كان ذلك في التسعينات حينما مررت أمام مبنى البوستة بأمدرمان حيث يزدهر الكتاب ولا يزال ، باعة يعرضون كتبا بشتى إتجاهاتها ، منها ما هو ملقي على الأرض ومنها ما هو معروض على أرفف الأكشاك المحاذية للمبنى ، يومها وقع نظري على كتيب صغير بحجم الكف بعنوان (أمدرمان حبيبتي) للشاعر الفلسطيني توفيق زياد ، تناولت الكتيب وتصفحته ، وجدت أن صفحاته لا تتعدى حوالي العشرين صفحة ولا أدرى إن كان طبعة مختصرة أم هذا هو حجمه الطبيعي ، المهم ونظرا لإنشغالي بكتب أخرى كنت أقصدها لم تسعفني الظروف لإقتناء ذلك الكتيب وندمت فيما بعد لأنني إفتقدته لاحقا . بالعودة إلى الكتيب نجد أن الشاعر بث فيه أشواقه إلى أمدرمان وعبّر فيها عن أحاسيسه تجاهها ، تلك المدينة التي لم يزرها في الواقع (توفيق زياد) لكنه رآها من خلال زملائه السودانيين الذين زاملوه حينما كان كان يدرس الأدب الروسي في الإتحاد السوفيتي ( سابقا )في حقبة الستينات ، يومها إلتقى بإصدقائه (عثمان وغيرهم) مثلما وردت هذه الأسماء في أبيات ذلك الديوان وتعرّف عليهم عن قرب وعرف صفاتهم وشمائلهم فكان أن ترجم إعجابه بهؤلاء إلى قصيدة ، بثّ فيها حبه لأمدرمان من خلال هؤلاء الشباب الذين جسدوا يومها بلاشك قيّم الإنسان السوداني بكل كبريائه وشهامته وإنفتاحه على الأخر . لم يكتف توفيق زياد إبن مدينة الناصرة والذي تولى رئاسة بلديتها منذ عام1978 حتى وفاته المأساوية عام 1994 بهذا القدر من الحب لهذه المدينة العريقة بل أصدرديوانا أسماه (أمدرمان : المنجل والسيف والنغم) ومع أن هذه القصائد أخذت طابعا سياسيا حيث إهداها لرفاقه في الحزب الشيوعي الذي كما هو معروف صبغته السياسية ، إلا أنها تدلل أيضا على أن أمدرمان كانت لا تزال ماثلة وحاضرة في ذهنه ولعل قصيدته التي مطلعها (أعطني قطعة سكر) تحكي عن ذلك . غني عن القول أن توفيق زياد له الكثير من الأعمال الأدبية التي تتعلق بقضيته الأم ومن أهم أعماله : أشد على أياديكم ، أدفنوا أمواتكم وأنهضوا ، أغنيات الثورة والغضب ، كلمات مقاتلة ، تهليلة الموت والشهادة وغيرها ، لكن يبقى نشيد أشد على أياديكم واحدا من أفضل الأناشيد التي تغنى به الفلسطينيون ومازالوا حيث تجد لها صدى بليغ في أوساطهم . يمضي مطلع القصيدة على النحو التالي : أناديكم أشد على أياديكم .. أبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم وأهديكم ضيا عيني ودفء القلب أعطيكم فمأساتي التي أحيا نصيبي من مأسيكم .. أتمنى من الجهات المسئولة أن تتبنى إعادة طباعة هذه القصائد لقيمتها الفنية وعرفانا ووفاء لهذا الشاعر العلم الذي جاهر بحبه لمدينتنا الوطنية فكان علينا أن نرد التحية بمثلها . رحم الله توفيق زياد الذي كرّس أدبه وفنه لقضيته الأم ، سائلين الله النصرة لهذه القضية التي هي بالتأكيد قضية الأمة كلها وأبقى عرى المحبة والمودة بيننا وسائر العالمين محمد السيد علي أمدرمان - 17 مارس 2013 Mohammad Elsayed [[email protected]]