الاشارات والتصريحات الصادرة مؤخرا من الوزير اليوغندي ثم من رئيس جمهورية جنوب افريقيا الجديد جاكوب زوما بما يفيد التنصل عن الموقف الجماعي للاتحاد الافريقي حول مذكرة المحكمة الجنائيه، تنسجم مع الموقف الامريكي كما عبرت عنه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون يوم 6 اغسطس الماضي في نيروبي قائلة : " من المؤسف للغايه ان الولاياتالمتحدة ليست من الدول التي صدقت علي معاهدة المحكمه " . والمعروف ان الادارة الامريكية الديموقراطية السابقه برئاسة بيل كلينتون كانت قد وقعت علي ميثاق روما ولكن الكونقرس رفض المصادقة عليها وهوموقف تبنته فيما بعد ادارة الجمهوريين التي خلفتها. الارجح ان الايماءات والتصريحات اليوغنديه والجنوب افريقيه وراءها رغبة في استثمار جولة وزيرة الخارجية الامريكيه لتطوير العلاقات الثنائية مع الولاياتالمتحده ولكن استعراضا لتاريخ نشوء وتطور مشروع المحكمة الجنائية الدوليه يوضح ان هناك اسبابا اعمق يستحسن الالمام بها تعزيزا لأي جهد دبلوماسي سوداني في التعامل مع هذه التراجعات لاسيما وان أسماء عددا من الشخصيات الافريقيه تبرز في هذا التاريخ. مشروع المحكمة الجنائية الدوليه أتي ويأتي ضمن توجه دولي لاعادة تعريف مفهوم السيادة الوطنيه اكتسب قوة دافعه كبري من المجازر التي ارتكبت ضد مسلمي يوغسلافيا السابقه في سريبرينتسا قبل أربعة عشر عاما ثم في مقاطعة كورسوفو بعدها ببضعة اعوام، ومن مجزرة التوتسي علي يد الهوتو في رواندا خلال 94-95 . بيد ان جذور الفكره تغور أبعد من ذلك إذ تعود الي نشوء مفهوم " الجرائم ضد الانسانيه " مرتبطا بمحاكمات القادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانيه. وهو مفهوم يشير الي ارتكابات داخل حدود دوله معينه وليس بينها ودولة اخري وذلك حسب مجري التفكير السائد وقتها والذي نبعت منه صياغة مبدأ عدم التدخل في ميثاق الاممالمتحده (الفقره 2 من المادة السابعة في ميثاق الاممالمتحده حول عدم السماح بالتدخل في شئون تقع ضمن الصلاحيات الداخلية لاي دوله ). وبالرغم من ان " معاهدة الاباده الجماعيه " التي تم توقيعها بعد ذلك بثلاث سنوات المحت لاول مره الي امكانية اختراق مبدأ تحريم التدخل الخارجي الا ان الامر توقف عند هذا الحد تحت تأثير عاملين هما صراعات الحرب البارده والحساسية العالية لدي الدول الحديثة الاستقلال لاي توجه يشتم منه رائحة النيل منه. ومع انخفاض تأثير العامل الاخير بمرور الوقت وانتهاء الحرب البارده أواخر الثمانينيات الذي انفجرت بعده ايضا عدة حالات اعتداء علي المجموعات الدينية المسلمه وغير المسلمه في يوغوسلافيا السابقه، اشتد الضغط علي الضمير الانساني، فصدر نداء من كوفي أنان الامين العام السابق للامم المتحده عام 2000 تشكلت علي اثره بمبادرة من كندا لجنة تولي رئاستها المشتركة الدبلوماسي الجزائري محمد سحنون مستشار الامين العام للشئون الافريقيه والسياسي الاسترالي إيفانز، خرجت عام 2001 بتقرير عنوانه " مسئولية الحمايه". سعي التقرير الي إيجاد صيغة مفهومية وقانونيه تجمع بين احترام السيادة الوطنيه ومسئولية الدول عن حماية المجموعات السكانية المعرضة للانتهاكات الفظيعه جراء المجاعات او الحروب الاهليه الخ.. الخ..وبينما يتراوح دور المجتمع الدولي ممثلا في مجلس الامن، وفقا لهذا التقرير، بين المبادره بمنع وقوع الانتهاكات والتدخل القسري كملجأ أخير لمنع استمرارها، اقترح التقرير اشكالا متدرجة من التدخل تنتهي في حال فشلها الي التدخل القسري بشروط ومواصفات تكاد تجعل منه امرا نظريا ، مقترنة بالمسئولية الدولية عن إعادة بناء مايتهدم اثناء هذا النوع من التدخل. التقرير شدد علي ضرورة توفر شروط معينه للتدخل في حده الاقصي : ضخامة الانتهاكات المتوقعه خاصة فيما يتعلق بالخسائر البشريه، ماإذا كانت هناك بدائل سلمية للتدخل العسكري، توفر الوسائل اللازمة لمثل هذا التدخل، تناسب حجم التدخل مع حجم الانتهاكات ثم تقدير حصيلته مقارنا بين ايجابياته وسلبياته. فأذا اضفنا لهذه الشروط والمواصفات حقيقة ان توفرها من عدمه في حالة معينه رهين بأتفاق الدول الاعضاء في مجلس الامن، يصبح الموضوع اكثر تعقيدا مما هو عليه اصلا لان المصالح والتوجهات التي تتحكم في موقف اي من الدول الاعضاء عنصر مؤثر للغايه في موافقتها او عدم موافقتها علي وقوع الانتهاكات بصرف النظر عن حجمها الفعلي وبعد هذا وقبله هناك السؤال حول ماإذا كان مجلس الامن سيتبني مبدأ " مسئولية الحمايه" كعرف دولي بما يجعله ملزما للدول الاعضاء، ام لا . مع ذلك لايجدر الاستهانة بمدي تأثير هذا التطور في مفاهيم القانون الدولي علي بعض العقليات والاوساط الرسمية وغير الرسميه، خاصة الافريقية. يذكر في هذا الاطار أن رؤساء الدول الاعضاء في الاممالمتحده كانوا أثناء اجتماعهم عام 2005 قد أصدروا وثيقة مستوحاة من اعمال اللجنه، وافق عليها مجلس الامن فيما بعد، نصت علي التزامهم ب : " اتخاذ خطوات جماعيه بسرعة وحزم من خلال مجلس الامن تمشيا مع الميثاق، بما في ذلك الفصل السابع، علي اساس كل حالة علي حده وبالتعاون مع المنظمات الاقليمية المعنيه اذا ثبت عدم كفاية الوسائل السلميه وتأكد عدم قدرة السلطات الوطنيه علي حماية مواطنيها من الابادة الجماعيه" ، مايعتبر التزاما بالفكرة الاساسية وراء مبدأ مسئولية الحمايه الذي جري تداول جوهره في أروقة " الاتحاد الافريقي" ايضا. هذا من جهه، ومن جهة اخري فقد تتابعت علي منصة تأييد هذا المبدأ مجموعة من الشخصيات الافريقية وغير الافريقية ذات الوزن المعنوي المعتبر مثل القس دزموند توتو، الاب الروحي لحركة التحرير من نظام الفصل العنصري ويوسكا فيشر ممثل حزب الخضر ووزير خارجة المانيا السابق وبرنارد كوشنير مؤسس اطباء بلا حدود ووزير الخارجية الفرنسي الحالي والايرلنديه ميري روبنسون المندوب السامي السابق لحقوق الانسان في الاممالمتحده وفرانسيس دينق المستشار الخاص للامين العام لشئون منع الاباده الجماعيه علما بأن شخصيات افريقية اخري مثل سيريل رامافوزا السكرتيرالسابق للاتحاد الوطني الافريقي ANC واخري من اسيا وامريكا اللاتينيه وروسيا شاركت في إعداد الوثائق. متابعة هذا السياق والمناخ الدولي ذي الابعاد العالمثالثيه لتاريخ المحكمة الجنائيه ضرورية عند التخطيط لكيفية التعاطي مع هذا الموضوع لانها تكشف عن الدوافع المختلفه وراء الاهتمام الكبير بقضية دار فور الذي ساعد عليه ان انفجار العمل المسلح فيها كان قد صادف الذكري العاشرة لمذابح رواندا، ووصل قمته بصدور مذكرة المدعي العام ضد رئيس الجمهوريه. وواضح ان ابرز ماتكشف عنه هذه المتابعه، ومن افضل مصادرها كتاب صدر مؤخرا باللغة الانجليزيه لقاريث ايفانز، الاحتمال الكبير لكون موقفي يوغندا وجنوب افريقيا متصلان بشكل من الاشكال بالحضور الافريقي الملموس في المراحل الاخيرة لتبلور الافكار والقرارات الرئيسية التي نبعت منها المحكمة الجنائيه كمؤسسه. ولعل من المفيد الاشارة هنا الي الفرق بين استقبال هذاالنوع من التطورات الناشئة في محاضن غربيه أو دوليه متأثرة بها في الفضاء الافريقي واستقباله في الفضاء العربي والمسلم عموما. في الاخير تعتبر مثل هذا التطورات ولاسيما مبدأ " مسئولية الحمايه " غطاء جديدا براقا لتوسيع النفوذ الغربي الاقتصادي والسياسي غض النظر عن توقيع بعض رؤساء دول هذا الفضاء علي الميثاق المشار اليه سابقا في الاممالمتحده واخرون كأعضاء في الاتحاد الافريقي. ومرد التعقيد هنا ان كل مايصدر عن الغرب يرن في العقلية السائدة بصدي استهداف الاسلام والعروبه نظرا للصراعات القائمة معه بالذات حول القضية الفلسطينيه ولتصاعد نفوذ التيارات السياسية الدينية المنحي. من هنا يغدو من الصعب الفرز بين اصحاب المخاوف الحقيقيه القابلة للنقاش وتلك المفتعله دفاعا عن مصالح وافكار متحجره. ومع الاقرار بأن الحكومات الغربيه لاتحركها اعتبارات إنسانية صرفه وأن أي فكره مهما كان نبلها وسلامتها معرضة للاستغلال بعكس مراميها، يبقي المهم هو توليد المناعة الذاتية اللازمة لمنع حدوث مثل هذا الاستغلال في المجتمعات والانظمة السياسية المعنية ومن أهم اركانه تنمية مقدرة فرز الطيب من الخبيث في دوافع الرفض.