب الذي برز في نهاية الثمانينيات، ولم يجد إرثاً فنياً ولا تراث مسموح به أن يخرج، ويٌخرج لهم أحلامهم، أفكارهم، أمانيهم، مشاريعهم ، ومن نقطة مظلمة هناك خرج شاب نحيل، لكنه ذكي، دخل إلى عوالم رأت في الفن والشعر والموسيقى محفزات على الخطيئة، وليتسلل اعتمد تكتيك المداهنة بالشًعر، والشاب يلج بوابة الغناء عبر التحقيب من جديد لمعاني قديمة ممنوعة، وجد في نفسه القدرة على (أن يشيل الشيلة) وفي مهارة شديدة يعمل على بسط العاطفة الممنوعة مجالاً للآخرين، الشباب حينها وجدوا فيه مساحة للتنفيس عن وجدهم بالحضور الأنثوي، فمسئولية الغناء أن تدرب العاطفة وتهذبها وتبعد عنها غوائل التفكير المادي الرغائبي الذي يسعى إلى تنفيذ أجندته النفسية والغريزية بمباشرة مقلقة ومكلفة.. ولمن لا يعلم فإن المراهقة هي البحث من جديد عن الأم، ولكنها في صورة انثى آخرى تقيه وتحميه وتشفيه، والكلمة توفر عالماً بديلاً، أن تشتهي في الخيال ولا تقع في الممنوع، الكلمة حاضن معرفي، دفء من نوع حلال، ولو منعتها فإنت تفتح الباب للمتعة الشاذة التي تحترف الخروج عن العادة، وتمتنع عن السير في طريق التفريغ الواقعي للشحنات الغريزية، ومحمود جاء ليغني (جاي تفتش الماضي) في صورة أزعجت صاحب الأغنية، ولكن اعتقد أن الفرصة لم تكن لغيره، ولم يستطع جسمه النحيل أن يحتمل هذا التكليف، هو تكليف فوق طاقة فرد واحد، أن تستجيب لغرائز الكثيرين، غرائزهم الممنوعة من الخيال، وفي تاريخ العالم من المغنيين والكّتاب ما أرهقه حمل المعرفة الاجتماعية، جبلاً من أحلام وأوهام المارة، وهم إذ يتسترون بالاعتيادية في الحياة، بشرب ماء كما يتفق، ومعاكسة النساء في الشوارع المكتظة، فذاك ينادي وذاك يراقب والجميع مذهولون بشيء غائب، متخفي، إنك تحتمل تصيرك رمزاً رغماً عنك.. إنها حكاية الرمز والحقيقة، قصة الكفاح من أجل الحضور القسري..! حينها رأى البعض في تراثنا الغنائي بعض الكلمات خدشاً للحياء العام، وإن كان كلامه صحيح، وأن عبارات شاردة بل لنقل مؤسسة داخلت مشاعر كاتبيها، لكن لنسأل ونتحاور حول الأمر الأهم، هل يمكن توجيه الظاهرة الاجتماعية على قدم رسوخ بيانها،لغتها التعبيرية،فلسفتها المبينة والغامضة أحياناً، وفق رؤى قانونية تحاكم السلوك بموجب تصورات اللغة وخيال الشاعر؟ والفنان يسعى إلى أن يملك كل شيء، يفعل ذلك تعبيراً عن مضمون الظاهرة الاجتماعية، هو الوحيد صاحب الحظوة في الدخول إلينا جميعاً، إنه يعتقلنا برفق شهي، يجعلنا ننصت شئنا أم أبينا، والسبب هو امتلاكه لوسائل عاطفية مكابر من يقول باستغنائه عنها، المغني (دخّال) بامتياز، يحشر كلماته بالقوة، إنه لا يفعل شيئاً غير أنه يغير من مطلوبات الخطاب، الخطاب بالكلمات، لا فرق بينه وبين من يلقي خطاباً عاماً، المغني والسياسي، السياسي يدلق كلامه مباشرة دون انحياز للعاطفة النائمة، هو هكذا يقول ما يريد ويخاطب الغريزة، ولذلك فإنه غير ملزم بالتواصل أعمق من ذلك، أما المغني فأنت لا ضرورة لك أن تراه، عليك فقط أن تستمع إليه، إنه يداخلك دون حاجة منه للظهور، طالما أن مهمته تنحصر فقط في تدوير الكلام ومزجه، ضخه من شديد كلاماً ملحوناً، وقديماً قالت العرب: ولَحَّنَ في قراءته إِذا غرَّد وطرَّبَ فيها بأَلْحان، وفي الحديث: اقرؤُوا القرآن بلُحون العرب. وهو أَلْحَنُ الناس إِذا كان أَحسنهم قراءة أَو غناء.. شاهدت عبر التلفزيون بعض مشاهد الحزن/الغضب/التنفيس لبعض شبابنا وإن كان فيهم شيوخاً ونساء، وحينما تفرست في وجههم عميقاً هناك لمحت بين طيات الحزن أسئلة كثيرة، وغبائن أخرى مستترة، وصراحة تعجبت من شدة حزن هؤلاء وسألت نفسي، ترى هل رحيل محمود عبد العزيز كفيلٌ بتفجير هذه الطاقة من العنف المراقب؟، وتوصلت لنتيجة قد تكون مقنعة بالنسبة لي وهي أن هؤلاء الغاضبين يعبرون عن رغباتهم هم في توظيف الموت؛ موت (المغني) لصالح شحنات سالبة تخصهم، هو غاضبون لأنفسهم، منفعلون بأشكال من الغضب تخصهم، وجدوا في هذه الحادثة فرصة مواتية للتعبير عن غضبهم، لم يكن رحيل المغني إلا فرصة للشروع في أفكار أخرى. وما فعله المتظاهرون من أجل الجثمان، من عنف وتكسير وتظاهر، يصرخون بأعلى صوتهم (لا ننساك يا محمود) والبعض يملك حاسة رقيقة يقول (سكت الرباب) وآخرون يتجشمون بارتقاء جسدي (ساب البلد) وهذه العبارات على بساطتها ومعرفتي بمصدرها، لكن ما أوقفني فعلاً هو القدرة السريعة على التعبير وصك المصطلحات مشاركة في عزاء الفقيد، هو أننا ولفترة طويلة ظللنا نقول أن هؤلاء الشباب منهارون من الناحية الفكرية، وممتنعون عن الإبداع الفردي، ولعمري ما خرجوهم هذا إلا مشهداً جديداً من مشاهد المعرفة الكامنة، هم حين يجتمعون وبصدق نية شديدة، ووفاء عظيم لهذا البلد، خرجوا وصرخوا كمن فقد معيله، فقد كفيله العاطفي، فقط مرآته التي يفرغ فيها كل شجونه، ويبثها شكواه، فمحمود عندهم كان رمزاً لحلم ضائع، حلمُ العالم الثالث في أن تتحول أحلامه إلى حقوق، وأفكاره إلى وقائع، وأخطاءه إلى معارف جديدة تضيء الطرق أمامه ليعبر للنهاية..! محمود (المغني) الذي احترق؛ احترق لأنه اختار مهمة كبيرة، وصحيح قد ينظر لسلوك الرجل (يرحمه الله ويرحمنا معه) بأنه قدوة غير حسنة للشباب، لكن من يطلق مثل هذه الأحكام يستند إلى خلفية قانونية إنجليزية، مهمومة بالجريمة والعقاب، أما اعتباره قدوة فليس من الضرورة أن يمثل قدوة حسنة بمعايير آخرين، هو هكذا عاش واعتاش واستقر قلبه على نوع معين من الحياة، وليس من الضرورة أن يكون (المغني) قديساً أو صاحب سلوك عظيم ومبجل، فأبو الطيب المتنبئ على عظمة بيانه لم يكن في نظر الكثيرين سوى انتهازي وبائع رخص للكلمات والأحاسيس، وامرؤ القيس على قوة عارضته الشعرية، كان (هلاساً) أنأتي لنمنع الناس من إرهاف السمع لعجيباتهم من الكلم، بدواعي أمنية؟! فتطابق السلوك مع المعرفة ليس أمراً واجباً، ولا يتاح لبشر خطاء ومؤذي أن يكون مثالاً قيمياً ونموذجاً لا يأتيه الباطل أبداً..! علينا أن نفهم كيف نستطيع دراسة الواقع قبل الشروع في تغييره؟ علينا فهم طبيعة وجودنا الإبداعي، جوهر حكمتنا الحياتية، ومن يستمع الآن إلى أغانينا سيفهم إلى أي مدى كان من الأفضل لنا أن نبقي على تراث الحقيبة وأن نسمح للنهر الإبداعي بالجريان وفق إرادته، وصدقوني الكلمة لا تؤذي أحداً، إلا إذا تعمد أحد إقصاءها... فهل محمود الذي احترق.. أما الجيل...؟ نلتقيكم الاسبوع القادم وتكملة لمقال الأول حول أحمد خير المحامي المغبون..