تتمتع بعض المنظمات الدوليَّة والاقليمِيَّة بحَصَانة تَعفِيها مِن الخضوع للقضاء المحلي، وهي حَصانَة مُستمدة مِن مواثيق واتفاقيات دولية أو اقليمية. هذا الأمر قد يُؤدي إلي سُوء استعمال الحصانة مِن قِبَل بعض المنظمات، خاصةً الاقليمية، لتحقيق أغراض اُخري، كالتهرُب مِن دفع حقوق العامِلينَ مثلاً. ومع أن العاملينَ في تلك المنظمات لا يَطرقون أبواب القضاء المحلي إلا بعد أن يَستَنْفدوا كُل الطُرُق وتَنعَدِم الخيارات، إلا أن المحاكم المحلية دائماً ما تنتهي بقضائها إلي عدم إختصاصها بنظر الدعوي، استناداً علي تَمتُع المنظمة بالحَصانة، وبذلك أصبحت الحَصانة عائق أمام العاملِينَ في تلك المنظمات في حال الإدعاء عليها. مِن الاتفاقيات الاقليمية نجد مثلاً، اتفاقية مزايا وحصانات جامعة الدول العربية لعام 1953، التي مَنَحَت جامعة الدول العربية كمنظمة اقليمية الحصانة القضائية، وفقاً لنص المادة الثانية مِن الاتفاقية، والتي تنُص علي "تتمتع أموال جامعة الدول العربية ثابتة كانت أم منقولة وموجوداتها أينما تكون بالحصانة القضائية ما لَم يُقرِر الأمين العام التنازل عنها صراحةً علي ألا يتناول هذا التنازل إجراءات التنفيذ". فالبعض يذهب للقول بأن الحصانة الممنوحة هنا هي حصانة مُطْلَقة، وبالتالي لا مَناص من شطب دعوي العامل في حال لجوءه للقضاء المحلي للمطالبة بحقٍ ما يَدعِيه. هذا القول في رأيي لا يستقيم، ويُجانِبهُ الصواب، وسنأتي لتفصيل ذلك لاحقاً. هنالك أيضاً مَن يري بأن الإعفاء المقصود هو ذلك المتعلق بإجراءات التنفيذ فقط، دون أن يَمتد ذلك ليَحُولَ دون مُمارسة الحق في التقاضي، إلا أنه ما جدوي ذلك، إن لَم يتِم إنفاذ الحُكم الصادر؟! هذا مع الأخذ في الاعتبار أن المحاكم المحلية دَرَجَت علي أن تنتهي بقضائها إلي عدم الإختصاص، وإن نالت تلك القرارات الصادرة ثمة طعون فقد تنتهي المحكمة العليا إلي أن قضاء المحاكم الأدني صادف صحيح القانون، بل قد تنتهي إلي رفض التدخل. فكيف تُستَوفي الحقوق؟! مَنح الحصانة القضائية للمنظمات الاقليمية يُلزِمُها –في رأيي- بأن توفر سبيل فَعَال للتَظلُم، بما يَقُود لتحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن العقود. وفي ذلك فقد نصت اتفاقية مزايا وحصانات جامعة الدول العربية في المادة 31 منها علي أن تُشكِل جامعة الدول العربية هيئة لِفَض المُنازعات الناشئة مِن التعاقُد، وغيرها مِن المَنازعات المُتعلقة بالقانون الخاص التي تكون الجامعة طرفاً فيها. لذا، ففي حال لجأ أحد أفراد المنظمات الاقليمية للقضاء المحلي للمطالبة بحقٍ ما، فذلك يُشير لعدم توفر آليات فعالة للفصل في دعواه. لذا مِن غير المقبول أن تَدفَع بعض المنظمات بالحصانة وفي نفس الوقت هي لا توفر آليات فعالة للفصل في المنازعات الناشئة، أو تماطل في حل النزاع، ما يُعَدُ تعسُفاً في استعمال الحق الممنوح. هذا بالإضافة إلي أن الحصانة يجب ألا تمتد لتغطي الأعمال غير الرسمية، لأن ليس لها ما يُبَرِرها، فإدعاء عامل بحقوق مالية علي منظمة ما، ليس فيه ما يُعَطِّلها عن النهُوض بِمَهامِها، والتي لأجلها مُنِحَت المنظمة تلك الحصانة، وأي قول بخلاف ذلك يُعتبر تَوَسُعاً في مبدأ الحصانة دون مسَوِغ. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المنظمات بخلاف أنها قد تُوفِر آليات للفصل في المنازعات الناشئة، تستطيع أيضاً أن تلجأ للقضاء المحلي للفصل في أية دعوي تكون هي طرفاً فيها، فحق التقاضي مكفول لها، كما هو مكفول لجامعة الدول العربية وفقاً لنص المادة 1 من اتفاقية مزايا وحصانات جامعة الدول العربية، وعندها فالمحاكم المحلية تتخذ ما تراه مُناسباً وتَقضِي وفقاً للقانون، دون إعتبار للحصانة التي تتمتع بها تلك المنظمة. في نفس الوقت فتلك المنظمات لها أن تتمسك بالحصانة في حال الإدعاء عليها. لذا إن ذهبنا للقول بأن الحصانة المُقررة هي حصانة مُطْلقة، فذلك يخدم مصالح تلك المنظمات وفي نفس الوقت يَلحق الضرر بمصالح العاملين، هذا غير أننا، نهدِر حق العامل في التقاضي بعد أن كَفَلنا ذلك الحق لتلك المنظمات، وهذا ما لايجوز القبول به مُطلقاً. حتي وإن ذهبنا للقول بأن الحصانة المُقررة هي حصانة مُطْلقة، فالمحاكم المحلية في رأيي لها أن تطرح ذلك جانباً، بالإضافة إلي كل ما تُقرره في ذلك الاتفاقيات الاقليمية، وذلك في حال تعارضت نصوص تلك الاتفاقيات الاقليمية مع المواثيق الدولية. فمِن غير المعقول أن تقف الحصانات الممنوحة عائقاً أمام المُطالبة بالحقوق وحمايتها، خاصةً إذا كان اللجوء للقضاء متعلق بحماية حق مِن حقوق الإنسان، كحق الفرد في التقاضي مثلاً، لذا فتلك الاتفاقيات يجب أن لا تَسمُو علي العهُود والمواثيق الدولية الصادرة مِن الأممالمتحدة، وفي ذلك فقد جاء في المادة 103 من ميثاق الأممالمتحدة الآتي "إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأممالمتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعِبرَة بالتزاماتهم المُتَرتبة علي هذا الميثاق". وحق الفرد في التقاضي تَضَمَنهُ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الثامنة "لكل شخص الحق في أن يلجأ إلي المحاكم الوطنية لإنصافه عن أعمال فيها اعتداء علي الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون"، كما أن المادة 2/3 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية نصت علي "تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد: (أ) بأن تكفل توفير سبيل فعال للتظلم لأي شخص انتهكت حقوقه أو حرياته المعترف بها في هذا العهد، حتي لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسمية، (ب) بأن تكفل لكل مُتظلم علي هذا النحو أن تَبِت في الحقوق التي يَدعِي انتهاكها سُلطة قضائية أو إدارية أو تشريعية مختصة، أو أية سُلطة مختصة أخري ينص عليها نظام الدولة القانوني، وبأن تُنَمِي إمكانيات التظلم القضائي، (ج) بأن تكفل قيام السُلطات المختصة بإنفاذ الأحكام الصادرة لمصالح المتظلمين." وكما هو معلوم فقد إعتبر الدستور الانتقالي لسنة2005 كل الحقوق والحريات المُضَمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والتي صادق عليها السودان جزءاً لا يتجزء مِن وثيقة الحقوق الدستورية "المادة27/3 من الدستور". عليه، وبالاستناد علي هذه النصوص، مقروءة مع المادة 103من ميثاق الأمم المُتحدة، يصبح مِن غير الجائز الركون إلي نصوص تلك الاتفاقيات الاقليمية ومِن ثَمَ الانتهاء بالقول بتمتُع تلك المنظمات بالحصانة القضائية في حال الإدعاء عليها، لأن ذلك يهدر حق مِن حقوق الإنسان وهو الحق في التقاضي "المادة 8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" و "المادة 35 من الدستور الانتقالي". حقوق الإنسان خط أحمر. لذا، لا تقبل المحاكم في بعض الدول الدَفْع بالحصانة القضائية، إن تعلق الأمر بحق من حقوق الإنسان، ففي عام 1988 عُرِضَت أمام المحاكم في شيلي دعوي مؤداها: "هل يَتِم تفضيل الحصانات الدبلوماسية حتي ولو ثَبُتَ وجود انتهاك لحقوق الإنسان؟ وكان ذلك بمناسبة دعوي رُفِعَت ضد دبلوماسي تابع لألمانيا الاتحادية في شيلي لإعتدائها علي حق الحياة الخاصة. فدَفَعت السفارة الألمانية بالحصانة وانتهت المحكمة إلي عدم إختصاصها لتمتع الشخص المذكور بالحصانة، إلا أن المحكمة العليا نَقَضَت الحُكم وقالت إن المحاكم الدنيا مُختصة بالنظر في موضوع الدعاوي الخاصة بحقوق الإنسان الأساسية وأن الحصانة الدبلوماسية لا يُمكن أن تقف عائق أمام حماية تلك الحقوق، لأن تلك الحصانات تُغطي فقط الأعمال الرسمية المذكورة في المادة الثالثة من اتفاقية فيينا، وعند بحث المحكمة للموضوع انصياعاً لما قررته المحكمة العليا انتهت إلي أن إجراءات التنفيذ هي التي تُشكل انتهاكاً للحصانة الدبلوماسية وأن هذه الأخيرة لا تعتبر عائقاً في سبيل حماية حقوق الإنسان". عليه، لابد مِن فرض الحماية القانونية اللازمة لحقوق العاملِينَ في مثل تلك المنظمات، بما يحقق العدالة ويحفظ الحقوق، وضرورة أن تَسمو الاتفاقيات والمواثيق الدوليّة علي ما دونها من اتفاقيات ومواثيق في حال نشوء تعارض بينهما، وإلاّ فإن ذلك يعني، بخلاف إهدار الحق في التقاضي، مُصادرة المنظمات للحقوق الماليّة للعاملِين. ليَضِيع عَرَق الجباه الشُم شمار في مَرقَه، علي حد قول الشاعر الراحل حِمّيد. loai abdo [[email protected]]