منذ انفصال جنوب السودان فى بواكير العام 2011 لم تراوح توترات العلاقات بين البلدين مكانها ، فما ان يتم احتواء ازمة تظهر ازمة جديدة اشد تعقيدا من سابقتها . جنوب السودان لم يستطع التغلب على مرارة الحرب ومن الظن ان الشمال والجلابة هم السبب المباشر لما عاناه من مآسى وويلات منذ خمسينات القرن الماضى ،ولذلك ظل متعنتا فى مواقفه فى جولات التفاوض المختلفة ويريد الحصول على اكبر المكاسب كتعويض مبرر لهذه المعاناة ، السودان ايضا يدفع ثمن مبرر لفشله فى حسم جميع القضايا العالقة فى اطار الدولة الواحدة وكانت نتيجة هذا التهاون الجولات المكوكية للحل دون نتائج ملموسة ويعلم الله متى تنتهى وكيف . أزمة دولتى السودان اعيت المداوين من الوسطاء فى دول الجوار واصبحت قضيتهما ضيفا دائما على موائد تجمعات الافارقة فى كل وقت ، كما اصبحت الهم الشاغل للأتحاد الافريقى ووساطته . الشاهد ان دولتى السودان تحكمهما علاقات واواصر تاريخية وثقافية لايمكن الاستغناء عنها او القاءها خلف الظهر واذا كان الساسة فى البلدين يتجاهلون هذه المسلمات فلابد من حثهم لاستصحابها ، فجنوب السودان والسودان شئنا ام ابينا كانا دولة واحدة ورغم الحرب والمرارة الا ان الجنوبى كان يعيش فى الخرطوم فى امان وكذلك الشمالى يمارس تجارته فى جنوب السودان فى امان ولذلك ليس من السهل فصم هذه العرى بين يوم وليلة وبامر الساسة . جنوب السودان لاسباب يعلمها لا يستجيب لطلب السودان بفك ارتباطه مع الحركة الشعبية شمال وهذه المعضلة هى العقبة التى تقف فى طريق حل جميع القضايا العالقة وبما ان قطاع الشمال يجد السند والمتكأ والدعم من دولة الجنوب فهذا يزيد من فرص فرض المزيد من الشروط ، مع غياب وضوح اجندة التفاوض خلال الجولة المقرر لها 15 فبراير الجارى اى بعد ثلاث ايام من الآن . فك الارتباط ومصالح جنوب السودان :- قطاع الشمال اصبح يقف عقبة كؤود فى طريق تطبيع العلاقات بين دولتى السودان ففى الوقت الذى تصر فيه جنوب السودان على الاحتفاظ بهذه العلاقة على حساب مصالحها مع الشمال ، ترفض دولة السودان مناقشة اى من القضايا الخلافية لان كل ذلك مرهون بفك الارتباط مع قطاع الشمال وفى ظل هذا التعنت يقف قطار اتفاقيات اديس التسعة دون تقدم ويبقى الحال على ماهو عليه . وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين أكد فى تصريحات صحفية عقب فشل احدى جولات التفاوض يناير المنصرم أكد التزام السودان بمواصلة الحوار للتوصل لاتفاق وإتباع سياسة النفس الطويل، وكشف عن طلب وضعته الخرطوم امام رئيس الوساطة الأفريقية لعقد اجتماع طارئ لمناقشة فك الارتباط بين الجنوب وقطاع الشمال وايواء جوبا لقادة المسلحين المناوئين للخرطوم متهما الجنوب بالتراجع عن الاتفاق الخاص بتعريف منطقة الميل 14 وكيفية جعلها منطقة منزوعة السلاح، ووصف مواقف جوبا بالمتذبذبة . تمسك جنوب السودان بقطاع الشمال على حساب مصالحه مع دولة السودان وعجزه عن فك الارتباط فسرته صحيفة "الاكونومست" البريطانية في عددها الصادر فى 12 يناير المنصرم أنه بسبب جنرالات الجيش الشعبي الداعمين والموالين للقطاع وقالت الصحيفة : ان الرئيس "سلفاكير ميارديت" عاجز عن قطع علاقته بقطاع الشمال بسبب هؤلاء الجنرالات ، وإستبعدت الصحف البريطانية نجاح مسألة فك الإرتباط بين جوبا وقطاع الشمال ، وذكرت أن الفكرة لا تحظى بشعبية وسط جنرالات الجيش الشعبي ، ووصفت العلاقة بين الجيش الشعبي وقادة قطاع الشمال بالمتينة ، وقالت أنهم أصدقاء وجزمت أن فكرة دعم قطاع الشمال من قِبل الجيش الشعبي متولدة داخل جنرالات الجيش الشعبي كهدف . ورسمت في الوقت نفسه سيناريو دمغته بالمرعب لمستقبل سلفاكير حالما قام فعلياً بفك الإرتباط ، ولم تستبعد الإنقلاب عليه من قبل جنرالات الجيش . ولعل الخوف من فك الارتباط هو الذى حمل جوبا على رفض آليات متابعة فك الارتباط التى اقترحتها الخرطوم يناير المنصرم فقد اصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانا نددت فيه برفض حكومة الجنوب تشكيل آليات للمراقبة والتحقق من فك الإرتباط بين جيشها والتمرد بالمنطقتين (جنوب كردفان والنيل الازرق )، واتهم البيان الجنوب بعدم الجدية . اذن علاقة جوبا بقطاع الشمال اصبحت سلاح ذو حدين فمن جهة فان هذه العلاقة تهدد مصالح جوبا مع الخرطوم خاصة الاقتصادية والتى هى فى اشد الحاجة اليها الآن فى ظل الاوضاع المتردية الراهنة فى جنوب السودان ، ومن جهة اخرى فان فك الارتباط يهدد سلفا نفسه اذا فكر جديا بفك هذا الارتباط فقد تطيح به جنرالات الجيش الموالية لقطاع الشمال وهى جماعات ضغط شديدة ، اذن فك الارتباط يحتاج الى جرأة كبيرة قد لاتتسنى لسلفا فى الوقت الحالى فهو لا يستطيع الانقلاب على جنرالات الجيش الشعبى التى تستعصم بقبائلها وسلاحها والا اذن بحرب كبيرة قد تقضى على الجنوب وتمرد لن يستطيع السيطرة عليه ، اذن ليس امام سلفا الا المناورة بفك الارتباط دون القدرة الفعلية على ذلك وهذا بدوره يضعف فرص حوار الشمال مع الجنوب من جهة ، كما يضعف فرص حوار الشمال مع القطاع من جهة اخرى لان الغطاء المتوفر للقطاع من جوبا سيمكنه من اكتساب ارضية قوية تتكسر عندها المفاوضات ومطالب الحكومة للقطاع بالعودة للداخل . جنوب السودان أزمات داخلية وخارجية :- التوصل الى حلول وتنفيذ اتفاقيات اديس التسعة لابد ان يكون هو مطلب الجنوب فى الوقت الراهن ذلك أنه وبعد ثلاثة اجتماعات على مستوى القمة بين السودان وجنوب السودان ، منذ سبتبر الماضى، لازالت اتفاقات التعاون التسع التى وقعها الطرفان، حينذاك فى اديس ابابا معلقة، ولازال اتفاق البترول، الذى يمثل اولوية للجنوب والمجتمع الدولى رهينا بانفاذ الاتفاق الامنى وفك الارتباط بحسب مطالب حكومة الشمال وبالتالى تحسن الاوضاع على الارض فى ولايتى جنوب كردفان والنيل الازرق الحدوديتين ، لكن تعنت جنوب السودان لازال مستمرا رغم ماكشفته تقارير صحفية عن إنقسامات وسط حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكم في دولة جنوب السودان مع إقتراب موعد الإنتخابات العامة ، وسط توقعات بأن تؤدي الخلافات الى تفكيك الحزب ، رغم جهود رأب الصدع ، من خلال مؤتمر إستثنائي للحزب اواخر الشهر الجاري وقد اقرت بذلك آن أيتو نائبة الأمين العام للحركة الشعبية في تصريحات صحفية ، واكدت إن الحزب يعاني من مشكلات داخلية تحتاج إلى حلول عاجلة قبل تفاقمها. وبحسب الجزيرة نت فان تحليلات العديد من المراقبين تشير الى ان الوضع السياسي بجنوب السودان يشير إلى أن تفكك الحزب الحاكم يعني أن البلاد ستعاني من أزمة عدم استقرار سياسي وأمني، مع مخاوف من تكرار الأحداث التي صاحبت انشقاق الحركة الشعبية عام 1991، حيث اندلع اقتتال قبلي حاد بين المكونات العرقية للجنوب . كذلك يعانى جنوب السودان من مجاعة فقد أطلقت جمهورية جنوب السودان نداء إلى المنظمات الإنسانية لتقديم الغذاء إلى سكان ولاية شرق الاستوائية بعد المجاعة التي ضربت الولاية وأدت إلى وفاة 11 من مواطنيها الأسبوع الماضي،وبحسب الشرق الاوسط فان جنوب السودان لم تعلن الطوارىء بعد ولكنها حذرت من أن يؤدي نقص الغذاء في 3 ولايات أخرى إلى كارثة ، واعترف ناطق الحكومة الرسمى برناما بنجامين للشرق الاوسط بأن الدولة لم يكن لديها مخزون كافٍ من الغذاء لمواجهة المجاعة . الشاهد ان ازمات الجنوب الداخلية لاتنفصل عن ازماته الخارجية فالسياسة التى تتبعها جنوب السودان تجاه علاقتها بالخرطوم تعتبر جزء من هذه الازمة فعدم المرونه التى تبديها حكومة الجنوب بشأن النفط وقرارها الارتجالى بايقاف ضخ النفط تدفع ثمنه الآن صراعات داخلية ومجاعة فالبراغماتية والتفكير العملى يقول ان تصدير البترول عبر الشمال الآن هو الاولوية لحكومة الجنوب لانقاذ مايمكن انقاذه ، والا ستجد نفسها فى مواجهة ازمات داخلية اخرى بسبب مثل هذا التفكير خاصة مع تنصل المجتمع الدولى من التزاماته الانسانية تجاه كارثة المجاعة فى جنوب السودان فقد اكد وزير الشؤون الإنسانية وإدارة الكوارث في جنوب السودان جوزيف لوال اشويل في تصريحات صحفية إن البلاد بحاجة إلى 1.2 مليار دولار لتوفير الغذاء لإنقاذ الأوضاع حتى لا تصل إلى مرحلة الكارثة، وأقر بضعف استجابة المنظمات الدولية للنداء رغم إلمامها بخطورة الموقف الإنساني منذ يوليو الماضي، مجددا نداء حكومته إلى المنظمات والدول المانحة إلى تقديم العون للمواطنين في المناطق المنكوبة . اذن ربما يفسر هذا ان المجتمع الدولى نفسه كان على علم بنتائج تفكير جنوب السودان ولذلك ظل يدفع بشدة فى اتجاه اصلاح العلاقات وراب الصدع بين الشمال والجنوب لعلمه ان الاتفاقات الاقتصادية بين البلدين وتصدير النفط من شأنه توفير اموال للجنوب تمنعه من ان يكون عالة على المجتمع الدولى الذى يخشى ذلك ، وقد طالبت كل امريكا والصين البلدين مرارا وتكرار لتجاوز خلافاتهما لمصلحة شعبيهما . اتهامات متبادلة وتوتر ينذر بحرب :- مؤشرات التوتر بين البلدين فى ارتفاع مستمر ولا زالت الاتهامات المتبادلة بين البلدين هى سيدة الموقف ذلك اذا علمتنا انه تبقى للمفاوضات بين البلدين حوالى ثلاثة ايام وفى غضون ذلك اتهمت جنوب السودان الحكومة السودانية بانها تقوم بحشد قواتها على منطقة هجليج الغنية بالنفط ، كما اكدت أن الجيش السوداني قام بإنشاء مطار حربي في هجليج وجاء بمروحيات ومقاتلات إلى المنطقة وتم نقل جنود وآليات عسكرية ثقيلة جوا وبرا ، الحكومة السودانية من جانبها اتهمت الجنوب بدعم متمردين سودانيين وايوائهم، لكن الناطق الرسمى للقوات المسلحة الصوارمى خالد سعد ،قلل من اهمية تلك التحشدات ووصف التقارير الصحفية بهذا الخصوص بانها تتسم بالمبالغة، قائلا "إن هنالك أصلاً قوات جنوبية متواجدة داخل أراضيها، ولا علاقة لنا بها، ولم نشهد لها تعزيزاً يمثل تهديداً على هجليج". لكنه مع ذلك، اتهم الجنوب بعدم سحب قواته ، كما ادعت حكومة الجنوب فى وقت سابق، مما اعتبر علامة حسن نية وقال الصوارمى بحسب سونا : ان قوات دولة الجنوب مازالت موجودة في ست نقاط، مما يشكل رفضاً واضحاً لتنفيذ خارطة طريق مجلس السلم والأمن الأفريقي، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2046 وجميع الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، خاصة اتفاقية الترتيبات الأمنية الموقعة في سبتمبر 2012 بأديس أبابا، وخطة توقيتات تنفيذ الترتيبات الأمنية، المقدمة من قائد قوة الأممالمتحدة الأمنية المؤقتة في أبيي، (يونيسفا) والمؤيدة من قبل الآلية السياسية والأمنية المشتركة . الاستاذ عبد الله رزق الكاتب والمحلل السياسى يرى ان مثل هذه الاتهامات باتت جاهزة ، منذ استقلال الجنوب ،لاستخدامها فى كل فى كل مرة تتعثر فيها المفاوضات بين البلدين بشأن القضايا العالقة، وتنتهى الى الفشل عادة ، ومن ثم تشتعل التوترات، وبمفرداتها المختلفة ، وقال : ان التوترات بين كل جولة تفاوض واخرى من شأنها افشال هذه الجولات . ووصف رزق الوضع الراهن بالكاركتيرى وقال للمشهد الآن : الوضع، الذى يبدو كاريكاتيريا، يظل ينذر- فى كل مرة - باحتمال تدهور العلاقة بين البلدين وانحدارها فى اتجاه الحرب.الامر الذى قد يجعل من التفاوض المستدام ، غاية فى حد ذاته ، فى حسابات الاتحاد الافريقى ، كحاجز مؤقت لصد احتمال الحرب . مفاوضات 15 فبراير :- من المقرر ان يعود البلدان للتفاوض ،مرة اخرى، فى الخامس عشر من الشهر الجارى ، على ان تسبق اجتماعاتهما فى اديس ابابا، بدء جولة من المحادثات بين الحكومة والحركة الشعبية – قطاع الشمال، وفق اقتراح الوساطة الافريقية،غير ان الحكومة ، التى لاتزال تتحفظ على التفاوض مع قطاع الشمال،ربطت التفاوض مع "القطاع" بفك ارتباطه بالجنوب، مما يعنى اعادة الكرة مرة ثانية لملعب الجنوب. الاستاذ عبد الله رزق يرى ان مفاوضات منتصف فبراير المقبلة المزدوجة ، لابد لها من ان تتكرس كليا ،وفى كلا المسارين، لفك تلك عقدة الارتباط من خلال مفاوضات غير مباشرة بين الاطراف الثلاثة خلال وجودها معا فى العاصمة الاثيوبية وقال : بدون توافق الاطراف الثلاثة ، سواء عبر محادثات مباشرة او غير مباشرة، حول فك الارتباط ومضمونه ، فانه يتعذر الانتقال الى وضع جديد، او مربع جديد خلافا لمربع الفشل الذى توقفت عنده المفاوضات فى كل مرة . [email protected] //////////////