[email protected] ( 4) من محطات العلاقات السودانية الأمريكية العديدة، ما رصدته أقلام التاريخ القريب أول سنوات الاستقلال، إذ استعر في السودان خلافٌ بين الحزبين الرئيسين حول المعونة الأمريكية، وهي كما هو معروف من أذرع السياسة التي تبنّتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في سنوات الحرب الباردة. في المقابل لم يتوقف سعي الاتحاد السوفيتي عن التوسع لبسط نفوذه في القارة الأفريقية والقارة الآسيوية. المد اليساري المتصاعد، أزعج التوجهات الأمريكية وكثرتْ بؤر الصراع ومناطق النزاعات، فشملت اليمن والصومال واثيوبيا وانجولا وغيرها من البلدان القريبة من السودان. حرب يونيو 1967 شكلت معلماً رئيساً في الصراع بين القطبين، فصارت القضية الفلسطينية ملفاً ساخناً يناور حوله القطبان الكبيران. أفلح السفير الباشا أيّما فلاح في استعراض البيئة السياسية التي لوّنتها الحرب الباردة بألوان قانية ، ورسم لنا الصورة بكامل تقاطيعها، في الشرق الأوسط كما في القارة الأفريقية قبيل وقوع حادث اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم وبعده. وتضمن الكتاب تحليلاً معمقاً عن التوتر في العلاقات السودانية الأمريكية في فصل هو من أطول فصول الكتاب (بين ص 135 و ص179). خلال عقدي السبعينات والثمانينات جرى تبادل زيارات بين الخرطوم وواشنطن، بصورة لا تقارن بانعدامها في سنوات العقدين الأخيرين. على أن الملاحظ أنّ الثبات كان سِمة في السياسة الأمريكية برغم تعاقب الحزبين الديمقراطي والجمهور على دست الحكم في البيت الأبيض بين عقد وآخر، فيما لحق "اضطرابٌ مُنظّم" بأحوال السودان . وإني أقول " الاضطراب المُنظّم" ولا أقول "الفوضى الخلاقة" ، فرؤيتي أن الأولى من صنع أيدينا فيما الثانية يصنعها ويسقطها علينا آخرون. دعنا ننظر لقائمة الرؤساء الأمريكيين وانتماءاتهم الحزبية خلال سنوات الحرب الباردة: هاري ترومان 1945 - 1953 ديمقراطي دوايت آيزنهاور 1953- 1961 جمهوري جون كينيدي 1961 - 1963 ديمقراطي ليندون جونسون 1963 - 1969 ديمقراطي ريتشارد نيكسون 1969- 1974 جمهوري جيرالد فورد 1974- 1977 جمهوري جيمي كارتر 1977- 1981 ديمقراطي رونالد ريجان 1981 - 1989 جمهوري جورج بوش الأب 1989- 1993 جمهوري بل كلينتون 1993 - 2001 ديمقراطي جورج دبليو بوش 2001- 2009 جمهوري باراك أوباما 2009- حتى تاريخه ديمقراطي ما بين 1945 وعام 2009، وهي أغلب سنوات الحرب الباردة تقريباً، تقاسم الحزبان الديمقراطي والجمهوري في الولاياتالمتحدة، منصب الرئاسة بالتساوي( 6 +6 ) ، ونلاحظ أن واقعة مقتل السفير الأمريكي في الخرطوم حدثت خلال فترة رئيس جمهوري، هو ريتشارد نيكسون. اتسمت العلاقات السودانية الأمريكيىة بالفتور طيلة فترة الرئيس الجمهوري الذي جاء بعده (جيرالد فورد) ، فيما شهدت هذه العلاقات مراجعة نسبية خلال فترة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر في الأعوام1977 وإلى1981 . كنت أتوقع أن يغطي الكاتب هذه الناحية بمزيد من التدقيق، خاصة فيما يتصل بتوجهات الرئيس الأمريكي - ديمقراطيا كان أم جمهورياً- إذ أن التغيير الطفيف يعطي مؤشراً قوياً على ثبات ومؤسسية السياسة الأمريكية ، ورسوخها مقارنة بالسياسات والمواقف السودانية المتأرجحة. ( 5) يأسرك محجوب في استعراضه لتوترات السياسة الخارجية السودانية في تفاعلها مع التوجّهات الأمريكية، برغم أنّ ذلك الاستعراض شغل حيّزاً مُقدّراً من كتابه وهو مخصّص في أساسه لتفاصيل واقعة مقتل السفير الأمريكي على يد مقاتلي منظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية، غير أن الكاتب لم يغفل عن أيّ شاردة تتصل بالموضوع . ثمّة إشارات مهمّة وروابط ذات دلالات وردت في الكتاب عن منجزات نظام النميري في تحقيق سلام في السودان دام نحو عقد كامل ، ثم مثلما نقضت غزلها تلك الحمقاء، فقد تسببت حماقات الرجل في تفتيت الإقليم الجنوبي فأشعل حرباً جديدة تواصل أوارها لنحو عقدين من الزمان وأكثر، أفضت بنا آخر الأمر بعد استفتاء مجروح، إلى انفصال السودان إلى دولتين، تتناطحان حول الموارد الطبيعية (النفط) والبشرية ( أبيي) . يعرج بك الكاتب لعلاقات السودان في محيطيه العربي والأفريقي وتعقيدات مواقف السودان من اتفاقيتي "كامب دافيد"، وصولاً إلى ما لحق بهذه العلاقات في وبعد حرب 1973.. من منعطفاتٍ ومن أدوار برع السودان أيضا في لعبها في جواره الأفريقي. . على هذه الخلفية تكتمل ملامح الصورة التي عليها السودان ساعة جرى اغتيال السفير الأمريكي في الخرطوم في مارس من عام 1973. للولايات المتحدة مواقف جد واضحة حول مشاكل ونزاعات السودان. برغم ذلك، لا نجزم أنْ لا تكون لتداعيات حادثة وقعتْ قبل أكثر من أربعين عاماً، تأثيرها على السياسات الأمريكية التي نعرف الآن، إذ تأتي إلى الذاكرة قصة اغتيال المواطن الأمريكي الذي لقي حتفه على أيدي سودانيين متطرفين ليلة رأس سنة 2008، وأغلب الظنّ أن الهواجس التي نتجت عن تلك الحادثة القديمة، لم تبرح بعد غربال الحقيقة. . ( 6) لابد من كلمة تضاف هنا عن إخراج الكتاب . الذي لا أفضله في إخراج مطبعة العملة لمنشوراتها أنها تغمط حق مصمم الغلاف فلا يذكر إسمه. فوق ذلك فإن حجم حروف الطباعة تفارق التقليد المتبع في النشر الرصين ، كما لا أرى من ضرورة لطباعة عنوان الكتاب وإسم مؤلفه في كل صفحة من الكتاب، فذلك من قبيل لزوم ما لا يلزم. أما وقد أخذ الكتاب عنوانه فلا مناص من القبول به، وإن من التوقّع أن يُحدِث عنوانُ الكتاب الرئيس : عملية "أبو داؤود" ، بعضَ اللبسِ لدي القاريء السوداني العادي. حالَ النظر إلى الغلاف، سينصرف الذهن السوداني لكنية مشهورة لفنان ومغنٍ سارت بإسمه الركبان، هو عبد لعزيز محمد داؤود والمكنى "أبا داؤود". ليت صديقي محجوب أبقى الإشارة لمنظمة "أيلول الأسود" عنواناً رئيساً للكتاب. تلك إشارات شكلية لن تمسّ بالطبع ولا تنتقص من أهمية الموضوع ولا من جوهره جدته وطرافته، ولنا أن نرفع التهنئة للصديق السفير الباشا على هذه الاضافة المميزة للمكتبة السودانية عامة، وللمكتبة الدبلوماسية بوجهٍ خاص. الخرطوم – 28 يوليو 2013