منى عبد الفتاح moaney ([email protected]) إذا قدّر الله لك أن تقضي شهر رمضان في السودان فسيأخذك حرص الناس على المظاهر الاحتفالية المصاحبة للشهر أكثر من العبادة نفسها. ومن ضمن المظاهر اللافتة للنظر هي أشكال التدين المظهري لدى النساء وكنت قد تركت هذه الظاهرة قبل خمس سنوات في بداياتها .الملاحظ أن هذه المظاهر تنشط في الريف وفي الأحياء الشعبية بالمدن وتثير لغطاً وشكوكاً حول هل هي مجرد أداء للشعائر وترديد لمدح الرسول (ص) دون الالتزام بمنهج الله تعالى . أكثر ما يثار عن هؤلاء النسوة هو المزايدة في العشق الإلهي دون التبصر في أمور الفقه الخاصة بالعبادات . من أطرف ما روي عن إحداهن وهي كثيرة البكاء خاصة عند ذكر الجنة والنار أنها سألت الشيخة : هل تبطل حبة البندول الصيام إذا أخذتها دون ماء! لم أجد في واحدة من هؤلاء المتبتلات شيئاً من السيدة رابعة العدوية والتي تجود سيرتها بمتعة استثنائية ، لما تتميز به هذه السيرة على كثير من غيرها من سير المتصوفة ، ولما تتزود به من معانٍ في الحب الإلهي والسمو فوق درجات الحب العادية . من أجمل ما يحفظه الناس عن رابعة قولها : أحبك حبين: حب الهوى وحبّاً لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حبّ الهوى فذكرٌ شُغلت به عن سواكا وأما الذي أنت أهلٌ له فكشفُك الحُجب حتى أراكا فما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا منذ أن طالعت سيرتها أول مرة خلال سني الدراسة الابتدائية ،وإلى الآن لم أجد من الكتابات ما يلمس مؤثرات صاغت شخصيتها أو البيئة التي أنتجتها . جل ما يعرفه الناس عن رابعة هو أنها متصوفة يرجع أصلها إلى البصرة بالعراق وتكنى ب"قديسة الإسلام". وبالرغم من أثرها الواضح على متبني مذهب العشق الإلهي إلا أن انتقادات كثيرة قابلت مذهبها ذاك بأنه لم يكن هو المؤسسة الحقيقية لفكرة الحب الإلهي وأن عناصر الشوق والوجد والأنس في العلاقة بين الإنسان وربه لم تكن هي مبتكرتها ففي كل الأديان تغلب هذه العناصر في صفات الأنبياء المرسلين والمصطفين الأخيار ولهم فيها أحوال شتى. ويعد الباحثون أن من بين المبالغات ما كتبه الشيخ العطّار فيما سمي بحادثة السوق حيث ذكر (أنها في أحد الأيام، كانت رابعة تقضي حاجة لسيدها، رآها رجل غريب وظل ينظر إليها بنظرات شريرة، فخافت منه وهربت. إلا إنها تعثرت وهي تركض، فغميّ عليها، فلما استيقظت أخذت تناجي ربها:" إلهي، أنا غريبة يتيمة، أرسف في قيود الرق. ولكن غميّ الكبير أن أعرف: أراضٍ عني أم غير راض؟".عندها سمعت صوتاً يقول لها:" لا تحزني! ففي يوم الحساب يتطلع المقربون في السماء إليك، ويحسدونك على ما ستكونين فيه". وعندها اطمأن قلبها لذلك الصوت الغيبي، فتنهض وتعود إلى بيت سيدها). ورأي الباحثون في هذه القصص نسجاً يفوق المنطق والعقل لأنه لا أحد يُلهم بالعناية الإلهية ويقررها وفقاً لطاعة أو زهد ولا أحد يقرر غيباً لا يعلمه إلا الله خاصة بعد انقطاع الوحي عن الأرض . متصوفات السودان لم يُستنسخن من هند بنت المنذر ملك الحيرة التي ترهبت وتبتلت وزهدت ولا من رابعة العدوية بل من بعض تداعيات الثابت والمتغير في كنف الثقافة السودانية . وبمراجعة صورهن يمكنك أن تلمس أن في الأفق نوع من عدم المصالحة مع الواقع وبه يتسنى للنساء ممارسة مظاهر التدين دون روح الدين بهذا الشكل الهروبي والذي يمكن أن يأخذ مداه الوقتي من التقمص وبعدها ستعود كلّ إلى قواعدها مع بعض الخسائر الطفيفة.