[email protected] إهداء إلى صديقي الأستاذ علي مهدي. . ( 1 ) هلْ قرأت "ملاعب الدّمية" . . ؟ ينفتح بابُ الشقةِ أوّل الفصلِ من مسرحية "هنريك إبسن"، وتتوالى الوقائع بين زوْجٍ رصين السلوكِ يقف على أعتابِ نجاحه، وزوجة مُخلصة في نظره، حملتْ تضحياتها للوقوف مع زوجها دون أن تعلمه ، وصديقاتٌ وأصدقاءٌ يمرّون على القصّة، ويتورّطون تقاطعاً بين الزّوجة والزّوج . ثمّ في خاتمة المسرحيةِ، يصطفق البابُ، وتخرج الزوجةُ في زوبعةٍ تشي بانهيار مؤسسة جمعتْ آدم بحواء . يرفع المؤلف سيفَ المواجهة يُبارز مؤسسة الشراكة العتيقة، التي وقفتْ في كثيرِ حالاتها، عند المجتمعات الأوروبية في تلك السنوات البعيدة، على أسُسٍ مِن زيفٍ وأعمدةٍ مِن نفاق، تتحاشى الشفافية والتصارح. المؤلف النرويجي هو مِن كُتّاب القرن التاسع عشر، ولد في 20مارس 1828 وتوفي في 23 مايو 1906، ومِن الذين أسّسوا للكتابة المسرحية الواقعية التي استقامت في القرن العشرين، وَرَسختْ على أيدي كبارٍ مثل برنارد شو وإلى من جاء بعدَه : أونيسكو وبرخت وآرثر ميلر وبيكيت وبيتر بروك وفايس وأوزبورن وأضرابهم، وفي المشرق العربي هنالك القامة السامقة توفيق الحكيم. . 27 مارس من كل عام هو عيد المسرح في العالم. يا قرائي هلمّوا نحتفل مع "هنريك إبسن"، أبو المسرح المعاصر، نتجوّل في واحدٍ من نصوصه البديعة والمُثيرة للجدل: "بيت الدمية" التي ألّفها عام 1879، مستوحياً وقائعها الحقيقية من تجربة صديقة له إسمها لورا كيلر. ( 2 ) قالت لهُ في استعجابٍ : - لستُ "نورا" يا هذا ، فلا تسافر مع خيالك . . - وهل كنتُ أنا دكتور "رانك" ذلكَ العاشق الخجول ، أم ظننتني "كروشتاد" الجشِع الطامع الأناني؟ قالت مُستنكِرة : - ولا أنا تلك الدُمية التي صوّرها المؤلف ، ولا ملاعبها تلك تشبه ملاعبي . . هتفَ بها رافضاً نافياً، ولكنّهُ أخفى لغته: - لا ولم ولن . . بادرتهُ وكأنّها تحتفي بحروفِهِ الرّافضة : - ما سقطَ مِن كلامِك، تلقّاهُ القلبُ . . - يقولون في الّلغة : صادفَ هَوَىً عندكِ . . تبسّمتْ وقالتْ: - لكنك تدفع الّلفظ دفعاً إلى لساني. . - ما أحذَرك مِنّي. . ! - حَذَري من قلبي مُضطرباً، قبلَ أن يكونَ حذره منكَ. . لفّهما الصّمتُ ولكن لم يسدل "إبسن" الستار هنا. . ( 3 ) ( رانك : ألا تثقين بي ؟ نورا : ثقة لا حدّ لها . أنتَ أوفى وأخلص صديق لي. لهذا سأفضي إليك بما يشغل بالي . المسألة يا دكتور "رانك" أنّني أريد منك أن تساعدني على الحيلولة دون حدوث شيء ما. وأنت تعلم مدى تعلّق "تورفالد" بي، ومدى تفانيه في حبه لي إلى درجة تدفعه على التضحية بحياته من أجلي دون أدنى تردّد. رانك (وهو يميل نحوها) : "نورا". . أتظنين أنّهُ وحده الذي. . نورا (وهي تجفل اجفالة خفيفة ) : هو وحده. . ؟ رانك : هو وحده الذي يُضحّي بحياته عن طيب خاطر في سبيلك؟ نورا (بحزن) : هكذا . رانك : لقد أقسمتُ أنْ تعرفي الحقيقة قبل مغادرتي الدّنيا. ولن تسنح فرصة أنسب مِن هذه الآونة التي نحن فيها. هاأنت تعرفين حقيقة شعوري نحوك يا نورا, تعرفين فوق كل هذا أنني أهلٌ لثقتك أكثر من أيّ شخصٍ آخر. . ) ( 4 ) في لحظةِ المكاشفة المُرتقبة، تتحيَّر المشاعرُ بينَ ربحٍ مُرتجى وخسارة مُتربِّصة. قال "رانك" : - كنتُ أحسّ بما ظلّ يعتمل بخاطري عنكِ، فأثق في نبضِ قلبك يقع على نبضِ قلبي، وبريقُ عينيك يشعّ من حولي . كلُّ المرايا تُحدّث عن وجوهٍ عاشقة. . قالت "نورا" مُحتجّة غاضبة : - لستُ تلك المدلّلة يطوّقها ندَى الياسمين. . ولا أنتَ من السّادرين في مراهقاتٍ غادرتكَ ترّهاتُها منذ سنوات الصِّبا الباكر. . - لربّما أرادك "هيملر" أن تكوني دُميته الّلعوب، وأعجبُ كيف لقلبي، وقد استوثق من ولعه بك لسنوات، فما أرهقه السَّعي بين "صفا" قلبكِ و"مروة" عينيكِ. . ألا تصغين لانشادي ، إذْ لا تنقصه إلا مزامير تُطرِب مثل مزامير داؤود، فتكتمل نبؤتي إليك . . ؟ اصطنعتْ "نورا" هدوءاً كاذباً وهتفتْ: - حَدّثتْني قُبّراتُ الفجرِ في غنائياتها الخجولة عنكَ. . - كثيرُ السّفرِ- لعُجبي- قد استدناكِ إليّ . . - أرهفُ سَمْعي لِغناءِ القبّرات اليافعة في مهاجري البعيدة فيشجيني. كيفَ – إذاً- لا أستطرب غناءِ بُلبلٍ مُعتّق الشجن، يغرّد في أقفاصه. . ؟ - قصائدي تسأل عنكِ دوماً . . ولكنّي لا أملك لغة أصفُ بها ما أراه في مرايا قلبي. لعلَّ نجومي أفلتْ وأنتِ في بهاء كواكبك تراقصين أنجُماً زاهرة يا "نورا". . هل كان ل"هنريك إبسن" القابع وراء الستار وفي خِباء الكواليس، أن يقول أكثر ممّا وقع بين قلبين، توافقا على محبّةٍ وعلى مشاكسةٍ واختلاف، فصنع ما صنع من وقائع وما نسجَ من مُحدثات في مسرحيته تلك ؟ التمعتْ الدهشة بعينيها ثمَّ عبّر لسانُها عن حيرتها، أكثر من تعبيره عن دهشتها، لجُرأةٍ قفزتْ من قلمي وقلمِ "إبسن"، قفزاً جليّاً. رأيتُ ما جاش بخيالها دهشةَ قلبٍ، أكثرَ مِنهُ دهشةَ عقلٍ، وَما عرِفَتْ هيَ أيَّ طريقٍ ستُقدم على المضي فيه : استتابة القلبِ أم اقامة حدِّ العشقِ عليه. .؟ حدّجها بنظرٍ فاحصٍ، فرأى ما طفرَ مِن وراءِ نظرها، وكأنّهُ عتابٌ لِمَا خرج مِن كهوفِ الخفاءِ إلى السّطور المُضيئة، استفضاحا. هتفَ بها يُغالب اضطرابَ قلبه: - هذه كتابةٌ قد يقرأها الناس، وقد يستنكر حرفها نبضَ قلبكِ في صفائهِ. . أسبلتْ جفنيها وهَمَسَتْ: - إنّي أراها كتابة ملغوْمة، لا ينظرها عاقلٌ إلا ويقرّ بكمونِ الّلسعِ فيها، ولكنّها لن تعبّر ما بلغتْ بلاغتها، عَن إفصاحٍ منظورٍ، ولن تُحيل إنشادها مَهما سَمتْ موسيقاهُ ، إلى همْسٍ مَسموع. جزعَ مِن حديثها المُلتبس جزعاً شديداً، فقال وكأنّهُ يستعطف قلبها : - يأخُذ حذرُكَ بقلبي فيضعضعُه. . لفّهما الصّمتُ بُرهة قصيرة. لا يليق السّكونُ على خشبة المسرح، فكانَ عليها أنْ تكسر ألواحه الزجاجية، حتى لا ينفضَّ جمهورُ قلبها العاشق، وبينها و"إبسن" فراسخ من البُعد : - إنّي لا أذهب إلى آخرِ الشوطِ، بل أسيرُ بغيرِ هُدى. أهمسُ إليكَ بمَا يطرق بالي مِن هاجسات الودّ، فلا تريبني أحلامُك ولا استيهاماتك. - لكنك تستشعرين خفقان القلب، فتلك عندي علامات استجابة لا استرابة. . - كلا . . إني أقف على جرفٍ يوشك أن ينهار، والمسرح محفوف بالمخاطر. . - صبراً أيتها العزيزة. . - وهل يصبر عليَّ "إبسن". . ؟ هلْ كان للمؤلف أن يكونَ أو لا يكونَ ، فيختم نصّهِ هنا ويذهب إلى اغفاءة شكسبيرية طويلة. . ؟ ( 5 ) ( رانك : "نورا" . . أكنتِ تعلمين بما يجيش بصدري ؟ نورا : ما أدراني إنْ كنت أعلم أم لا. لا تسلني. لم أكن أتصوّر أن يفلتَ منكَ الزّمام إلى هذا الحدّ يا دكتور "رانك"، لقد كُنّا في حالة مرحٍ وسرور. . ) ( 6 ) سألها تقرُّباً بلغةٍ جامحة قبلَ أنْ يفلت منهُ الزّمام : - أتنكرينَ يا ثمر الرّبيعِ ارتحالَ القلبِ منكِ بعيداً عن نجواه، نُشداناً لاتزانِ العاطفة العاقلة ؟ - أتراني فعلتُ الذي تقول عنّهُ قصداُ. . أمْ هيَ حيرتي مُعلَّقة بين رفقةٍ كأنّها جاءت بالفطرة، ما صاغتها حمامة وجداني، وأخرى تصنّعتها استصناعا واكتسبتها اكتساباً، فكأنّي أنا ربّتها . كأنّي ملاكُ وَحيها . . ؟ - لا يا حبيبة . لا عقل يملك حُكماً على القلبِ ، فهوَ بلا كوابح، ولن يقوَى أنْ يهزّ ثوابتَ الشّجنِ، أويجتاح غابات الوجد، أويغسل سهول الشوق . . أخذتها صراحةُ مناداتي فبُهتتْ مُستنكرة، وهتفتْ تَحُضّني على التراجعِ : - يا لجرأة قلبك . . يناديني . . ( 7 ) ( رانك : إن كان عليّ أن أذهب. . فقد أفعل وإلى الأبد . . نورا : هُراء . يجب أن تواظب على حضورك كالمعتادِ، فلا غِنَى لزوجي "تورفالد" عنك رانك : صحيح . وأنتِ ؟ نورا : أنا أسرّ برؤياك دوماً. . رانك : لعلّ هذا ما ضلّلني. إنك في نظري لغزٌ غامض. لطالما بدا لي أن وجودي بالقربِ منكِ لا يقلّ لديك أهمية عن وجود زوجك "هيملر". . نورا : نعم ، فأنا أرى الناس صنفين. صنف تعشقه المرأة، وصنف تحبّ أن تتجاذب معه أطراف الحديث. رانك : معقول. .) ( 8 ) مَعقولٌ ؟ أجل، مَعقول. قالها "إبسن" يا عروْسَ الورد ويا رفيقة الياسمين، ويا أميرة الوادي وقُبُّرة النَّدَى وشقيقة النُّعمان. . ما جهَرتِ بهِ عن الفطرةِ يأخُذك يميناً، ومَا اكتسبتِهِ بإرادتكِ يميل بكِ شمالاً، وأنتِ وقلبكِ وقارب الوَجْد، على طرفِ الموجةِ بينَ مَدٍّ وجزر. . أزعجَ نَصُّ "إبسن" مؤسسات مُجتمعِ سنوات القرن التاسع عشر وهزّ عرشَ ثباتها ، فكأنّهُ اخترَق حُجبَ المَسكوْتِ عنهُ ، ثمَّ استفتح كتابةً للمسرح فيها جِدّة الُّلغةِ وواقعية الأسلوب. أيّ مَسرحٍ يستحق اسمه إن لمْ يخترق الحُجبَ أو يصنع أسلوباً مُتجدّدا يا نورا. . ؟ تلك "البقعة" ، في طيّاتها أملٌ يستحقّ انحناءة احترامٍ وعيد المسرح على الأبواب. . مارس - 2013 jamal ibrahim [[email protected]] ////////////////