إنّ مشكلة تحديد الإبداع وتعريفه، هي مشكلة تتسم بالصعوبة البالغة في إطار المنهج العلمي . وهنالك العديد من التعريفات يركز بعضها على سمات الشخصية المبدعة، وبعضها الآخر على الإنتاج المبدع، وأخرى تركز على الامكانات الإبداعية. ومن هذه التعريفات تعريف يرى أن الإبداع يفي بثلاثة متطلبات هي: إن الإبداع هو عملية تتضمن استجابة أو فكرة جديدة؛ وأن تكون الفكرة ملائمة للواقع، وتسهم في حل مشكلة معينة. وأن يتضمن الإبداع الحقيقي استبصارا أصيلا. فقد نشرت من قبل مجلة ألمانية دراسة عن بعض عادات الأدباء؛ وأشارت إلى نماذج: منها أن (توماس هاردي) كان لا يكتب إلا بعد أن يستمتع بنزهة طويلة في الريف، وكان أحيانا يدور أفكاره وخواطره على أوراق الشجر الجاف وقطع الخشب الصغيرة. وكان (بلزاك) قبل الشروع في الكتابة يتجول في شوارع باريس ومعه مفكرة يكتب فيها خواطره. وكان (جيته) يبحث عن الوحي وهو على ظهر جواده. وكان (ديكارت) يكتب أحسن الأفكار وهو مستلق على الفراش، وكان (فولتير) يقضي ساعات طويلة في سريره وهو يكتب. أما (تشارلز ديكنز) فقد كان يكتب وهو في لندن في أكثر أحيائها ضوضاء وزحاما. بينما كان (مارك توين) يكتب أثناء وجود ضيوفه وزواره. وأما (ارنست همنجواي)، فيكتب على الآلة الكاتبة وهو واقف على قدميه. وكان (تولوستوي) يتدحرج ويتلوى أثناء الكتابة على البساط حتى تأتيه الألفاظ المناسبة، وهو أمر يشير إلى عسر ولادة للكلمات عنده. ويقول (أرسكين كالدويل):إن الكتابة عادة نكونها لأنفسنا. ويشير أحد المؤلفين إلى أن علمية الكتابة هي فترة صفاء ذهني، يسمو فيها العقل والفكر إلى ذروة القدرة على الإنتاج، وهذه الفترة مرهونة بعوامل زمنية مكانية شتى، كما أنها خاضعة لمزاج صاحبها، والملابسات والظروف التي تكتنفها خلالها، وتختلف هذه العوامل وتلك الملابسات والظروف باختلاف الأفراد. يعلق الدكتور (ريتشارد سامرز) أستاذ الأدب بامريكا إلى أن الوحي إشاعة فيقول:" خدعوك فقالوا إن الكتابة في جملتها وتفصيلها إن هي إلا وحى يوحى، أما أنا فأقول لك إن من يجلس مكتوف اليدين، سلبي الذهن انتظار لهبوط لوحي عليه، يظل على مض الانتظار إلى يوم يبعثون، والوحي طائر لا بد أن تنصب له الفخاخ والشراك، فروض نفسك على الجلوس، وتناول ورقة وقلماً داعب الفكرة التي في ذهنك بالحيلة والإصرار والمطاردة". وتقول (كاثرين آن بورتر): انه ليس على الكاتب أن ينتظر الوحي والإلهام، بل يعمل على استحضارها، فالكتابة ليست قضاء وقت فراغ جميل، وهي ليست شيئا يحدث بلا ألم، إنها مهنة مرهقة جادة، ومع ذلك فالإلهام شيء عظيم ليتنا نغرسه في النفس قدر الإمكان، فهو حين يوجه قلمنا نكتب بشكل أسرع، ويخلصنا من البدايات الزائفة والشكوك، ويلزمنا بدقة أكثر للفكرة والحالة والشخصية، ونكون على ثقة بان القصة تقبع هناك في متناول أيدينا، تحوم فوق رؤوسنا تكاد تكتب نفسها. وقد كان (انطون تشيخوف) يحب الأجواء الصاخبة، ولا يستطيع التأليف إلا في جو صاخب بالغناء والعزف على البيانو، أيا كان نوع الغناء والعزف. كما يقول (توماس اديسون) إن 99% من العبقرية عرق وكفاح وعمل، و 1% فقط الهام. فالعبقرية بنت الجهد والعرق والكفاح والدموع، وبنت الاجتهاد والمواظبة، ولعل الدليل على ذلك إن الذين تعثروا في بداية حياتهم الفنية، وسخر الناس من أعمالهم، لا يحصون، في كل زمان وكل مكان، ومع ذلك فان هؤلاء قد خلفوا من ورائهم آثارا لا تموت، وفي المقابل فان هنالك أناسا لم يخلدوا حينما لمعوا فجأة ثم انطفئوا. فلو يئس الفريق الذي تعثر في بداية طريقه، ما عمل شيئا، ولو واظب الفريق الذي بدأ بداية طيبة لكان أغلب الظن من الخالدين. وصف عازف الكمان المشهور (سارسيت) فقال قولته: عبقري!! يا له من أحمق، لقد قضيت سبعاً وثلاثين سنة أتدرب على العزف أربعة عشر ساعة كل يوم، والآن يقولون عني إنني عبقري. إن الله قد وهب كل إنسان موهبة ما، سواء كانت العقل الراجح أو الشخصية الجذابة أو الخيال الخصب، أو القدرة على العمل اليدوي، ولكن أيا كانت موهبة الإنسان فان واجبه يقتضيه إن ينميها بالمران الدائب والجهد المتواصل، وإلا ظلت الموهبة لا يعلم بها ولا يستفيد منها احد.إن كل إنسان فيه عبقرية، والمطلوب أن يعرف مجال عبقريته ويكتشفها ويعمل على تنميتها، فقد تختنق العبقرية وتموت إذا ظلت مستغلقة عليه، فهي ليست نارا تتأجج من تلقاء نفسها وإنما تتطلب وقودا دائما إرادة عنيدة في العمل وتأهب خالص للبذل والتضحية. يقال إن المسرحي الساخر (جورج برنارد ش) و قد احتقر الجامعات في شبابه ورفض الالتحاق بها وقال إن المواد التي تفرضها على الطلاب لا تتفق وميولي، بل إنها تقتل العبقرية. والغريب أن (برنارد شو) هو الوحيد الذي رفض جائزة نوبل، وكانت اللجنة قد اختارته لجائزتها الأدبية عام 1925م وكان يناهز السبعين ويتنسم ذروة الشهرة العالمية حين وصلت إليه هذه الجائزة. وقد قال: أنا في غنى لأني وصلت إلى بر الأمان، فلا حاجة إلى عوامة النجاة. وقد رفض الجائزة لأنها تخطته عدة سنوات، ووصلت قبله إلى أناس لا يساوونه في نظر الناس، ولا في نظر نفسه. وعن سيرة (فيكتور هيجو) انه قد أرسل في السنة الخامسة عشرة من عمرة قصيدة إلى الأكاديمية الفرنسية من ثلاثمائة بيت، وقد استحسنت الأكاديمية شعره، ولكنها استصغرت سنه وظنت أنها خدعة منه، فلم تجزه عليها، واكتفت بتسجيل اسمه بين الشعراء وقد شجعه هذا النجاح على إرسال غيرها من القصائد إلى أكاديمية الشعر ونال عليها عدة جوائز. وكان أن تحدث الناس عن الطفل النابغة. إن الفرق بين العبقري والنابغة هوان الأول يبني موهبته على الغريزة والإلهام، أما الثاني فيحاول أن يخلق ويبتكر مستندا إلى الماضي، فالأول متطرف والثاني معتدل، ولعل هذا التطرف هو الذي يثير عليه سخط الناس ويلقي في روعهم انه مجنون. يقول دكتور هنري ماسيه عن العبقرية والجنون إن العبقري لفرط إحساسه بقدرته الذهنية لا يستطيع أن يعيش ما نعيش، وهذا هو السبب في أن حياة العباقرة محفوفة بالغرائب يكتنفها الشذوذ من كل صوب، فهم ليسوا مجانين، وهم ليسوا بمرضى. إن قوام العبقري هو الوثبة والاستحداث والتجديد، مع الإيمان بنفسه وبصواب ما يدعو إليه، وهو يتقدم عصره، وقد تكون العلوم أو الفنون مزدهرة في عهده، ولكنه لا يقتنع بها، وفي بارقة من بوارق الإشراق الروحي تقع بصيرته على الفكرة الجديدة، التي ينفق غيره من النوابغ أعمارهم في سبيل الوصول إليها، على غير جدوى. وأما كاتب هذه الأسطر، فان في الكتابة يجد متنفساً في زمن عزت فيه الاستقامة، وتسنم فيه الرويبضات، فالكلمات التي تخرج تمثل صرخات مكتومة، فالمرء يعاني ما يعاني، يبحث عن من يبذر الخير والفضيلة، فلا يجد إلا من يزرع الشوك، وبعض المتاريس أمام غيره. وفي الكتابة توطين للسكينة، وتعزية للنفس، وبيان للناس. torshain Adam [[email protected]]