البرهان يعلن تضامن السودان الكامل مع قطر    لقد غيّر الهجوم على قطر قواعد اللعبة الدبلوماسية    الإتحاد الأفريقي يُرحب بمقترحات الآلية الرباعية بشأن تسوية نزاع السودان    الهلال يفشل في فك شفرة عرش سيكافا ويكتفي بالوصافه    إقالة في التوقيت القاتل... كيف خسر الهلال بطولة في المتناول؟    أمير قطر: إذا كانت إسرائيل تريد اغتيال القيادة السياسية ل"حماس" فلماذا تفاوضهم؟    سبب استقدام الشاب أموريوم لتدريب اليونايتد هو نتائجه المذهلة مع سبورتنغ لشبونة    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    أمير قطر: بلادي تعرضت لهجوم غادر.. وعازمون على مواجهة عدوان إسرائيل    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    السيتي يتجاوز يونايتد في الديربي    غرق 51 سودانيًا    الهلال السوداني يتطلّع لتحقيق كأس سيكافا أمام سينغيدا    السودان يردّ على عقوبات الخزانة الأمريكية    ركابي حسن يعقوب يكتب: ماذا يعني تنصيب حميدتي رئيساً للحكومة الموازية؟    شاهد بالفيديو.. الناشطة المثيرة للجدل "زارا" التي وقع الفنان شريف الفحيل في غرامها تعترف بحبها الشديد للمال وتصدم المطرب: (أرغب في الزواج من رجل يملك أكثر من مليون دولار)    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    شاهد بالصورة والفيديو.. بضحكة مثيرة جداً وعبارة "أبشرك اللوري مافي زول سائقه مركون ليهو زمن".. سيدة سودانية تثير ضجة واسعة بردها على متابع تغزل في جسدها: (التحية لسائق اللوري حظو والله)    شاهد بالفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفتح النار على المطربة إيمان الشريف: (المجهود البتعملي عشان تطبلي لطرف تاني قدميه لزوجك لأنك مقصرة معه ولا تعطيه إهتمام)    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    شاهد بالصورة والفيديو.. بضحكة مثيرة جداً وعبارة "أبشرك اللوري مافي زول سائقه مركون ليهو زمن".. سيدة سودانية تثير ضجة واسعة بردها على متابع تغزل في جسدها: (التحية لسائق اللوري حظو والله)    محمد صلاح يضرب شباك بيرنلى ويُحلق ب"ليفربول" على قمة البريميرليج    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    مصر تسجل مستوى دخل قياسيا في الدولار    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    ترامب يلوح بفرض عقوبات كبيرة على روسيا    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    انتقادات عربية وأممية.. مجلس الأمن يدين الضربات في قطر    وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والري بالخرطوم تبحث إعادة إعمار وتطوير قطاع الألبان    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    نجاة وفد الحركة بالدوحة من محاولة اغتيال إسرائيلية    ديب ميتالز .. الجارحى ليس شريكا    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مَنْ يَسبِق الآخرَ: الديمقراطيةُ أم الانقلابُ العَسْكريّ. . ؟ .. بقلم: جمال محمد إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 23 - 07 - 2013


[email protected]
( 1 )
هل نحن في حاجة لتعريف جديد للديمقراطية أم لتعريف جديد للإنقلاب العسكري. . ؟
عرفنا في السودان عام 1958، ثالث انقلاب عسكري في منطقة "الشرق الأوسط وشمال افريقيا"، وهو الإقليم الذي يقف فيه السودان بامتداداته العربية والأفريقية. ولأنّ اعتماد السودان جزءاً من عالم عربي أو عالم أفريقي، هو ما شكّل معضلة في تصنيفه من قبل العديد من اللاعبين الدوليين، فإنّي أميل لتمييز السودان ضمن هذا التصنيف الجغرافي، إذ يعفيني من الركون إلى التمايز الملتبس بين هويّات تتصارع في تمرين متواصل، ستعبره أجيال وأجيال لتشكيل "هوية سودانية"، لم تخرج بعد في كامل طبيعتها. في خضم هذا التمرين المتواصل رأينا كيف انقسم السودان منذ عام 2011 إلى دولتين تتشاكسان بلا هوادة . عبر هذه الجراحات التاريخية، تتواصل تمارين تشكيل الهوية بين فتقٍ ورتقٍ، إلى أن نهتدي إلى ما يخرجنا من دوّامات الانقلابات العسكرية . لقد تشابهت علينا الانقلابات العسكرية، تشابه البقر على قوم موسى. لكن دعني أعينك على النظر في أحوال انتماء السودان، قبل أن ندلف للنظر في أحوال الإنقلابات العسكرية فيه.
أشرتُ في مقالٍ سبق أن نشرته في فبراير من عام 2011 ، بعد إعلان نتيجة استفتاء جنوب السودان، إلى ملاحظة مُهمّة جاءت في رسالة بعث بها الكولونيالي النبيل "دوقلاس نيوبولد" إلى كولونيالي آخر هو"جلوب باشا". ومعروف أن "نيوبولد" أفنى عمراً كاملاً في السودان، منذ قدومه في العشرينات من القرن الماضي وحتى وفاته عام 1945م في الخرطوم. أشار "نيوبولد" في سطرٍ واحد من تلك الرسالة، إلى أن (لا أحد يعرف بوجه التحديد إذا كان السودان يعتبر من بين دول الشرق الأوسط أم لا !). . جاء ذلك في صفحة 175 من كتاب "كيف أعدّ السودان الحديث" تأليف ك.د.د.هندرسون، عن حياة ورسائل السير "دوقلاس نيوبولد" وترجمه الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، وهو من منشورات مركز عبدالكريم ميرغني في أم درمان.
( 2 )
البديهيات التي يعتمدها الدارسون لعلم الاجتماع، تؤكّد أنه ليس كافياً أن تعرّف نفسك أوتفصح عن هويتك، ولكن من الضروري التعرّف على الوجه الذي يراك عليه الآخرون، أي كيف تتعرّف إليهم وكيفَ يتعرّفون إليك... ولربما لا يكون ميسوراً على المحلل، استقصاء تشكّل مثل هذه الصوّر في مخيّلات الشعوب ، غير أن الرؤية الدبلوماسية الرسمية من طرف الآخر، تعطي مؤشراً مهماً، يعين في التوصل إلى إجابة تقارب الواقع، وتوفّر تصنيفاً يتقبله العقل الموضوعي. الرؤية الدبلوماسية لا تقع في فخاخ التمييز العنصري أو التفاضل اللوني، بل هي نظرة تقترب من الموضوعية، وتعتمد أكثر ما تعتمد المعيار الجغرافي، فكيف كانت ترانا وزارات الشئون الخارجية في بلدان مثل الولايات المتحدة أو مصر أو بريطانيا .. مثلاً لا حصرا. .
لأقرب لك الصورة التي عليها هذا الالتباس، فإني أحيلك سريعاً لمثلين لعب السودان فيهما دورين لهما من الدلالات ما يعين على تقريب الصورة :
1- بعد وقوع ما عرف بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ورفعت مصر شكواها إلى مجلس الأمن ، كان الناطق بإسم المندوبين العرب في الأمم المتحدة هو وزير خارجية السودان الرّاحل محمد أحمد محجوب. كان ذلك أمراً لافتاً إذ لم يمضِ على استقلال السودان سوى بضعة أشهر، ولكن مثل هذه المبادرة التي تولاها المحجوب، عكستْ توجّهاً فطرياً من طرف مُمثل لتلك النخبة التي تولّت أمر الحكم عشية الاستقلال، للتماهي مع القضايا العربية . لكن بعد نحو خمسين عاماً من تلك البادرة السودانية، مررتُ شخصياً بتجربة لم تكن سارة على الإطلاق. كنت وأنا سفير للسودان في لبنان، أمثّل السودان في اجتماعات اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة لمنطقة غرب آسيا ومقرها بيروت، ألاقي عنتاً كبيراً في اعتماد السودان عضواً بهذ اللجنة، وهي لجنة تضمّ ثلاثة عشر بلداً عربياً من بينها مصر، وقد نجحنا بشقِّ الأنفس، وتجاوزنا أصواتاً تعارض انضمام السودان بينها - ويا للمفارقة- العراق .. تلك التي دفع السودان ثمناً باهظاً نظير مواقفه المشهودة دون كل العرب تأييداً لرئيس العراق وقتذاك حين استولى على الكويت. . !
2- مثلٌ آخر لدورٍ إيجابي لعبه السودان باتجاه انتمائه الأفريقي، برز بعد إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 ، واعتماد الأمم المتحدة لجاناً إقتصادية إقليمية للقارات والمناطق، فقد لعبَ السودان دوراً رئيساً في إنشاء اللجنة الاقتصادية لأفريقيا ( ECA). ليس ذلك فحسب بل كرّمت القارة الناهضة السودان في شخص مكي عباس، فكان أن اختارته أوّل رئيسٍ للجنة الإقتصادية في أفريقيا. .
برغم ما في هذين المثلين من دلالات لالتباسٍ يستوجب التحوّط عند إقرار تصنيف للسودان، وتحديد شكل انتمائه بمعايير لا تغفل عن التاريخ ولا عن الجغرافيا، فإن الأمم المتحدة أقرّت أن يكون السودان ضمن منظومة البلدان الأفريقية دون تردّد أو لبس. في جانب آخر نجد أنّ الولايات المتحدة تعالج علاقاتها مع السودان في دائرة الشئون الأفريقية في وزارة الخارجية الأمريكية، فيما اعتمدت بريطانيا، والتي ظلّت تعالج الشأن السوداني في إدارة "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" ( MENA) لسنين عددا، عمدتْ إلى إنشاء دائرة خاصة في وزارة الخارجية البريطانية تعنى بالشأن السودان، وتضمّ الآن- وبعد ذلك الإستفتاء المجروح- شئون دولة الجنوب إلى جانب شئون السودان الذي عرفوه وحكموه منذ 1898 م. ذلك يعكس فهما عميقاً وأشمل للشأن السوداني، ويضمر رؤى مستقبلية ثاقبة، من طرف قوة كولونيالية كانت في السابق تتحكّم في الشأن السوداني، لما يزيد عن خمسين عاماً، قبل نيله الإستقلال في عام 1956. ذلك في ظني لا يضعف ميلي لاعتماد انتماء السودان لمنطقة
"الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، تلك التي يرانا عبرها أغلب "الآخرين"، وتكاد تقترب من رؤيتنا نحن لأنفسنا.
( 3 )
ثم نجيء لمسلسل الإنقلابات العسكرية في إقليم "الشرق الأوسط وشمال افريقيا". شهدت سوريا أوّل انقلابٍ عسكري قاده "حسني الزعيم" في أواخر أربعينات القرن العشرين، وكان انقلاباً محدوداً ، دفعته إليه حالة الوهن السياسي الذي كانت عليه سوريا، إثر هزيمة العرب في حرب عام 1948والتي أفضت إلى هذا الشتات – ولعل الشتيت أدق معنى- الفلسطيني الماثل. وبرغم قصر فترة الحكم الانقلابي الذي قاده "حسني الزعيم"، لكنه شكل بداية لتاريخ طويل لانقلابات عسكرية في سوريا، كان وراءها حزب البعث خلال سنوات القرن العشرين، في بلد تتجاذبه طوائف سنّية وعلويّة في جانب، ومسيحيّة في جانبٍ آخر. خلال العقود الثلاثة التي أعقبت إستقلال سوريا، كانت تتوالى محاولات الإنقلابات العسكرية بمعدل إنقلابٍ عسكريّ واحد كلّ عام تقريباً.
بعد الإنقلاب العسكري الذي قاده اللواء محمد نجيب وجماعة الضباط المصريين الأحرار في مصر عام 1952 وألغى النظام الملكي فيها، أرسى جمال عبدالناصر نظاماً سياسياً صارماً، وحكم مصر عبر العديد من الطروحات السياسية، تطرّفاً في آن واعتدالاً في آونة أخرى، فرسختْ "ثورة" يوليو المصرية أنموذجاً جاذباً لشباب منتمٍ للمؤسسات العسكرية في البلدان القريبة من مصر. هو انقلاب عسكري لكنه قلب أمور "الملكية" على رؤوس أصحابها فسمّاها عبد الناصر ورفاقه أوانذاك: "ثورة يوليو". مع أنها بدأت إنقلاباً عسكرياً كامل الدسم على الملكية ، لكنها تواصلت لتحدث تغييراً كاسحاً في الدولة المصرية والمجتمع المصري.
تتالت انقلاباتٌ كثيرة، وتياراتٌ تفاوتت توجّهاتها تطرفاً واعتدالاَ، سعتْ بشبابها لتجاوز القيادات التقليدية المرتخية، حتى تحقق تطلعاتها المشروعة في الإسراع ببناء أوطانٍ أنهكها الاستعمار، وإعطاء معنىً حقيقي للاستقلال، حسب ما زعم أكثرُهم. مشتْ على دروب "الناصرية" انقلابات عديدة تتالتْ في المنطقة بعد ذلك. في فبراير من عام 1958 وإثر تصاعد حملات النظام الناصري ضد الأنظمة "الرجعية" في المنطقة، والتي سعتْ بايعاز أمريكي، لانشاء حلفٍ يناهض دعاوى عبدالناصر لجمع البلدان والشعوب العربية تحت راية القومية العربية، وقع انقلاب عسكري في بغداد وجرتْ محاصرة القصر الملكي وقتل الملك فيصل وهو في عشريناته، وتهاوت الاحلام الأمريكية في المنطقة ، على أيدي الانقلابيين اليساريين الجدد في العراق وانهارت بوقوع انقلاب العراق ركيزة أساسية كانت موالية للغرب. الإنقلاب اليساري في العراق زعزع "مبدأ آيزنهاور" ، ذلك الرئيس الأمريكي الذي دشن سنوات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي.
في نوفمبر 1958 وقع انقلابٌ عسكري في الخرطوم قاده اللواء ابراهيم باشا عبود. . كان ذلك هو الحلقة الرابعة في مسلسل الإنقلابات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتلته انقلاباتٌ أخرى تمدّدت من الخليج إلى المحيط. إنقلاب الخرطوم- قصد مدبّروه أم لم يقصدوا- أتى برياحٍ رافقتْ السفين الأمريكي، لا السفين العراقي- الناصري.
( 4)
في معظم أحوال الإنقلابات العسكرية في هذا الإقليم المترامي الأطراف، فإنّ ضعف مؤسسات التعليم خاصة، وضعف مقومات وهياكل إدارة الدولة بصورة عامة، وهي من موروثات حقبٍ إستعمارية سادت ثمّ بادتْ، لم تساعد في النهوض وانجاز تنمية إقتصادية واجتماعية مطلوبة، كما اشارت إلى ذلك تقارير الأمم المتحدة في أعوام لاحقة. وقد أفضت كلها إلى واقعٍ مزرٍ، فضعفتْ عوامل الاستقرار في المنطقة، وانكشفتْ هشاشة الأنظمة السياسية القائمة، ليس في بلدان الشرق الوسط فحسب ، بل استشرت العدوى إلى دول عديدة في القارة الأفريقية. زكام هنا وعطسٌ هناك فإذا بدائرة الانقلابات العسكرية تتسع لتلحق بدولة تقع في أطراف الشرق الأوسط وفي قلب القارة الأفريقية، هي السودان. ولا نحتاج لكثير دلائل إلى أن التجربة الديمقراطية لم ترسخ بما يجمع الشارع السوداني عليها، بل أن التيارات السياسية فشلت عبر تحالفاتها الهشة في إدارة دفّة الحكم في بلاد شهدت ربوعها الجنوبية تمرّداً اتسعت رقعته ليكون أوّل وأكثر النزاعات الأفريقية دموية وأطولها عمرا. نجح اللواء ابراهيم باشاعبود (الفريق عبود لاحقاً) في أن يقود في نوفمبر من عام 1958، أوّل أنقلاب عسكري في القارة الأفريقية - جنوب الصحراء. ذلك كان أول انقلاب شهدته القارة والتي تجاوزت انقلاباتها العسكرية الستين، ونحن بعد في أعتاب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. .
( 5 )
لنا أن نقف على حيرة بائنة في أمر انقلاب اللواء عبود.
ثمّة من يرجح أن حزباً رئيساً كان يشارك في الحكم، بادر بتدبير ذلك الانقلاب العسكري. ثمّة من رأى أن ضباطَاً متطلعين هم من بادروا بالقيام بالإنقلاب على حكم أحزاب كادت أن تُضيّع الوطن في صراعاتها الخاوية، فكانت الصورة أشبه بالصورة التي عليها حركة ضباط مصر الصغار، واستغلوا قائدهم اللواء محمد نجيب، لفترة وجيزة ثم تخلصوا منه، وأن عبود بالمثل ليس أكثر من واجهة . ثمّة من إدعى أنّ لمصر يداً طولى في انقلاب الرجل الطيب عبود ، بما يشي باستعادة دعاوى تاريخية بائدة، ترسّخ سيادة مصر على السودان، بايحاءات اتفاق صدقي- بيفن الشهير، قبل نحو تسعين عاما !
لن يكون ممكنا تحليل ما وقع، إلا بعد أن تنجلي الحقائق، عبر تلك المذكرات التاريخية المفصلة التي أوصى الزعيم الوطني الراحل عبدالله بك خليل، أن لا تنشر على الملاء إلا بعد عددٍ محسوب من السنين، ما وصلناه بعد. مؤرخون كثيرون يشيرون إلى أن للبك يداً خفية في ذلك الانقلاب. صديقنا أمير نجل الراحل وحده الذي يملك مفتاح خزانة الأسرار تلك. على كلٍ لن يشغلنا هنا هو من فعلها، بقدر ما ينبغي علينا أن نهتم بتقييم تلك العملية العسكرية، وأن نجهد للتعرّف على المعايير الموضوعية لتوصيفها، حتى نُسمّي الأشياء أسماءها. عبود نفسه لم يسمِ عمليته العسكرية "إنقلابا" بل قال عنها "ثورة". للتاريخ أقوال كثيرة فاصلة ننتظرها .
( 6 )
انقلاب مايو عام 1969 لم يسمِ نفسه هو الآخر "انقلابا" بل ثورة ، هكذا بلا مواربة. لم نقف على معايير التسمية، وصار إسم "ثورة مايو" - لا "انقلاب مايو" – من الأسماء التي سار بها الركبان ودونتها صفحات التاريخ، بما فيها برامج تدوين السير الذاتية، من نوع "أسماء في حياتنا" لصديقنا الأستاذ عمرالجزلي. .
لعلّي أترجّى أن تتصدّى لتوصيف "الانقلابات العسكرية" أقلامٌ متخصصة في العلوم السياسية والعلوم العسكرية، وقبلهم علماء الاجتماع. ثمّة جوانب فلسفية قد نحتاج أدواتها للتحليل وللتقصي عن طبيعة هذه الظاهرة وقد استشرت كما الأوبئة، خلال النصف الأخير من القرن العشرين ، بل تعدته إلى العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، وأغلب أسرار هذه العمليات ماتت في صدور الرجال الذين رحلوا وما فضفضوا بشيء.
من "انقلاباتنا العسكرية " التي ميّزتْ نفسها ووزّعت التباساتها المريبة، بين كراسي يجلس عليها حكّام وسجون تستضيف مدبريها، ننظر أنْ يأتنا مِن دارسي التاريخ مَن يُمحّص وقائع ذلك الانقلاب ، والذي حرص أيضاً، من دبّره خفية ومن قام به علانية ، أن لا يخالف الفريق عبود في تسمية حركته العسكرية البائنة ، فسمّاها "ثورة". .
وهكذا كان للسودان قصب السبق فهو يحتلّ المرتبة الرابعة إذا عدّدنا الإنقلابات العربية، وهو البرنجي في أوّل قائمة الانقلابات الأفريقية بلا منازع. في عمر السودان المستقل، شهدتْ الخرطوم أعداداً مهولة من الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة. ما أحرانا – إذاً- أن نكون أوّل المنظّرين والدارسين لظاهرة "الإنقلابات العسكرية"، فنعين إخوة لنا في شمال الوادي، علّهم يتبيّنون ما يعايشون الآن ، فيكون في ذلك – على الأقل- ما يزيد من أفضالنا عليهم ، بعد مياه النيل حتى يرضى عنّا كذلك صديقنا الدكتور سلمان. .
20 يوليو2013
jamal ibrahim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.