بسم الله الرحمن الرحيم مسائل فكرية: 1 [email protected] بإذن الله سبحانه وتعالى وبعد الصلاة والسلام على خير المرسلين وفى هذا الشهر الكريم أنوى أن أتأمّل وأتدبّر معكم بعض مسائل الفكر التى شغلتنى ردحاً من الزمان عن حال بلادنا وفهمه. ولا يفوتكم فهى بلاد بها من الغرائب والعجائب ما تتميّز به عن دون أقطار العالمين فى زماننا الحاضر ولا أجد لها مثيلاً فى زمانٍ سابق ولعلّ ذلك مردّه جهلى بأحوال العالم ، ماضيه وحاضره ، أو أنّ خصائص هذه البلاد فريدة ممّا يجعل مسألة الفهم عصيّة لا توفّرها التفسيرات التاريخية ولا الطبقية ولا الاقتصادية. ولعلّه أيضاً اختلاف تعريف البلاد التى نتحدّث عنها والشعوب التى تقطنها ، فهى كثيرة ذات عادات مختلفة ، وتاريخ خاص ، وجغرافيا وثقافة متنوّعة. وكنت فى وقت سابق ، عندما حاولت البحث فى طبع الشعب السودانى ، وجدت صعوبة فى تعريف الشعب السودانى ووجدتنى أعزف عن البحث ، بعد أن تبيّن لى ، أنّه حتى ما يسمّى بسودان الوسط ، لا يمكن تعميم العوامل عليه وبذا قلّت مصداقيّة البحث. وبدا لى أنّ القاسم المشترك بينها هو الإنسان ، وهو بطبعه ، توحّده ، أينما حلّ ، قدرته على التفكير والشعور والتعبير والابداع ، سعياً وراء البقاء والارتقاء وأيضاً كره الظلم لنفسه. والمولى عزّ وجلّ عندما أخبرنا بمصدرنا أكّد على أربع حقائق أولاهما أنّه خلقنا من ذكر وأنثى وهى نفسٌ واحدةٌ خلق منها زوجها ، ممّا يدلّ على تكامل النفس وليس الاختلاف ، وثانيهما أنّه جعل منهما شعوباً وقبائل وثالثها الحكمة وهى التعارف لا التناحر ، والتكافل لا الفرقة ، والتكامل لا التجزئة مبيّناً عدم دونية خلق لخلق إذ الكل مخلوق من جزء والجزء لا يتبعّض ، وفى هذا عين الحكمة ، إذ أنّ الحكمة لم تُقسم لشعبٍ دون آخر ولكن ، لأنّها خير الرزق (ومن أوتى الحكمة فقد أوتى خيراً كثيرا) ، فقد فرّقها المولى عزّ وجل على كافّة خلقه ، وما كان ليرث جُلَّ علم آدم عليه السلام شعب دون آخر ، وخير التراث هو العلم ، كما قال حسن البصرى رضى الله عنه ، ولذلك فقد نبّه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، أنّ: (الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها فهو أحقّ النّاس بها). وختمها بالمساواة أمامه وبيان الفضل وهى التّقوى. وقد قدّم المولى عزّ وجل ذكر الشعوب على القبائل وفى هذا تفضيل وأيضاً فيه حقيقة. فليست هناك قبيلة متجانسة وإن ظنّت ذلك ، والمثل الشعبى يؤكّد ذلك: (أنا وأخى على ابن عمّى وأنا وابن عمّى على الغريب) فكلّ قبيلة شعب له بطون وأفخاذ وفصائل وبيوت يفخر بعضها دون بعض ، ولكنّ التقديم أيضاً ينير فكرنا بحقيقة الوعى الجمعى للشعوب فكأنّها ، خاصّة عند الملمات ، تلك النّفس الواحدة التى خلقت منها بانفعالها وسبل تفكيرها وتفاعلها مع الأحداث. وإذا نظرنا إلى أنّ الجنة هى دار تنعدم فيها المشاكل ، لأنّ تعريف المشكلة هو العدم أو الفشل فى إيفاء الحاجة ، ولذا فهى دار سعادة ، بينما هذه الدار هى دار شقاء ، (فلا يخرجنّكما من الجنة فتشقى ، إنّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ، وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فذلك يعنى أنّ ديدنها المشاكل والحلول فيها استثناء. أىّ أنّ الإنسان ، كما يقول سارتر (فى حالة ورطة وجوديّة أو مأزق) عليه أن يسعى ليجد حلاً لها أو له. وبما أنّنى أنفقت من عمرى سنيناً فى استكشاف مجاهل النّفس ، فلا سبرت غورها ولا دانت لى أرضها ، ولكنّى أقلّ جهلاً بها دون غيرها ، وجدتّنى أفكّر فى الحالة السودانية من مداخلها بشعبها المختلفة ، ولا أقول شعابها فلست من أهل مكّة النّفس ، وهى مدخل أنواع التفكير وأنواع الذكاء وأنواع السلوك وأنواع الأنفس وأنواع المهارات. وسأبدأ فى هذا البحث إن شاء الله ، بأنواع التفكير. والتفكير فى تعريفه البسيط هو استخدام الفكر بواسطة اللغة من أجل الفهم والتواصل والابتكار لحل معضلة الحياة. فالفكر أداته اللغة التى يستخدمها فى عملية التفكّر فيكون نتاجها الأفكار. وللتفكير تقسيمات كثيرة بعضها يقاطع الآخر أفقيّاً أو رأسيّاً. وأبدأ بتقسيم بسيط للتفكير وهو التفكير المجرّد والتفكير الصّلب (لفقدانه المرونة الفكرية) أو العينى أو المحدّد. والإنسان لا يستطيع أن يستخدم التفكير المجرّد قبل سنّ السابعة، وهذا التفكير هو القدرة على استنباط المعانى من المعنى المباشر كأن تقول: "إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمى الآخرين بالحجارة" ، والمعنى المقصود هو إذا كانت لك عيوب فلا تتحدّث بعيوب الآخرين فإنّهم سوف يظهرون عيوبك أو كما قال الإمام الشافعى رضى الله عنه: "لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلّك عورات وللناس ألسن". أمّا إذا سألت طفلاً أو مريضاً بالذهان ، وهو مرض عقلى ، سيقول لك إنّ المعنى هو أن تتجنّب أن ترمى الآخرين بالحجارة لأنّهم سوف يرمون بيتك بها ويكسرون زجاجه. وقد أجرى عالم سويسرى اسمه (بياجيه) دراسات على الأطفال فى منتصف القرن الماضى ، استخلص منها أنّ الأطفال لا يمكنهم استخدام التفكير المجرّد حتّى سنّ السابعة ولذلك فقد كان الأطفال يبدأون المدارس فى سنّ السابعة من العمر. ولمّا بدأ النّاس يدخلون أبناءهم المدارس فى سنّ الخامسة أُجرى بحث استنتج أنّ الأطفال الذين يدخلون المدرسة فى سنّ السابعة تقدّموا على زملائهم السابقين بعد عامين فقط ممّا يثبت أهميّة التفكير المجرّد. والسبب هو عدم نضوج المخ وتوصيلاته العصبيّة حتى بلوغ سنّ السابعة. وبعد الثورة التعليمية والالكترونيّة الحاليّة ، على أغلب الظّن ، لا بدّ أنّها أثّرت فى نمو المخ ، فأنا ألحظ فى أطفالى وأطفال الآخرين استخداماً مبكّراً للتفكير المجرّد ، فهم يضحكون فى البرامج الفكاهيّة التى تعتمد على المفارقة الذكيّة أو اللغويّة ، بينما الأطفال عامة يفهمون الدراما والفكاهة العملية ، لأنّها تعتمد على التفكير الصّلب والمعنى المباشر ، ولذا فبرامج مثل (توم آند جيرى) و (بِنْكْ بانثر) تجد شعبيّة عالميّة عند الأطفال. وأظنّ أنّه قد حان مراجعة استنتاجات (بياجيه). ولازلت أذكر شغف السودانيين فى الخليج فى بواكر الثمانينات ببرنامج (بِنْكْ بانْثَر) كمرحلة انتقالية بين بدائية برامج الأطفال فى طفولتهم وبعض الفكاهة العملية والتجريد البسيط. الشعوب فى مراحل نموَّها لا تختلف كثيراً عن الأطفال. وعلى قدر علمها وتعليمها وحضارتها واحتكاكها بغيرها من الشعوب والثقافات وتعقيد نظام حياتها، تنمو قدراتها التفكيريّة. وإذا تتبّعنا نمو الحس الفكاهى لأهل السودان نجد أنّهم ، مقارنة بالمصريين والشّوام ، كانوا أقلّ درجة حتى أنّ هناك النّكتة الشائعة التى تقول أنّ مصريّاً سأل أخاه العائد من السودان عن الأحوال فقال له لقد بدأ السودانيون التنكيت على حالهم فقال السائل: "يبقوا جاعوا أولاد الإيه ". فنحن كنّا وما زلنا تستهوينا الفكاهة العملية ، وإن انتقلنا من بدائية الفاضل سعيد وأبو قبورة وتور الجر ، ومع ذلك نجد الكثير من النّاس لا يزالون يجدون متعة عالية فيها ، ومع بروز الفرق الفكاهيّة الجديدة نجد أنّ النكتة أخذت طابع التجريد ، ولكنّه تجريد بسيط كاستخدام المفارقة اللغوية أو الموقفيّة عند قبائل السودان المختلفة ، فمثلاً نكتة أدروب الذى غشّه التجّار فى الخرطوم بإعطائه شيكاً كاشفاً ، وعندما علم أنّ زوجته وضعت ولداً وأرادت أن تسميه (أوشيك) وهى بمعنى (الشيخ) قال لها: (تانى مافى أوشيك.. أوكاش بس). وقد بدأ التجريد المركّب فى النّكات السياسية ونكات المساطيل وهى عند الخاصّة دون العامّة وعند الشباب دون الشيّب فى الشبكة العنكبوتية دليل التواصل الحداثى. ولا يزال غالبية النّاس يدمنون مسلسلات الدراما. وسنواصل بإذن الله فى الحلقة القادمة.