** الحلقة الثانية عشر*** كتبت في الحلقة الحادية عشر أن اضراب القضاة الشهير عام 1983 انتهى بانكسار الرئيس السابق جعفر نميري وموافقته على منح القضاة الامتيازات الراتبية والوظيفية التي طالبوا بها. كما كتبت أن اضراب القضاة ربما كان من الاسباب التي حفزت الرئيس السابق للاندفاع في سكة قوانين سبتمبر حتى يتيسر له الزعم بأن النظام القضائي بأسره انما هو ثمرة لتربية استعمارية علمانية، والسعي لتهميش القضاء واضعاف شوكته تحت شعارات الشريعة والأسلمة. وكان هذا نمطاً راتباً في اسلوب تفكير الرئيس السابق. اذ انه عندما شنت نقابة عمال السكة الحديد سلسلة اضراباتها الشهيرة في صدر الثمانينات، تلك التي مرغت أنف النظام في الوحل، لجأ النميري الى خطة شيطانية تم بمقتضاها نقل رئاسة السكة الحديد من عطبرة الى الخرطوم، وتشكيل ما عرف ب (الكتيبة الاستراتيجية)، وهي مجموعة من العمال المدربين على كافة مناشط العمل بالسكة الحديد تمت عسكرتهم بحيث يمتنع عليهم العصيان والاضراب، وذلك بالإضافة الى سلسلة من الخطط الهادفة الى اضعاف قطاع السكة حديد ونزع أنياب نقاباتها. ولكن حبيبنا القاضي الجليل مولانا فيصل مسلم، الذي راسلني عن طريق صديقنا المشترك الاستاذ ياسر عبيدي، صحح ما زعمته عن موافقة النميري على منح القضاة الزيادات والامتيازات التي طالبوا بها، وأكد لي ان الرئيس وافق فقط على منح القضاة رواتب الشهور التي توقفوا خلالها عن العمل. ثم اضاف بأنه يخالفني الرأي أن قوانين سبتمبر كانت ثمرة من ثمرات اضراب القضاة، ويتحفظ على تحليلي الذي يذهب الى أن النميري اندفع في مسار تبني وانفاذ قوانين الشريعة من قبيل ردة الفعل على ذلك الاضراب. وأنا إذ أقبل التصحيح الاول، واثبته شاكراً، كوني أعلم ان مولانا فيصل مسلم كان في قلب تلك الاحداث في العام 1983م، الا أنني راسخ كالطود على قناعتي بأن هناك علاقة وثيقة بين اضراب القضاة وقوانين سبتمبر. وربما نعود الى هذا الخلاف ونتوسع في معالجته، أنا ومولانا، بعد الفراغ من هذه السلسلة بأمر الله. ثم أنني أحمل كثيراً من التقدير لطائفة المهندسين، التي لم يقع منهم الموقع الحسن حديثي عن امتيازات المهنيين بعد انتفاضة ابريل 1985، والمكاسب التي نالها المهندسون على وجه التخصيص بفضل وجود احد قادتهم النقابيين، المهندس عبد العزيز عثمان موسي، وزير الصناعة في حكومة الانتفاضة، على رأس اللجنة الوزارية التي اوكلت لها الحكومة معالجة قضايا ومطالب النقابات. ولكنني ثابت أيضاً على موقفي بأن نقابات المهندسين تتحمل مثل غيرها من قطاعات المهنيين قسطاً وافراً من مسئولية حالة الانفلات والفوضى التي ضربت الديمقراطية البرلمانية الثالثة. الذين عاصروا ذلك العهد يذكرون ذلك التقليد العجيب الذي اتبعته النقابات المهنية التي كانت تتباري في اعلان الإضراب طلباً للامتيازات المالية والوظيفية. وهو تقليد اصدار بيانات موجهة للشعب عبر الصحف تعلن فيها أن اضراب هذه الفئة المهنية او تلك يكلف البلاد كذا مليون دولار في اليوم. من ذلك أن تعلن نقابة الزراعيين الاضراب ويتوقف جميع منسوبيها عن العمل، ثم بناء على بعض العمليات الحسابية العجلي تصدر النقابة بياناً تعلن فيه بكل فخر واعتزاز (اضراب الزراعيين يكلف الدولة خمسة مليون دولار في اليوم)، مثالاً فلا اذكر الارقام الحقيقية. ثم تخرج نقابة اخرى في اليوم التالي فترفع قائمة الامتيازات المطلوبة لاعضائها، ثم تصدر بياناً والعزة تملأ اجنحتها (اضراب الفئة الفلانية يكلف الدولة سبعة مليون دولار في اليوم)! وهل ننسى الظواهر والممارسات النرجسية وتلكم الرغبات الطاغية عند قطاعات واسعة من (المثقفين) والمتعلمين في تبخيس الحكومات المنتخبة والمجاهرة بتوجيه الإساءات الى رئيس الوزراء؟ حتى لتظن انه قد دخل واستقر في روع هؤلاء ان (المثقف) صاحب الياقة المنشاة لا يكون (مثقفاً) الا إذا أظهر جرأته على السلطات الدستورية في البلاد وتبجح عليها وأظهر عدم احترامه للمؤسسات الديمقراطية التي أتت بأصحاب الجلاليب والقفاطين والمراكيب الى دست الحكم، وتركت النخبة تعلك الهواء. وقد حدث ذات مرة ان نشر سفير في وزارة الخارجية مقالاً اتهم فيه رئيس الوزراء بأن سياسته الخارجية غبية وفاشلة. وتلك سابقة لا وجود لها في العالم كله، اذ ان السفراء موظفون في الجهاز التنفيذي، وهؤلاء لهم قنوات معينة للمشاركة في صناعة القرار والتعبير عن آرائهم حول السياسات التي تساهم وحداتهم في صياغتها، وليس من بينها التعرض لقادتهم التنفيذيين والسياسيين في اجهزة الاعلام والاستئساد عليهم. وعندما طلبت أحد المسئولين محاسبة ذلك السفير وفقاً للوائح الخدمة العامة هاجت نقابة الدبلوماسيين وماجت وهددت بالإضراب والتوقف عن العمل! كما حدث ان تفاحشت ظاهرة قطوعات الكهرباء فصرح رئيس الوزراء بأنه غير مقتنع بأداء هيئة الكهرباء وانه سيحقق في الأمر، وهنا اضطرمت نقابة مهندسي الكهرباء، وتمردت واطلق الناطق باسمها عدداً من التصريحات النارية باتجاه رئيس الوزراء يستهجن فيها تدخله في أمر ادارة الكهرباء، وكأن رئيس الوزراء بائع متجول يبيع الترمس في الحدائق العامة، وليس المسئول الاول عن إداء الجهاز التنفيذي في البلاد! ويبدو ان عدداً من قادة الخدمة العامة كانوا قد تأثروا بروايات قديمة مترددة عن وكلاء لوزارات واجهوا، في عهود ديمقراطية سابقة، السياسيين من الوزراء وعارضوا قراراتهم عندما رأوا انها لا تتوافق مع المصلحة العامة. وكانت هذه في واقع الامر حادثات فردية معزولة اصبحت مثلاً في زمانها. ولكن عددا من قادة الخدمة المدنية في عهد الديمقراطية الثالثة سحرتهم تلك الروايات وبهرتهم فأرادوا للتاريخ ان يسجل اسماءهم كقادة خدمة أقوياء ذوى شخصيات مهيبة. وهكذا اصبحت معارضة الوزراء ومغالطتهم واثارة الغبار حول كل قرار وسياسة رياضة راتبة عند بعض هؤلاء. يقول الوزير: شرقاً فيقول الوكيل: لا. بل غرباً، ثم يجري الى الصحف يحمل دفاتر عنترياته ويبحث عن المجد المؤثل! من المضحكات المبكيات انني التقيت في دولة اوربية وزيراً مفوضاً في احدي السفارات، ووجدته على حال من التأفف الذي بدا لي مصطنعاً. قال لي ان عضو مجلس رأس الدولة ادريس البنا سيأتي الى ذلك البلد الاوربي في مهمة ما، وانه محتار في (مثل هذه الشخصيات)، لماذا لا تحصر نشاطها في العالم العربي، طالما ان تعليمها محدود ولا تجيد اللغات الاجنبية. سألت الدبلوماسي الوجيه، المتأنق كما الطاؤوس، عما اذا كان قد اطلع على السيرة الذاتية للسيد عضو مجلس رأس الدولة، فأرتبك ثم اعترف بأنه لم يقرأها. قلت له اذن فأنت لا تعلم ان ادريس البنا من قلائل السودانيين الذين تلقوا تعليماً عالياً بين أبناء جيلهم، وأنه شغل مناصب مرموقة في الخدمة المدنية خلال عهود سابقة. والمعروف أن السيد/ ادريس البنا تلقي بعضاً من دراساته التخصصية في اوربا والولايات المتحدة، وانه من خيار السودانيين الذين يتقنون اللغة الانجليزية، واشتهر عنه أنه ترجم الى العربية أجزاء كبيرة من شعر شكسبير. ولكن الدبلوماسي المثقف الطاؤوس لم يعرف كل ذلك. كل الذي عرفه هو انه تعود ان يرى على شاشة التلفاز رجلاً يشبه المزارعين، يرتدي جلباباً وعمامة ومركوب، واستنتج من ذلك ان الرجل بالضرورة لا يعرف اللغة الانجليزية! **الحلقة الثالثة عشر**** (1) في يوليو 1986 كنت أجلس، ومعي السيد ابراهيم على ابراهيم مدير عام مكتب رئيس الوزراء آنذاك، في الصالون الأرضي للفيللا الرئاسية المخصصة لاقامة رئيس الوزراء في العاصمة الاثيوبية أديس أبابا، حيث كان وفد السودان يشارك في مؤتمر القمة الافريقي لذلك العام. دخل الى الصالون الاستاذ عبد الدافع الخطيب، مدير مكتب وكالة السودان للأنباء في شرق أفريقيا وقتذاك، المقيم في نيروبي، والذي كان قد حضر لتغطية وقائع المؤتمر. سلمني عبد الدافع نسخة من النشرة السرية للوكالة، وهي النشرة التي يتم اعدادها وتقديمها لعدد محدود من قادة الجهاز التنفيذي. مررت سريعاً على الاخبار والمعلومات قبل تسليم النشرة الى رئيس الوزراء. هالني ضمن بنود النشرة خبر خلت أنه سيكون له ما بعده، وقد كان! الخبر هو موافقة الحكومة على إعادة صحيفتي (الأيام) و(الصحافة) لأصحابها قبل تأميم الصحف في 1970، ويستتبع ذلك بالضرورة تصفية الدارين الصحفيتين، و التخلص من كل الكادرات الصحافية والادارية والعمال بهما. (2) يعلم الله أنني لا أكره شيئاً مثل عبارة (أنا قبيل كلمتك لكين انت ما سمعت كلامي). وكان أحد اخوالي يثير حفيظتي كثيراً اذ كان يردد في مواجهتي مثل تلك العبارة فيزعم، عندما تنتهي بعض شئوني الى مآلات مضطربة، أنه حذرني من قبل وقال لي كذا وكذا، مع انه في الواقع لم يحذرني ولم يقل اى شئ مما يزعم انه قاله! ولكنني في مقامي هذا لا اجد مناصاً من أن اتجرد من فضيلة التواضع فأقول أنني عندما طالعت حواراً اجرته صحيفة (دارفور الجديدة) في بداية العام 1992 مع السيد الصادق المهدي، لعله اول حوار يجريه وسيط اعلامي سوداني بعد اطلاقه من المعتقل، ثم قرأت إجابته على سؤال حول الأخطاء والقرارات غير الموفقة التي اتخذها خلال فترة رئاسته، كان رد فعلي المباشر أن وجدت نفسي اقول بصورة آلية: (أنا كلمتك، لكين انت ما سمعت كلامي). ذلك أن قرار تصفية داري الايام والصحافة واعادة الصحيفتين الى اصحابهما الأصليين جاء ضمن ثلاثة أخطاء اعترف بهم رئيس الوزراء السابق! (3) كنت قد هرعت الى غرفتي بفندق غيون تلك الليلة وكتبت مذكرة، تطرقت فيها بايجاز الى المخاطر التي ستترتب على ذلك القرار، واقترحت اعادة النظر فيه بصورة عاجلة. وسلمت المذكرة ونشرة الوكالة الى الرئيس، ولكن الرجل كان قد عزم وتوكل. عند عودتنا الى الخرطوم في اليوم التالي وجدنا ردود فعل كثيفة من جانب العاملين في الدارين الصحفيتين فرأى السيد الصادق المهدي ان يصدر بيانا توضيحياً يرد فيه على عدد من المذكرات التي رفعتها الى مكتبه مجموعات من الصحافيين المتضررين والرافضين للقرار. وهناك أملى علىّ رئيس الوزراء بعض النقاط وطلب صياغتها في شكل بيان. جوهر ما جاء في بيان رئيس الوزراء هو أن النظم الشمولية فقط هي التي تحتكر الصحافة وتتملك الصحف وتديرها. أما الديمقراطيات فلا تفعل ذلك، بل تفتح الباب على مصراعيه أمام الجماعات والافراد لاصدار الصحف بدون وصاية او ملكية من الدولة. ثم أن تأميم النظام المايوي للصحف كان عملاً خاطئاً في الأساس يتناقض مع قواعد العدالة ومفهوم الحريات العامة، ولا بد من تصحيحه وان طال الزمن برد الحقوق الى اصحابها. وهكذا جري تنفيذ القرار بسرعة وكفاءة عالية، لا سيما وأن وزير الاعلام وقتذاك كان من مساندي القرار. ولكن المحصلة النهائية كانت جد مؤسفة، وكأن الحكومة حملت مسدساً واطلقت الرصاص على قدميها! (4) ما الذي حدث بعد ذلك؟ الذي حدث هو أن حزب الجبهة الاسلامية القومية انطلق في خفة النمر ورشاقته ليملأ الفراغ الكبير والمفاجئ في الساحة الاعلامية والصحفية. بعد أشهر وربما أسابيع قليلة بدأ عدد من الصحف في الصدور تحت لافتة (صحيفة يومية مستقلة)، والله يعلم انها لم تكن مستقلة. وانما كانت جميعها واجهات للحركة الاسلاموية، يمولها اثرياء الحركة والبنوك الموالية لها. وانفتح الباب على مصاريعه في ظل ذلك الفراغ امام صحف مثل (ألوان) وما أدراك ما ألوان! وبحكم ان الصحافة خلال العهد المايوي الذي اسقطته الانتفاضة كانت محتكرة ومقتصرة على الدارين الحكوميتين التابعتين للتنظيم السياسي، وهما الدارين اللتين جرت تصفيتهما، فإن القطاع الغالب من الكادرات الصحافية المدربة كانت في الواقع تمارس الصحافة وتكتاد خبزها، وتستشعر في ذات الوقت انتماءها الكامل لهذين الدارين. وقد جاء قرار التصفية ليطعن في الصميم كرامة وهيبة وكبرياء هذه المجاميع من الصحافيين المحترفين، التي دخلت في حالة من الاضطراب والتوهان والقلق على مستقبلها ومستقبل اولادها. ثم في مرحلة تالية توزعت الكادرات الصحفية، بعد معاناة من التشرد وعدم الاستقرار، على الصحف الجديدة التي نشأت وتمددت في الساحة. ولكن هذه الفئات انتقلت الى الصحف الجديدة وهي تختزن حمماً من الغضب وأرتالاً من الغبن والمشاعر السلبية. وكان طبيعياً ان يكون كثير من هؤلاء حرباً عواناً على القيادة السياسية والحكومة إجمالاً، ثم على رئيس الوزراء إسماً وذاتاً وعيناً. وفي ظل صحافة ملتبسة ومعادية في قطاعها الأغلب عانت الحكومات الديمقراطية من حالة انفصال شبكي وانبتات شبه كامل، او قل حالة من القطيعة الدائمة بينها وبين الشارع العام الذي وقع فريسة لحملات واسعة ومنظمة شنتها الصحافة الممولة والمدعومة من البنوك الاسلاموية، بتواطوء من كادرات صحفية تربت وتدربت في مؤسسات الشمولية المايوية، ثم غمرها الاحساس بالقهر وفقدان الهوية. كان ذلك في زمن، لا يشبه زماننا هذا، بلغ فيه توزيع الصحف ارقاماً مهولة، لا تشبه ارقام يومنا هذا! (5) كان بوسع ذلك النوع من الصحافة بطبيعة الحال ان يخلق، بكفاءة ونجاح منقطع النظير، حالة من عدم الثقة بين الدولة والمواطن، وان يشيع روح التيئيس من صلاحية النظام الديمقراطي وقدرته على ادارة شئون البلاد، بل وأن يثير الفزع بين صفوف عامة الناس بترديد واعادة ترديد مزاعم وروايات مفتعلة ومصاغة باتقان عن مخاطر وكوارث ومهددات تنال من أمن وسلامة المجتمع، وقد فعلت! وقد بلغ الأمر أن شهدت الخرطوم ذات يوم من أيام الديمقراطيه البرلمانية الثالثة حادثة جنائية عادية مما يقع في اى مدينة في العالم، اذ اختطف احد منسوبي القوات النظامية فتاة كانت تسير في الطريق العام، بحسب بعض الروايات، ثم حدث ان قتلت تلك الفتاة في ظروف مريبة. ولكن الآلة الاعلامية لحزب الجبهة الاسلامية، بتواطوء فاضح من الكادرات الصحافية المحتقنة والمغبونة من قرار حل داري الصحافة والايام، نفخت من روحها في حادثة (أميرة) تلك، فخلقت منها بعبعاً ينام ويصحو مع كل مواطن سوداني داخل منزله. وفي ظل حالة الشحن الاعلامي تلك تناثرت الدعوات وتكاثرت تتمني على الله زوال النظام الديمقراطي (الذي فشل في حماية الفتاة والقبض على المتورطين في الحادث)، وتنادي جيش البلاد للامساك بزمام الأمور. وقد كانت استجابة المولى عزّ وجل لتلك الدعوات فورية. أليس هو القائل في محكم التنزيل: (أدعوني استجب لكم)؟! نقلا عن صحيفة (الخرطوم)