بسم الله الرحمن الرحيم ما كنت احسبني أحيا إلى زمن يبلغ الهوان مداه بالسودان وأهل السودان ما بلغه الآن. عند دخولي " دكان ود البصير" كما يحلو لنا أن نسميه نحنُ قاطنو جنيف محرفين اسمه الرسمي من " بوتيك نون، إلى دكان ود البصير"، الذي نلتقي فيه جنباً إلى جنب بالوزير والمعارض، ولاعب الكرة والمغني، ومن يريد أن يبعث بدواء لمريض بالسودان، أو دواء يذهب فقر رحمه لشهر أو يزيد، واللبيب بالإشارة يفهمُ. أو من يريد أن يتسلى ويروح عن النفس ساعة فساعة، أو يعرف ما وراء الجدران، أو من يريد أن يزيد معارفه ويلتقي بوجوه جديدة، أو يتبضع ويكون له حظ من الثياب السودانية التي يعرضها المحل. دكان ود البصير يزداد طعمه حلاوة ونكهة وتزداد قيمته المعنوية، كلما مرت الأيام يوم بعد يوم. كاد أن يكون منتدىً للجالية السودانية بسويسرا، وللسودانيين والسودانيات القادمين من الخارج قاصدين جنيف لعمل يتعلق بالأممالمتحدة أو السياحة أو العلاج. ولو لا الملامة والإفراط في الثناء لقلتُ أن دكان ود البصير وبفضل من يديره ويشرف عليه، وهو الأخ عثمان رضوان، المشهور بود العز، وفي رواية أخرى بود القبائل، كاد أن يصبح قلب الجالية السودانية بسويسرا وشريانها. فصرنا نحرص على ضرباته وحيويته حتى لا يموت جسد الجالية. تكونت الجالية السودانية بسويسرا منذ عام 1974، وتُعَدُ أقدم جالية مؤسسة تأسيساً قانونياً في أوربا وأمريكا. وكانت وما زالت صاحبة يد طولى في شأن أهل السودان بسويسرا وفي ملمات الوطن. فقد أسس هذه الجالية شموس من الرجال الذين قال في مثلهم الشاعر إسماعيل حسن "ديل أهلي". ولكي لا أغبط البعض حقهم فهم أكثر من أن تُحْصَرُ أسماءهم في مقال واحد. ولكن على رأس هؤلاء يأتي ذكر رجل تمنينا كثيراً أن تتوج رئاسة الجمهورية أعماله التي لا تحصى ولا تعد "بوسام جمهوري" فهو بالوسام حفي وجدير، فقد كان سفيراً بلا سفارة. سبق وأن تقدمنا بمقترح رسمي للسفير علي سحلول رحمة الله عليه، والسفير الدكتور إبراهيم مرغني ولكن يبدو أن الأمر لم يجد ما يستحق من العناية والاهتمام عند أُلي القرار. آلا وهو الوالد والأخ والصديق حسن أرباب محمد علي، المقيم الآن بود نميري ولاية الشمالية. فللرجل أيادي بيضاء وخضراء على كثير ممن قدموا لجنيف. ويكفيه فخراً وأجراً أنه أعان كثيراً من الأسر في تَمَلُكِ بيوت تحسب في أيامنا هذه من مساكن الدرجة الأولى، فقد كان يوفر العمل في اشهر الصيف لكثير من الرجال والنساء، ثم يعودوا للسودان مثقلين بالأموال التي لا يستوعب نفقتها إلا بناء دار، سوى بجبرة أو الطائف وقليل من بنوا في الصحافة والكلاكلة. أما إذا تحدثنا عن دفع نفقات العلاج في المستشفيات الخاصة والأطباء لمن ليس له تأمين صحي فذلك أمر عنده يسير، فأن حرصت على حصره فلن أوفي الرجل حقه. ويأتي من بعده رجل زينه الله بابتسامة لا تفارق وجهه، وله بيت مبتسم مثل وجهه، مفتحة أبوابه على مدى الأربع وعشرين ساعة لكل طارق وسائل. فمن أراد طعاماً وجده، ومن أراد مبيتاً وسع له. ومن أراد تسلية وذهاب هم، جدد له الأمل في الحياة. ألا وهو الأخ العزيز سعيد محمد الأمين، ومن خلفه امرأة لا تقل شموخاً عنه وهي الأخت شامة سعيد فرح (أم سمير). ووسط هؤلاء كان أمير عبدالله مرغني وحسن حمدلله "العمدة" اللذان عادا للسودان، فلهما من العطاء ما يميزهما. هؤلاء الرجال أسسوا لنا بنياناً كاد أن يتهدماً لولا أن امسك به كل من الأخ علي حسن خليل "رئيس الجالية السودانية بسويسرا" والأخ عثمان رضوان "سكرتير الجالية السودانية بسويسرا" حاملين شعلة القيادة بحقها. ويتجلى عظمة دورهم في الملمات، خاصة عندما يفارقنا أحد لدار الآخرة كان مقيماً بسويسرا أو غير مقيم. المهم أن يكون سودانياً، فترى عجباً! ولكي اقرب للقارئ صورة العجب الذي هو مصدر إعجابي وفخري، فسأورد مثالاً واقعي. ففي الجمعة الماضية (13 ابريل 2013) التي صلينا فيها صلاة الجنازة على المغفور له بإذن الله الأخ بكري عبدالرحمن وقبرناه وختمنا له القرآن بمسجد جنيف. انتقل الناس بعدها لبيت الأخ أنور محمد علي (صمد) الذي جعل من بيته مقراً لقبول العزاء، خاصة وان بكري مات وحيداً في بلاد الغربة، لا زوجة ولا ولد ولا أخ. ولكن عند وفاته كان له من الأزواج ما يفوق ما أذن به الشرع، ومن الأبناء والأخوان والأخوات ما يربو على عدد أسرته الحقيقة. أي لم يمت غريباً بل مات قريبا، وتكفلت الجالية بنفقات الدفن ومراسم العزاء والتواصل مع أهله في السودان والخليج وأمريكا . نفقات الدفن بسويسرا ليست بأمر يسير فهي تكلف مالاً كثيراً، هذا ما يدفعني للتمثل بقول الشاعر سماعين ود حسن: بلادي سلام بلادي أمان وناسا حنان يكفكفو دمعة المفجوع بيدو الغير على ذاتم يقسمو اللقمة بيناتن حتى إن كان مصريم جوع ففي الخطبة التي سبقت صلاة الجمعة والجنازة، طلب الإمام المصلين أن يتصدقوا بمبلغ ليس بالقليل، وذلك لتغطية ما تبقى من رسوم ومصاريف تكلفة دفن مسلم من بلد عربي رحل قبل أكثر من شهرين، وعجز أهله في الوفاء بما تبقى. أما أهلي السمر الممزوجه دماءهم عربي بزنجي، فلا يعبأ أحدهم أن يخرج أخر فلساً في محفظته ليقبر من كان يمشي بينا ويشاركنا المجالس والطعام. ألم يكن صادقاً سماعين ود حسن حين قال: يكفكفو دمعة المفجوع بيدو الغير على ذاتم يقسمو اللقمة بيناتن ابلغ تعليق سمعته من أخ فاضل كريم ونحن ننصرف من مقابر (فيرسواه) والطقس لم يكن مشجعاً على الخروج في ذلك اليوم قوله: " إن أدركني الموت هنا فلا خوف علي، فلي أخوة وأهل وأحبة سيكرموا وفادتي لرب كريم رحيم". وقد صدق. أوردت هذه الأمثلة في صدر المقال ليس مناً ولا أذىً من أحد لأحد، فهو نهج تفرضه علينا فطرة السوداني. ولكني أردتُ أن أقول أن من واجب القيادة التي فرضت نفسها علينا أن ترتقي وتترقى لقدر هذه الأمة التي قد ترضي بالفقر والمرض والجهل وتصبر عليه لتحاربه بجهودها التضامنية والفردية. ولكن أن تزل وتقهر فلا وألف لا. فقد علمتُ في دكان ود البصير أن الهوان قد بلغ بنا مبلغاً حتى كاد أن ينعدم فينا الإحساس به فأصبحنا لا نبالي أوقع الهوان علينا أم وقعنا عليه. وكأن المتنبي يحكي عن هواننا وهو يقول: كل حلم أتي بغير اقتدار حجة لاجئ إليها اللئام من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام فقد هُنْا وهان الهوان علينا وأصبحنا "مطلشة" لكل ناعق، فليس فينا من يقل (بغم)، فقد عرفت من الجالسين بدكان ود البصير أن الدبلوماسي السوداني بالبعثة الدائمة للأمم المتحدةبجنيف بل قل البعثة نفسها لا يحق لها أن تفتح حساباً في البنوك السويسرية، وأن حسابها وحسابات أعضائها ببنك الإتحاد السويسري UBS قد قفلت من زمان ولى. ولا أدري هل حركت وزارة الخارجية ذراعاً أم تحركت باعاً في هذه المهزلة الإنسانية التي تسيء لنا كأمة قبل أن تسيء إلينا كحكومة. وهل تعلم وزارة الخارجية أن هذا حق مكتسب وليس منحة أو منة من أحد في أن يكون من حق البعثة وأعضائها حسابات بالبنوك السويسرية أسوة بالدول الأخرى؟ فالسودان عضو كامل العضوية في منظمة الأممالمتحدة والمنظمات المتخصصة الأخرى وعلى البلد المضيف أن لا يفرق بين الدول الأعضاء في المعاملة التي تفرضها الاتفاقيات الدولية. وأن يعامل كل الدول الأعضاء وموفودو بعثاتها على حد سوى دون أي تفرقة. هذا حق كفلته اتفاقية فينا للبعثات الدبلوماسية في البلد المضيف. وتدعمه ما وقعه السكرتير العام الأممالمتحدة من اتفاقيات في هذا الشأن مع البلد المضيف، وهي سويسرا. أورد في مقالي توصية جاءت في مذكرة لجنة مختصة من داخل منظمة الأممالمتحدة لسكرتير الأممالمتحدة تجاه ما اتخذه نفس البنك الذي حرم بعض الموظفين الدوليين من أن يكون لهم حساب خاصة فيه وهي تقول: Recommendation 1 The Secretary-General should ensure that commercial entities offering on-site services to United Nations staff and officials guarantee full and equal service to all without discrimination. لذا أتوقع من وزارة الخارجية أن تتخذ موقفاً متصلباً في هذا الأمر، وأن تعيد اتصالاتها بسكرتارية الأممالمتحدة، وبالسلطات السويسرية وتطالبهم بمساعدة الوفد الدائم لجمهورية السودان بالمكتب الأوربي للأمم المتحدةبجنيف وكل منتسبيه في فتح حسابات بأحد البنوك التجارية السويسرية وأن تمهل الدولة المضيفة وسكرتارية الأممالمتحدة مدة معقولة لتصحيح هذه الأوضاع التي تعكس روح الإهانة والتفرقة لشعب بأكمله. وإلا فعلى السودان أن يجعلها قضية للتفرقة العنصرية في جلسات حقوق الإنسان بالأممالمتحدة، ليشربوا من نفس الكأس التي جرعونا سمها. وعلى السودان أن ينتهج سياسة المعاملة بالمثل ويأمر البنوك العاملة بالسودان بغفل الحسابات البنكية بالعملة المحلية والأجنبية لكل المنظمات الدولية العاملة بالسودان وموظفيها، هذا إن فشلت سكرتارية الأممالمتحدة في مناصرة السودان لاسترداد حقوقه المهضومة في سويسرا، وما أكثرها، والمقال لا يتسع لذكرها وتفصيلها. إن كان لحكومتنا أن تقد م التنازلات دون مقابل، فأُلي القربى أولى بالمعروف من غيرهم، خاصة اؤلئل الذين حملوا السلاح سعياً للحصول على مكتسبات لأقاليمهم وأهلها، فهم أحق بالتنازلات من غيرهم.