كثيرةٌ هي المواقف التي تجعلكَ تجْرد سبحةَ أيَّامك أو تتحسَّس جيبَ الماضي الخلفي أو تمسح برأسٍ سقط عن ثُلْثَيْها الشَّعَر سهْواً لتبعثَ تنهيدةً من غيابت سِجنِ الجوْف عبر دِلاءِ التذكُّر والاجترار لا حسرةً على شئٍ ولَّى ، إنَّما إنصافاً للحاضر أو توقيعاً على عرضحال اضطراري ! لا أذكُر أني دخلتُ قِسْماً للشُرطةِ قط - وأنا الآن أُناهزُ الرُبعَ الأخير من العقد الثالث من عمري – لا جانياً ولا مَجنيَّاً عليه ولا شاهداً ولا مُستخرجاً تصديقِ إقامة حفلٍ حتى ! وهذا ليس ادِّعاءً للمثالية ، أو قدْحاً في روَّاد مراكز الشُرطة غضَّ النظر عن الدواعي ، كما أنَّه ليس رهبةً من .. أو خوفاً على .. أو جفوةً ل .. أو زُهداً في .. إنَّما اليوم فعلت ! مثل الكثيرين من أبناء بلادي كنتُ قد هَممْتُ بالنهوض كعُقاب عباس محمود العقَّاد الذي (يَهُّمُّ ، ويُعْييْه النهوضُ ، فَيَجْثِمُ** وَيَعْزِمُ ، إلاَّ ريشَهُ ليس يَعْزِمُ ) ولكنَّ (القدم ليهو رافع ) ! فما بين التحليق الشاعري وطيران عبَّاس بن فرناس وتخبُّط (ديك الفدَّارية) نصف المخمور خيطٌ رفيعٌ مثل ذلك الخيط الذي يشدُّ الإنسان على الأرض التي تعفَّرتْ بها يداه وقدماه ، و حرثَها بمعاول الكدِّ الحلال ورواها بطيبِ العرَق النبيل وعزَقها بالصبر الجميل قبل أن تُؤتي أُكُلَها ! وما بين رَحابة البلاد وضيق أخلاق الرجال ، أو ضيف البلاد ورحابة أخلاق الرجال ؛ ثُقبٌ لا يُرى بالعين المجرَّدة لزرقاوات اليمامة ، غير أنَّ جمَلَ الابتلاء يُمكن أن يلجَه دونما رُغاء أو انحناء ! هأنذا أدخل بسلامٍ ، آمنٍ وبرئٍ براءة (قرنْتيَّة ) هاشم صديق التي : (لا بلعتْ عديل السوق.. لا نضمتْ بدون طايوق ..لا كنزتْ دهبْ أو ماس .. لا ظلمتْ بدون احساس.. لا كتمتْ على الأنفاس ! ) بل جئتُ ألقي بسهمي مثل الضحايا الكثيرين الذين ابتلع جهدهم وعرقهم وقوت أبناءِهم ذلك الرَّبْع البدين الذي يرفل الآن – خلف القضبان – في أسمال أناقته الرثَّة و كرشه التي تخلَّى عنها رداءُها وتخلًَّت بين معطفٍ مسْحوتٍ كجناحي (ديك الفدَّارية) سالف الذكر ! قد جاء ذلكم المِسْخُ من وراء البحار ومن خلف الحدود ماخراً أرض النقاء والصفاء والطيبة بمنقارٍ غير منقارنا ولسانٍ غير لساننا .. فكلَّما بزغتْ حبَّةٌ في سُنبلةٍ ؛ انتقدها وهو يواصل مشيته الداجنة وخطواته الرعناء واستداراته اللاحمة وصياحه المُتخَم النشاز ! كانت الساعة تُشير إلى ما بعد الواحدة ظُهراً بقليل ..أخرجتُ (سنَد القبض ) ثم تلفَّتُّ تلفُّتَ الحَيْران الذي لا يدري من أين يبدأ والصور والأصوات تتقاطع أمامه ..فتيات أجنبيَّات يغطِّين رؤوسهنَّ بتكلَّف واضح يُملين على أحد الحواسيب بعضَ همْهمات .. تكدّس بشري عند شبابيك الإجراءات وأعناق مشرئبَّات ونظراتٌ طائشاتٌ لدى منفذ الحراسة ..طفقتُ أسالُ دهليزاً عن دهليز ومُنعطَفاً عن زقاق وصمتاً عن إعراض أو تشاغل أو انشغال ، حتى مثلتُ بين يديّ السيد (وكيل النيابة ) الذي أفادني بأنَّ العمل يتوقَّف عند الواحدة ظُهراًَ ويُستأنف عند الثالثة بعد الظُهر ! إذن لا مناص من تزجية الوقت في حضرة بائعة الشاي الثرثارة .. قهوة تقيلة لو سمحت ..(حاااااضر .. انت قضيْتك شنو ؟ عايز عرضحالجي ؟ ).. عايز قهوة بالزنجبيل ! (بنات الزمن ده بلبسو ضيِّق ليه أنا ما عارفه ! شوف زي الماشه ديك عليك الله ! هسه كان جسمها بقى معقول شويه نقول) !....(بنت جيرانا عندما تأتي من الجامعة تستعين بأخيها الصغير (تَنَنْ) وهاك يا معافرة وملاواة وكواريك ونهِّير للشافع لا حدِّي المغرب يأذِّن ! بنطلون الكبَّايه ده صعب والله ! .... قبل كم كده جات واحدة (قاضي) قفلتْ الملازم بي عربيتها ، قام الملازم نادى العسكري الكان بشرب جبنة عندي هنا أمشْ جيب رخصة المرة دي ، أنقُرْ عملتْ شنو ؟ قامت طلعَّت ليهو الاستمارة ، زولك بقى يبرطِع ، جاني راجع قال لي ياخ دي طيَّرتها لينا في رأسنا! و... و... عندالثالثة تماماً أحصُل على ورقة تحوي اسم الشاكي والمشتكَي ..انتظر بعد نصف ساعة أو يزيد ، أقابل وكيل النيابة ، أعود مرَّةً أُخرى إلى حيث استلمت الورقة لغرض مهْرها بالختم .. أذهب إلى مكتب المتحرِّي ، ولكن المتحرِّي – كما تقول جَدَّتي – (يدخل ويمرُق زيَّ أم العروس ) !بعد نصف ساعة استطيع أن أقنعه بالاستماع إلىَّ وبنظرةٍ خاطفةٍ منه يقول : كان ينبغي عليك أن تقابل الضابط المناوب أولاً للتصديق ، ثم تذهب بعد ذلك إلى قسم البلاغات ثم تشرِّفنا بعد ذلك ! هنالك انتظر ما شاء لهم قبل أن أعود مرَّةً أُخرى إلى مكتب المتحرِّي لأقف مع الواقفين إلى ما بعد السادسة مساءً ! الحمدُ لله بعد خمس ساعاتٍ حسوماً ، استطعتُ أن أقطعَ شوطاً كبيراً في عملية فتح العريضة ضدَّ مُتَّهمٍ هو بحوزةِ النيابة أصلاً، فكثيراً ما كنتُ أسمع أثناء تطوافي بين المكاتب والشبابيك : (انت برضو إليون ! إليون تااااني ! الزول ده عجيب!) الآن علىَّ أن آتي بعد يومِ غدٍ بشاهدٍ رُغم تقديمي مستند (سند القبض) حتى يتسنى لي استلام أمر القبض الذي سيكون في انتظار المتهم عُقيب خروجه مباشرةً من مصائبه (المتلْتلة) التي جنتْها يداه ! خلصتُ من كلِّ هذه المعمعة – عزيزي القارئ- بالآتي وهو الحُكم بالبراءة مع الاحتفاظ بحقِّ ردِّ الشرف للمقولة السائدة ( ما تجي من تلْتلتْها ) ! والتي كنتُ أظنُّها قبلاً انهزاميَّةً وجُبناً وسلبيَّة في حقِّ الناطقين بها أو الفاعلين بمعانيها من جهةٍ ، ومن جهةٍ أُخرى إحدى مُقبِّلات الجور أو محفِّزاً للظالمين إذْ يستمرؤون لعق أصابعهم أنْ هل مِن مزيد ؟! رُفعتْ الجلسةُ إلى أجلٍ غير مُسمَّى !!