في عام 1978، لزم والدي، رحمه الله، فراش المرض في مستشفى مدينة مروي، فهرعت من الخرطوم للإطمئنان على صحته. وجدته في شبه غيبوبة، وهالني ما قرأته على سجله المرضي المعلق في نهاية سريره إذ جاء فيه ما يلي: "الأسم: فلان الفلاني؛ العمر: كذا سنة؛ المهنة: أهالي!" وللعلم، كانت كلمة "أهالي" – وهي ترجمة لكلمةnatives الإنجليزية - هي الصفة التي كان الإداريون البريطانيون يُطلقونها على عموم أهل السودان ممن هم خارج النُخبة المحدودة العدد من موظفي الحكومة والتجار والمهنيين. بعد أكثر من عقدين منذ رحيل استقلال البلاد، وصف الطبيب السوداني الشاب (والوحيد في المستشفى) مهنة والدي بكلمة " أهالي"، وهي وصف لا يختلف كثيرا عن "دهماء" و "رجرجة"! وقد احتج الطبيب الشاب، والذي وصف علِّة والدي بأنها "دوسنتاريا"، حين أنبأته بعزمي على نقل والدي إلى الخرطوم للعلاج، كما احتج كبار الأسرة على قراري على أنه "نقل لجنازة". وقد صدق حدثي واتضح أن ما يُعانيه والدي هو جفاف حاد وفقدان شبه كلمل للسوائل، عولج فقط بأكثر من عشرين كيسا من المحاليل الوريدية في أحد المشافي العامة بالخرطوم، ودون تكلفة تُذكر! يقول الفرنجة، في معرض المدح المُراد به الذم: "بعض أفضل أصدقائي من الأطباء!" وأقولها صادقا ومخلصا بأن بعض أفضل أصدقائي من الأطباء. أعرف فضل الكثيرين منهم وعلمهم وتفانيهم، لذلك أكتب عنهم في حذر، أتحسس موطئ قلمي حتى لا يُؤخذ البرئ بجريرة المذنب، مُدركا أن التعميم في الحديث عن الأطباء فيه إجحاف، مثله مثل التعميم عن أي فئة أخرى، فيها الصالح والطالح، والأمين والمحتال، والصادق والكذوب، والمُجيد وغير المُجيد لعمله ، والغيور والمهمل. غير أن الأطباء ينالون، بطبيعة الحال، التمحيص والنقد أكثر من غيرهم ، ربما لصلة عملهم المباشرة بمسائل الصحة والسقم، والحياة والموت، ولظن الناس أنهم ملائكة الرحمة، يجعل الله الشفاء على أيديهم. مرت منذ عام 1978 مياه كثيرة تحت الجسر، ودماء. اتسعت مؤسسة العلاج الحديث فشملت أعدادا متزايدة من السودانيين رغم انحسار فرص العلاج المجاني، وزيادة أعداد المشافي والمعامل الخاصة، وارتفاع تكلفة الرعاية الطبية والعقاقير والتحاليل. كما ازدادت شكاوى المواطنين مما رأوه جشعا أو إهمالا أو اخطاء فادحة، تصل أحيانا إلى موت المريض ومعاناة ذويه، من الكثير من الأطباء ومؤسسات العلاج الحديثة. ومع الارتفاع الصاروخي لتكلفة العلاج في السودان، وتناقص الثقة في الأطباء، أقبل القادرون على السياحة العلاجية في الأردن ومصر ودول الخليج، أو في بلدان أوروبا لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، بينما لجأ الكثيرون من محدودي الدخل إلى الطب التقليدي والعلاج بالرُقية وبغيرها. ولأن السودانيين قدريون بطبعهم، أحجم الكثيرون حتى حين قريب عن تقديم الشكاوى الرسمية واللجوء للقضاء حتي حين يكادون أن يجزموا أن موت مريضهم، او تدهور حالته الصحية، جاء نتيجة لأخطاء إدارية أو طبية واضحة، وإن لجأ البعض للصحف وللشكوى في محيط الأسرة والأصدفاء. وشملت هذه الشكاوى تواتر جرعات البنج الزائدة القاتلة، وفراغ اسطوانات الأكسجين، ونسيان المشارط والضمادات داخل أجساد المرضى، وأخطاء معامل الفحص، وأخطاء قراءة نتائج الفحص، وأخطاء التشخيص، وأخطاء المتابعة، واخطاء التمريض، وأخطاء الجراحة، وتلوث الجروح داخل المشافي وغير ذلك، ناهيك ما يرونه من غياب الاهتمام وسوء المعاملة، والإصرار على السداد المُقدم حتى في حالات الطوارئ، وغياب الأجهزة اللازمة أو تعطلها حتى في المشافي ذات النجوم الخمس، واجراء عمليات غير ضرورية (مثل عمليات الولادة القيصرية)، وعدم مكاشفة المريض وذويه بحقائق الوضع وبالبدائل والمخاطر، وعدم التقيد باتباع البروتوكولات الصحيحة في الكشف والتشخيص والعلاج. ثم انفجر الوضع في الآونة الأخيرة بتكرار الأخطاء والشكاوى، وأيلولة مستشفيات الخرطوم العامة لسلطات ولاية الخرطوم، وبداية برنامج تجفيف هذه المستشفيات بحجة نقلها أطراف المدينة، والحالات التي تناولتها الصحف ومنها وفاة مريضة بعد بقائها نحو 45 يوما وجروح عمليتها مفتوحة، والاحتجاجات العنيفة لذويها وللكوادر الطبية التي ما فتئت تشتكي من تدهور بيئة العمل الصحي ونقص الأدوية والمعينات. اضف إلى ذلك القرار المُثير للجدل بتعيين طبيب، يمتلك جامعة للعلوم الطبية ومستشفيات خاصة، وزيرا لصحة ولاية الخرطوم وصلته بسياسة تجفيف ونقل المستشفيات العامة، وشبهة تضارب المصالح التي يُُثيرها مثل هذا التعيين مهما بلغت أمانة الوزير وعلمه وتفانيه. لأشك عندي أنه من الصعوبة فصل المشاكل التي تُحيط بقطاع الخدمات الصحية وتدهور هذه الخدمات عن سياسات الحكومة في كل المجالات: الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والادارية والسياسية، وعلى راسها ما أسمي بسياسة "التمكين" التي فُصل بموجبها الكوادر المُدربة في كافة المجالات، وسياسات التوظيف والرواتب التي دفعت بآلاف الأطباء وغيرهم للهجرة خارج الحدود، والسياسات الاقتصادية التي "زايدت" على وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الخصخصة و تخفيض الإنفاق على الخدمات الأساسية من تعليم وصحة على حساب الفقراء، والمنحى التجاري الذي اتبع في تسيير مرافق هذه الخدمات، تخصيص نصيب الأسد من موارد الدولة للقطاعات الأمنية والسيادية، وتدهور مستوى التعليم الأساسي بوقف الصرف عليه من الميزانية العامة، وما أسمي بثورة التعليم العالي التي فُتحت بموجبها عشرات الجامعات "منزوعة الدسم"، بها كليات للطب في غياب التجهيزات والكوادر اللازمة والمستشفيات التعليمية التي لا تكتمل دراسة الطب بدونها، واستشراء المشافي الخاصة دون ضوابط صارمة ورقابة متيقظة لها من جانب الدولة. وفي ظني أن أي اصلاح في قطاع الرعاية الصحية، أو اي قطاع آخر، لن يتم دون اصلاح شامل في الاطار السياسي الأشمل الذي هو وراء كل احتقان. (عن إيلاف والراية القطرية 6 مارس 2013)