خرجتُ توَّاً من غيابتِ غرفة المُشاهدة فى طريقى إلى بوَّابة المدخل الرئيسى للمساكن (الكرفانيَّة) وأنا أُردِّدُ – لا إرادياً – كلماتٍ قتاليَّةً مُزجتْ بمدحةٍ راقصةٍ استعارتْ ثوبَ لحنِها من أغنيةٍ عاطفيةٍ راسخةٍ فى وجدان جيلِنا والأجيال السابقة، فى الوقتِ الذى لا زال يُمارس فيه (حسن لياقة ) عزلةَ تمنِّياتِه التى تشِى بها لغتُه الجسديَّة ؛ كأنْ يرسم استفهاماً بكتفيْهِ وكفَّيْهِ وحاجبيْهِ ، أو يقطب جبينَه أو يمطُّ شفتيْهِ أو (يكَرْفِسْ ) وجهه ويهزُّ رأسَه فى حُرْقة أو يعتق تنهيدةً ليبتسمَ فى أسى ! .. قرَّرتُ انتشاله من جُبِّ وسوساتِه إلى هديرِ الجلالات العسكرية التى يعشقها وأنا أصيح فى وجه ذلك الظلام الخلوىِّ: سَريييي ..يييييي بَرايا برايا بَرايا برايا عجوزة أُمْ كضيماتْ أكَّالة اللقيماتْ يلا يا جنابو نبلِّغْ الدخيناتْ *** عجوزة تِنْقة تِنْقة قطَّاعة السِّفِنْجة يلا يا جنابو نجيبا بالطَّبَنْجة ثم أردفتُ قائلاً : (ها زول مالَكْ مِنْبَرِشْ كدى زىَّ الدَّيك ال رصيدو كِمِلْ وسِط بنات اعَمَّو (الفرُّوجات) ؟!والاَّ القروش كِتْرَنْ آحلالى .. أصلو وكتين القروش تَكْتَرْ ؛ البال بِشْتغِلْ سوَّاق والقلب كمسارى واللسان كمسنجى والروح (بتاعة اتَّصالات)!! خرج (حسن لياقة ) من صومعة ذاته ، تمطَّى أمام عتبة الصمت ، تثاءب فى وجه التركيز واستغفر الله ثمَّ سدَّد نحوى سؤالَه : - ألَم تسمع بالأخبار الجديدة ؟ - بلى ..(قلتُ أنا ). اعتدل (لياقة ) فى جلسته واستبدل موات سيجارته تلك بأخرى متوتِّرة قليلاً ، كثيرة التَّنقُّل بين أصابعه ، شغوفة الانغماس بين شفتيه ؛ تسمع لها صفيراً وهى تحترق!..ثم قال فى صورة نقابى محنَّك بَشَمتْ بهائمُ الغبنِ الرعناء زرْعَ حكمتِه ورويَّته: - هذا هُراء ..هذا عبث ..هذا نبْتٌ شيطانىٌّ - من أباطيل (الولد المراوغ )- فلَقَ تُربتَه واستوى على سُوقِه واستغلظ وتعَمْلقَ ؛ يجب استئصاله من جذوره ,فإنَّ فكرة الولد المُراوغ التى وضعها سابقاً ، ألا تذكُرها ؟ ؛ فكرة (الحرس الاحتياطى) التى أدخلَتْنى الحراسة ؟ فهاهى اليوم قد تخرَّجتْ فى جامعة الانتهازية والنفعية ؛ كليَّة مصَّاصات الدماء الطفيلية بدرجة الشرف ؛ هل قلتُ الشرف ؟ بل تمَّ استيعابُها مُعيدةً – قُلْ مُعِدَّةً- للمزيد من المصَّاصات القُراديَّة الثقيلة الشَّرِهة التى يُطلَق عليها مجازاً (مؤسَّسات الاستثمار التعاقدية ) الهاربة من لقبها البغيض ؛ (عبوديَّة العصر الحديث) والمحميَّة بكافة آليات السُلطة وأجهزتها إلاَّ من القضاء الربَّانى !!! نعم ..فإنَّ ضعفَ إرادتِنا فى قُرادتِنا أأأقصد فى مؤسَّستِنا التى تتشبَّث – قُرْطاً – فى شحمةِ الأُذْنِ اليُمنى لهذا المشروع الذى يُعلِّقُ عليه سوادُ الشَّعْبِ آمالَه ..وليتها اكتفتْ بذلك فها هى ذى تُبارك شقيقتَها وتوأمتها قُرطاً قُراديَّاً لشحمة الأُذنِ الأُخرى ! مُشيرةً إلى بقيَّةِ القطيع القادم أنْ هيَّا إلى مَصِّ الدماءِ الشهيَّة ؛ ليس لنا سوى المَصِّ قضيَّة ! .. عليكم يا نُخبةَ القُراد بالجَفْنَيْنِ وتحت الإبْطيْنِ وبين الفخذَيْن .. لا تُغادروا وريداً أو شرياناً دون مضخَّةٍ تضخُّ دمَه ضخَّاً إلى مراكز التجمُّعِ فى جيوبكم الشاسعة ومِن ثمَّ إلى مِصفاةِ عقولِكم المُلوَّثَة بدمار البشر والحيوان والنبات ؛ ثم إلى ميناء بطونكم الساحقة والماحقة !! .. لا تأخذكم رحمةً – أبداً – بهذه الدماء التى نحن مَنْ غذَّى بها هذا الجسد ؛ فالحمدُ لله ربِّ العالمين ، ذى القوَّةِ المكين ، الذى سخَّر لمعشر القُراد هذه الأوردة والشرايين وما كانوا لها مقرنين !! فجأةً قفز (حسن لياقة) كمن وُخذَ بتيَّار كهربائى فى عتمة اندياحه الشفيف والمُخيف وهو يصرخ فى وجهى : - ألا تسمعنى أيُّها القُراد أأأقصد القارْدْ؟!! - بلى (قلتُ أنا) . - بَلا ياخْدك ياخ! طيِّب ما تقول حاجة!!(قال لياقة ). قلتُ متقمِّصاً اسلوب الولد المراوغ عندما يمتطى التسويف والتضليل والتخدير العضوى للمظالم والشكاوى فى تلك القضايا التى تحتاج إلى نفَس طويل : - يا أخى فى الله (حسن لِياقة) مالَك وما لهم؟ ..فهؤلاء قومٌ طيِّبون لا يُريدون سوى الخير لأنفسهم وللآخرين وسائرِ المؤمنين على امتدادِ هذه الكُرة الأرضية ؛ أتحسدهم على حفنةِ مليارات يكتنزونها من هنا ومن هناك فى سبيل التمكين حيناً والجيوب أحايين أُخرى؟؟!! ..توخَّ منفعتَك الذاتيَّة يا حسن ؛ ألا تفهم؟ فإنَّ هذه القُرادة – عفواً- أأقصد المؤسَّسة الجديدة ستتولَّى عن القديمةِ شئونَ العاملين بالمناطق النائية والخلويَّة بمعنى آخر أنَّها تنحَّتْ لها توأمتها عن العطاء مادامت الروافدُ شتَّى والمصبُّ واحداً !! وأنَّها أى المؤسَّسة الجديدة ستتضاعف أجورَ العاملين بدءاً ، وفى العقد القادم – بعد عمرٍ طويل- ستزيد الأجور – لمن بقى منهم- بنسبة خمسة فى المائة، وفى العقد الذى يليه بنسبة عشرة فى المائة ، وهكذا وهكذا حتى يصبح العاملون –بإذن الله- أغنى من مستخدِميهم ..بالصبر والإيمان والاحتساب طبعاً !! .. يا أخى هذه ثورة اقتصادية كُبرى وما قامت إلاَّ مِن أجلنا (نحن) المسحوقين !!!! ضحك (حسن لياقة) حتى بلَّلتْ دموعُه الكمَّامةالمتدلِّية على عنقه ..رقَّتْ ضحكتُه فى سبيلها إلى التلاشى فاستحالت لتوسُّلِ جروٍ صغير(مزْرورْ فى خُمَّارة) ..ضرب الأرضَ بحذاء السلامة حتى فزعتْ أسراب البعوض العاكفة على مصِّ الدماء ! ثم قال شاهقاً : -نحن ؟ مَنْ نحن يا صاح ؟ إنَّك تذكِّرنى بمسيرة المناصرة الكُبرى فى عصر التضليل والتى نظَّمَتْها امرأتان مخمورتان حتى الثمالة ؛ تحملان لافتةً ضخمةً بيضاءَ تسرُّ الناظرين لا تعليق عليها ..تهتفان بلا صوت .. تقطعان طريقاً ما به أحد ولاشئ ؛ حتى ظِلَّيهما اختفيا عن ناظريهما !.. وبينما هما تتخبَّطان دون هدىً أو بوصلة ؛ سألتْ إحداهما الأخرى ببراءة : - هِيى ؛ نحن ماشِّين وين؟! فردَّتْ الأُخرى ببراءة : - هُو نحن منو؟؟!! ثم سقط حسن لياقة فى لُجَّة ضحكته مرَّةً أُخرى وأنا أُشاطره الضحك الحزين أم الحزن الضاحك لست أدرى ، فالأمرُ سِيَّان !!