دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غَوايَةُ الاعْترافِ: فصلٌ مِنْ كِتابةٍ جَديدةٍ عنوانها "هنيدة" .. بقلم: جمال محمد إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 07 - 09 - 2012


[email protected]
حوريّتي " هُنيدَة". .
حلّتْ السّاعةُ الثانية عشرة، وَلَا مِن حرفٍ يَسأل عنْ عينيها. لكأنّ اليومَ زوبعةٌ مِن رَهقٍ غاشِم لا يُفسَّر، وَالرّاوي مِثلَ خِدنهِ ، يستأسِفَ في مَيْعَةِ الوَجْدِ قِلّةَ حيلتهِ، إذْ تأخرتْ مُسامرتُهُ معها. لكنها آخر اليوم أطلت مثلما تشرق شمس بعد طويل ليل.
- ماذا أفعلُ معكَ ؟
قدّمتْ "هُنيدة" أسئلتها بلا ترتيبٍ يوافق سَقفَ الأبجديّة، وكأنّه في نظامِها كنظمِ الشِّعرِأو أدنى.
أسئلةٌ لا تنتظر إجابات، ولا إحداثيات مختزنة في صندوق اسود. .
سألتْ تستجدي تفسيراً، فجَاءَ كلامُها كالشِعرِ :
- أهوَ استجلابُ الوهْمِ إلى الوَهمِ،
فتكتب شِعراً يَستدنيكَ فؤادي فيه. . ؟
- كُنتُ ألاقي عِندكِ خفقان القلبِ، قُبيل مُلاقاتي عينيك . .
- أتراكَ طرِبتَ لأغنيةٍ ، لم تخرج موسيقاها مِن طيفِ مُغنيّةٍّ عاشقة ؟
ما أعجَبَ هذا الرّاوي !
لا يتمَاهَى في صاحبهِ، إلّا حينَ يطلّ الأخطلُ.
- ثُمّ بَلوتُ مُعاشقة َ الأطيافِ، فإنّي لا استعذِبُ إلّا مَا أُنْشِيءَ مِن أحلامي ..
في الهِجرةِ والسّفرِ المرقوْم بسَقْفِ الزّمن، سافرتُ وَهاجَرْتُ وشغلتني المهنة في زمن خلافات الجنرالات الملتحين ببهتان الدنيا، فكتبتُ "دفاتر كمبالا" . .؟ (الإشارة إلى رواية الكاتب "دفاتر كمبالا": منشورات دار نلسن – بيروت ، 2009.)
كلا. . ما كان العنوانُ كما صوّرت لكتابي أن يتحمّله، بل كان العنوان: "إمرأة العزيز الأفريقي"، ولكنّها امرأةً كانت غُفلاً عن صويحبات يقطّعن أصابعهنَ لهولِ الإغواءِ، وإتلاف القلب. مَن يَحسب أنّي شاخصٌ في القصّة مختبئاً بينَ أسطرها وفصولها، فلن يتعسّر لقائي به ، ومَن شاءَ أنْ لا يرى تجوالي في القصّة، فقد شاقهُ السّردُ واستكفَى. وما خسرتُ أنا ، لا هذا ولا ذاك. . سكتَ الرّاوي عنّي وعجبتُ لِمَ لَمْ يشغله استطرادي هذا . . !؟
كانَ صديقي في عَصرِ الطوائفِ الشّماليّة، وَكمَا نظمَتُ على نسقِ التفعيلة :
شهْماً مِن أربابِ الكلمِ،
وصَاحِبِ نَسَبٍ صُوفيّ،
يتحدّر مِن عَصرٍ أُمَويٍّ آخر.
نظمَ الأخطلُ شعراً فيهِ،
مِن قافيةٍ، نزَحتْ إطراباً مِن وادي عبقر،
نَوعاً مِن سَجعِ الكُهّان ،
وَنثراً مَلغوْمَاً في باطِن بَحرِ الشِعرِ،
مَن يُمسِكْهُ لا يُمسِك مَسبحةً أو مَصْلاةً حَريرٍ ،
بَل يُمسِك مِن خُصُلاتِ الغيْدِ،
قيوْداً حبَسَتهُ دهْراً،
فيَظلّ وليّاً في أغلالِ العِشْقِ
يَقوم الّليلَ على فاتنةٍ،
وَعلى نَهدينِ شقيين،
وَيَسجُد عِندَ الفَجرِ،
على آذانٍ . . تتدلّى مِنهَا أقراطُ العِشْقِ ،
فلا يَبلغ أذنيهِ قرْعُ الأجراسِ،
وَلا أصْواتُ مآذنُهَا،
وهُمو قدْ ورثوا مِن أمَراءِ طوَائفِهِم
مُلكاً أضجَرَ مِنهُ، مَا كتبَ التاريخ . .
تمهّل الرّاوي في تداعيات ذاكرته الشِّعرية، إذ لم يكُن ذلكَ الّصّديق، هوَ وحدهُ الذي ألفاه مُبدعاً فاستعذب كتابته، وتولّاه بحماسٍ وحميمية، وتقصّى معه أخبار "هنيدة". تذكّر أن دخوله إلى ساحات النجوى الإلكترونية، أعاده القهقرى وبقوةِ "جاذبيةٍ شَعريّة"، إلى الكتابة الإبداعية. لاقتْ كتاباته استحسانا بل شجعه بعض روّاد المنتدى فشقّ طريقاً، لم يسبقه إليه الأخطل الحقيقي .
فيمَا تتزاحَم الغيومُ بين جسديهما، يترفّق الرّاوي بل تترقّق أعطافُه، فيكون الرذاذُ زبَداً بينهُ و"هُنيْدة"، فلا يكاد يتذكر ملامحَها الخبيئة في أمواهِ الزّمن الأمَويّ ، وصاحبُهُ لا يعينهُ .
لبسَ قناع الأخطل وقال لهَا، في عزفٍ على وَترٍ رخيمٍ :
- في مَرّة غلبني اعترافي أنّ غيابي كان مَردّه كسلٌ فطري، أو ربما خجل ثقافي، يقعد بنا عن تقديم ما نكتب بصورة مناسبة، تعطيها ذلك الوزن المستحق، اعترافاً هيَ أهلٌ له. ولقد طرح بعضهم في مساحات النجوى تلك ، رأياً حول جنوح المبدع السوداني للتخفي والإنكفاء ، فلا يكاد يتعرّف الناس إليه. لولا من دفع لقلم الطيب صالح من صديقيهِ توفيق صايغ وجمال محمد أحمد، لتأخر علينا ظهور روايات عظيمة كتبها الطيب صالح . شُعراءٌ عِظام وروائيون مُميّزون وكُتاب ونُقّاد لكتاباتهم وزن وقيمة ، أسفاه إذ لا يعرف الناس عنهم في العالم العربي، إلّا قليل القليل! لعلّ قيمة التواضع أكبر، وأنّها هي المسئولة عَن هذا التقدير البخيل لموهبة حقيقية ومميّزة . رمقَ "هنيدة" في مودّة، فقالت :
- آمل أن يكون تحليلك صائباً، وإني لا أخفي اتفاقي معكَ حوله.
تبسّمتْ "هُنيدة " وأضافت:
- أنتم تتبتلون في العشق يا شاعري . .
تراجع الأخطلُ إذ تذكّر أنّ صاحبته تضمر إنكارها نظمه قصيدة عن الجفاف الذي خانهُ الندَى، يَتحسّر على خرائب "إليوت"، وقد اشتد الحصارُ عليه. قالت له في تحدٍ وفي ترفّعٍ يليق بأميرة أمويّة :
- إنْ رغبتَ في استثارةِ غيرتي، فإنّي مُحَصَّنة القلبِ، ولنْ أهتاج. .
طفَقَ الرّاويُ يَحكي بلا تردّدٍ، فقال:
- صادفَ بدءُ علاقتي بتلك "السّمراء"، استجابتي لدفعِ الأصدقاء قلمي في ساحة النّجوى الإلكترونية التي حدّثتك عنها، فجنحتُ لكتابة الشعر بروح جادة. كان الذي يشغلني وقتها هواتساع الفجوة ، تكبر عندي والخراب يلوح لامعاً في سمائي وأرضي. إندلق الشعر كما يندلق السّيلُ، ولكنّ السّمراء تلك ما كانت مستعدّةً لتغامر مع رجلٍ رأتهُ مقترناً في أزلٍ مُهلك.
واصلتْ "هُنيدة" تحدّيها:
- لا لن يفتُرَ صبري عليكَ، وعلى قصَصِك تُروَى في كتبِ السِيرة الأمَويّة . . !
- أعترف لكِ أنّها كانت تبادلني تقديراً بتقدير. شغفاً بشغف . الحب ؟ لا لم تكن لتقول لي كلمة واحدة، تخطف أنفاس القلب. ظلّت تواصلني وتهاتفني وتسامرني، لفتراتٍ طويلة في أجواف الليلِ وزواريبه وأنجمِهِ الثاقبة. نتجوّل في طرقات الابداع وفي مُتون الأدب وفي ردهات الشعر, . الحب ؟ لا. . لم تكنْ على استعداد للمضي إلى آخر الطريق. بقيتْ مراكبها على شطِّ الصداقة لا ترقب في مبارحة مرساها إلى أفقِ المحبة والعشق. إلى البحر الأزرق والجبال الخضر وراء ظهر قلبها.
- لا تغلق أبواب الغيرة عليّ . . طبع الأنثى يغلب أحيانا. .
- غضبتُ يا "هنيدة"، ثم كتبتُ لنفسي: "الجفاف خانهُ الندى . . ."، وقد عنيتُ الفجوة تستفحل بين قلبي وقلبها. منحتني من نداها أملاً ، لكنّها غدرتْ بقلبٍ أحبّها وتراجعتْ إلى أحزانها وابتعدتْ. وقفتُ وحيداً في خرائبي. .
أنهَى قصته بتنهيدةٍ حرّى، فكانتْ خاتمة قولهِ :
- هي قصَّتي بحذافيرها مع "السّمراء" . . فوحُ مشاعرها تجاهي، استشرَى وشاع. باتتْ تعرف أنّ مِن أصدقائي مَن أدرك عمقَ تولّهي بها ، إذْ وشتْ بي قصائدي عن قصدٍ مبيّت.
كانَ ل"هُنيدة" أن تختزل حيرتها بوضوحِ العبارة :
- أتكون بدايتي نهاية قلبِ الأُخرى ؟
قالَ الرّاوي أنه سمع من الأخطل أنّ الدّهر أذرى بهِ وتواترت الأشهر ، شهراً إثرَ شهر ، حتى أطلتْ في فضاءِ قلبه "هُنيدة" . .
عندهَا انطوتْ صفحةُ "السّمراءِ" من كتاب الرّاوي .
- كيفَ لي أن أستغلك مِخلباً لإغاظة أيّ كائنٍ في هذه الدنيا ، أن استغلك واستغل علاقتي بك ، لأن أستفزّ مشاعر الغيرة عند أخرى. .؟ لا يا "هُنيدتي"، إذ أنت ِ أنبل من أن أغامر مستلهياً بقلبك ، أو مناوراً بعشقي لك . .
أسبلتْ جفنيها وأرخت جماع قلبها إليه، فسمعتْ همسه : - "هُنيدة" حبيبتي ، معكِ أحسَ قوة التزامك بعشقي لكِ ، وأنا أحسّ بعمق محبتك لي ، بما يجعلنا معاً قادرين كل القدرة، على حماية عشقنا ، والسباحة به إلى الشطّ الآخر . أنتِ قويةُ العاطفة ، أمينة على محبتي لك. . قادرة أنت على حماية قلبي وقلبك يأتلفان ، يتوحّدان ، يتزوجان. تجدينني معك، أقوى التزاماً وأشدّ بعشقي لك ، وإيماني بأنّ أملَ عمري هوَ في الإرتباط بك باقي عمري ، يا بنت "خير" الناس. من يخفق قلبه خفقاً صادقاً هو الأقدر على حماية هذا القلب. . هو من يطمئن لعشقهِ ، ويسمو بهِ إلى مرافيء الخلود. نعم، لم تساعدنا الأقدار منذ بداية عمرينا، فتعذّبنا طويلا. سمّيتها أنا، تراكمات العمر، وإخفاقاته التي تعدّدتْ محطاتها على مدىً زمني طويل. في لغتكِ أنت لا ترضين وصفي أنها محض إخفاقات ، وربّما لك تفسيرك . لم ترحمنا الأقدار على كلٍ من خبطات ، أودتْ بنا في نهاية المطاف، لأن نكون في محيطين، نحسّ حقيقة أننا لا ننتمي كامل الإنتماء إليهما، وإنْ كان يشدّنا إليهما ما يشد! هو الزّمن الأموي الّلعين في وجهٍ، والمُبارك في وجهٍ آخر..
كَتبَ الرّاويّ أنّ اعجاب خِدنه بكتابتها لا يُضاهيه إعجاب ، وأنّ "هُنيدة"، فوق إجادتها موسيقى العشق، فلّها موهبة الشِّعرِ ونظمه وَمَلكات النثرِ ونسجه، فتأتي كتابتها مِن فيضِ حناياها، زرابيَ من ياقوتٍ وزُبرجد.
- أنتِ تكتبينَ بسجيّةٍ أدبية، لا يَنكرها قاريء. لو قلتُ لك أنظري من جديد في كتابتك لي وكتابتي لك ، تجدين أن جماع كتاباتنا تشكل عملاً أدبياً كامل السِّمات ، ولا يماثلهُ عملٌ آخر. قرأنا شيئاً من رسائل غسان كنفاني لغادة السمان. كان غسّان متزوجاً حينَ تعلّق قلبه بغادةٍ وَهيَ عزباء ذات حسن جاذب. ونشرتْ "غادة" بعد سنواتٍ من رحيله، عِدّة رسائل محمومة ، جاءتها من غسّان.
- هل ترَى وَجهَ شبهٍ بيننا. . ؟
قال الرّاويّ، والأخطلُ قريْنُ يُلازمهُ كظله ، يُخاطب "هُنيدة":
- دعيني أحكي لكِ حكاية قد ترين فيها شيئاً من قصة غادة وغسّان، وقعتْ أحداثها في سنوات القرن الأمَويّ الجديد في حاضرة التراب. كان يقيم في تلك المدينة، شاعرٌ كبيرٌ إسمهُ محمد المهدي المجذوب، عاش شاعراً ضخماً في عقود القرنِ الوسيطة في عاصمة التراب "أم درمان". نشرَ صديقٌ له بعد وفاته ، بعض رسائلع إليه ورسائل أخرى، تبادلها الشاعر مع امرأة بريطانية مقيمة في لندن. راسلها من أم درمان مدينته الترابيّة، وبثّ لها بعض أحاسيسه في رسائل بلغةٍ انجليزيةٍ رصينة مُحكمة. بعد فترةٍ، زار الرّجل لندن في مهمة تتصل بعمل السفارة السودانية هناك، إذ كان يعمل مديرا لديوان الحسابات في وزارة الخارجية في الخرطوم. . حين زار لندن، التقتهُ تلك السيدة البريطانية، ولا يعرف أحدٌ كيفَ كان شكل لقائهما. الأرجح أن اللقاءَ كانَ محموماً لاهبا. أورد صديقه الذي نشر هذه الرسائل لاحقاً، وبعد وفاة الرّجل بسنوات ، أن المرأة تلك، أصيبت بنوبة خبال بعد لقاء صديقها الشاعر السوداني الزائر. حينما أكملَ مهمته في لندن، غادرها ليواصل مهمته التالية في سفارة السودان في واشنطن. تأخرَ الرجلُ هناك. لحقتْ به المرأةُ اللندنية في واشنطن، وفوجئتْ بأنّه غادرها أيضا. عادتْ إلى لندن بحسراتها. حكى صديقه الذي أورد القصة ، ما حدثَ للمرأة اللندنية بعد ذلك، نقلاً عن صديقتها "سوزان" فكتب:
(. . . أضافتْ سوزان: كانتْ تخرج كل يومٍ تبحث عن ذلك العالّم الغامضَ، عن ذلك الرّجل الغامض. وجدتْ لها عملاً هنا ، لكنّها لم تستطع التركيز فتركته. وذات ليلة سَمعت همهمة في غرفتها ، فذهبتُ اليها ، وَجَدْتها عاريةً تماماً وقد جلستْ أمام المدفأة، ورجلاها ممدودتان ومفتوحتان ، وقد وضعت فوق ساقها اليسرى كتاب "النيل الأزرق" وفوق ساقها اليُمنى كتاب " النيل الأبيض ". . ووضعت يدها أسفل بطنها ، وقد استغرقت في "صلاة" عميقة وهيَ تردّد: كارتوم.. كارتوم.. كارتوم. ناديتها صائحة: روزماري! ماذا بك ؟ التفتتْ إليّ وقالت: إنني أمارس المشي على شاطيء النيل الأزرق في الخرطوم روحياً ، وأضافت: أتعرفين، سوف أواصل المشي إلى هناك غداً. ثم قامتْ من "صلاتها" وارتدتْ ملابسها وجلستْ معي في الصالة ، كأن لم يحدث شيء ، ولكنّها كانت صامتة معظم الوقت. وحينما تتحدث كانت تقول: أتعرفين. . إن الحياة حلوة! قالت "سوزان" في اليوم التالي عدتُ من العمل ، فلم أجدها في المنزل. وجدت ملابسها وجواز سفرها ورخصة القيادة وأوراقها الشخصية ، في نفس وضع رجليها حينما وجدتها تصلي. هالني الأمر. طال انتظاري. روزماري لم تعد. أبلغتُ الشرطة وسألت عنها في لندن ، ولكن لم نعثر لها على أثر. كانَ ذلك آخر العهد بقصة روزماري الحزينة). ((من كتاب الدبلوماسي السوداني علي أبو سن :"المجذوب والذكريات" – القاهرة 1997.))
تداعتْ لحظاتُ الصّمت بين "هُنيدة" و"أخطلها" . تأمل وجهها الجميل وخاطبها متودداً:
- قد تعجبين يا "هُنيدتي" ، لِمَ أوردتُ لك القصةَ كاملة ، ونقلتها لك من الكتاب الذي نشره صديق الشاعر، وحكى فيه عن ذكرياته معه ؟ ألا ترين العشق الأثيري، ممّا حكى عنه هذا الرّجل عن صديقه الشاعر السوداني وصديقته البريطانية ، أشبه بقصتنا في نواحٍ عِدّة ؟
حفظَ الله قلبك وقلبي ، مِن مآلآت العشق المُهلك! إنّ الجنون يا "هنيدة"، هو أن لا ألاقيك، أو أن لا ارتبط معك في ميلادٍ جديد. سأجنّ بدون عينيكِ ترمقني ، ونبضك يحميني، وصدرك يشهق معي، وبدنك يتلقاني، فأعبدهُ داخلاً فيه ، خارجاً منه. . وأولد في تكاثري بفيضِ حبك، وعمق عشقك لي. ما أجمل لحظة الميلاد. معكِ أنتِ أولد كل لحظة. أرتضع قلبك صباحَ مساء ، فيكتب الله لي حياة جديدة. لا يا "هُنيدة"، لا أطيق الرضّاعات الصناعية. لا تستقيم عاطفة الإنتماء الحميم ، مع أم ٍ ترضع وليدها برضّاعة صناعية. أرضعيني من نبع عينيك، وخفق قلبك ، أكبُر معك ِ وفيك ...
وكتبَ الرَّاوي، ناقلاً عن خِدنهِ اعترافاً صريحا:
- أحبّ الأنثى تجيئ إليّ أكثر ممّا أتقرّب إليها أنا. ليسَ من غرور، و لكنه من خوفٍ دفينٍ في الدّواخل ، كون الأنثى - لو بادرتُ أنا تجاهها - قد تردّني على أعقابي مُنكسراً . وأنا لا أقبل أن تردّني أنثى. .
تورّد خدها من حيرةٍ واندهاش:
- أهو الغرور الذي نعرف. . ؟
قال الراوي:
- قصصتُ عليها كيف أغوتني صبية مجهولة الملامح فيما كنا في تزاحم أجساد مربك. وتفتقَ وردُ النشوة من جسدي، وحلقتُ إلى سماءٍ زرقاء بلون الأحلام. .
لفّهما الصمت برهة ثم استأنف قصته وخدنه يسمع :
- هي غَوايةٌ واستغواء. نعم، أنا الذي أغويت وتأبلستُ لها ، لكنّ الصبية هي التي إلىّ استدعتْ الغَواية. . ثمّ خرجتُ لها كطلبها، وَتركتني في قارعةِ النّشوةِ ، بين ثنايا جسدها البديع. تلك غَواية "هُنيدة"، في تجلّيها الأول. .
بعد رحيلِ التجربة من عصرٍ إلى عصر، واستنساخ تفاصيلها، نقلَ الرّاوي بلسانِ الأخطل إلى معشوقته، ما حسبهُ أول أمره ِ مِن "المَسكوتِ عنه" :
( التجربةُ التي أخوضها معك، فريدة ومميّزة يا أنتِ. إذ انتِ امرأة إستثنائية والرّب أعطاني قلبك وأغرمت بك ، وصرتِ لي زوجة وأنا لك زوجا. أكتب شعراً فيكِ وتكتبين. نعم سيعرف بعضُهُم أني أكتب غزلاً في امرأة لها علامات ظهرتْ أطيافها في شعري! هذا أنا وهذه أنت. أفخر بحبك وعشقك ، ومُنيتي أن أرتمي عليك فلا أستيقظ. حُلمي أنت، وليعرف الناس، سواءاً في الفضاء الإلكتروني، أو في الدّنيا الرحبة، أنتِ لي. . )
قال الرّاوي :
- أستعجب كيفَ كنّا نقرأ شِعر "عبد الصّبور"، ونحن لا نعرف فيمَن كتب قصيدتهُ الغزليّة. مَن تلك التي أغرم بها ؟ ما اسمها تلك الملهمة ؟ نقرأ شِعرَ "أمل دنقل"، ولا نعرف من هي ملهمته. نزار - وحده وفي آخر قصائده- كان يفصح باسم حبيباته وبصفاتهن وطفولة نهودهن وأنسه مع السمراوات في الشام وفي الأندلس، ثم يحدثك عن ىخر حبيباته. عن بلدها، عن انتمائها، حتى قبل مقتلها غيلة في سفارة بلدها في قلب بيروت. . الأعجب أنّ جلّ شِعر الغزل العربي - وفي عصره الأمويّ الباذخ، أو العباسيّ الزّاهر- كانَ من شعراءٍ أفصحوا عن صفاتِ حبيباتهم وعشيقاتهم، إسماً وبطناً وقبيلة. لم يخفوا إلا القليل. بل حتى قبل ذلك العصر، كان العاشق يقرن إسمه باسم معشوقته: لا يتجهّم "جميل" إن قرنوا اسمه بإسم من تعشّقها، فيقولون "جميل بثينة". أويقولون: "قيس وليلى". أليسَ عجيباً أن تنتكس الشفافية العاطفية عندنا بعد كل هذا الإزدهار في المصارحة ؟ أليس في إخفاء أسماء محبوباتنا وإخفاء هويّاتهنّ، إشارات لإنكفاءٍ ثقافي، وتدهور في علاقاتنا الحميمة ، وولوغاً في نفاقٍ، نُبطن فيه غيرَ ما نُظهر ؟ أليسَ ذلك من أمراضِ سنوات النفاق المعيبة ، أن تدفن مجتمعات رؤوسَها في الرمال مثل نعامة ، وعورتها الكبيرة مفتوحة للفضاءِ الرّحب!
قال الشاعرُ الراوي، وهوَ في لبوْسِ الأخْطل، وعُمَامته الأمَويّة تشي عنهُ :
- أريدُ لنفسي، يا أنتِ - أنْ يقال عنّي ، أنا "جميلك" فتكونين لي "بثينتي"، حتّى نسمو معاً أنا وأنت، همزة وصلٍ تربط جملة عصرٍ نعيشه ، بجملة عصرٍ قديم. ولولا خشيتي عليك في محيطك ، وخشيتي على مَن لا يفهم فعلي ، في محيطي ، لسطّرتُ رسائلنا، رسالة بعد رسالة ، يوماً بيوم . لا نحذف إلّا الذي جاء من لغةِ المَخادع ، ونكتب أسماءنا مثلثةً ومربّعة إلى إسم الجدّ ، ونسمّي الضيعة الترابيّة التي نحيَا فيها، في عصرنا الأمويّ هذا بإسمها، والحُلم الذي نحن فيه، لا نخفي شيئا من أضغاثه. سيُقدّر التاريخُ سيرتنا ، وسنفتح صفحةَ عِشقٍ لا شبيه لها. . أقولُ ذلك بلا فخرٍ وبلا غرور. لستُ أحبّك فَحَسب، ولكنّي "أحِبُّك ". . !
ذلك ما لم يقلهُ الرّاوي، بل قالهُ الأخطلُ ، عامِهاً في خَطله . .
الخرطوم أغسطس 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.