مهما اختلط الحابل بالنابل .. و مهما اعتمد الانقلابيون على ضبابية الفوضى لدفن الفضائح الصارخة التي صاحبت الإطاحة بتجربة الديمقراطية المصرية الوليدة (أو المجهضة)، إلا أن التاريخ سيسجل، أو لعله سجل فعلا، حجم الخيبة الأخلاقية التي صاحبت الانقلاب العسكري بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي على المؤسسة الديمقراطية في مصر. لابد أن نسجل للأمانة أن عددا من الأقلام الليبرالية استجابت لضميرها و أدانت الانقلاب العسكري المصري، و بعض هذه الأقلام مضى أكثر ليدين سلوك بعض الليبراليين حيال الأحداث المصرية .. إلا أن السواد الأعظم من هؤلاء اكتسحتهم (فرحة) تاريخية أودت أو كادت أن تودي بثمالات مصداقيتهم حيال الرؤية السياسية لتطورات المشهد الدامي في مصر اليوم. النظام الذي يحكم مصر الآن نظام غير شرعي .. قد يراه أحد الليبراليين نظاما "جميلا" أو "محبوبا" أو غير ذلك .. و هذا شأن الولدان غير الشرعيين .. ليس هنالك ما يمنع كونهم يتمتعون بقسط من الجمال أو الجاذبية .. مثل خضراوات الدمن .. لكن يظلوا غير شرعيين .. كما النظام المصري الحالي الذي لم يولد على النسق المشروع قانونا و دستورا .. و البعض لا يحب الحديث عن القانون والدستور ويعتبر مثل هذا الحديث نوعا من الإصرار على أمر "شكلي" أو أمر "إجرائي" .. حسنا .. هذه الشكلية أو الإجرائية القانونية لها وصف آخر .. فالدستور يعتبر عهدا و ميثاقا وطنيا ملزما لجميع الموطنين، و هو أكثر إلزاما على كل من أقسم على (حماية الدستور) لدى تقلده منصبا من المناصب الدستورية مثل الوزارة أو الرئاسة أو القضاء .. و من بين هؤلاء رأس الانقلاب عبد الفتاح السيسي لدى دخوله للمهنة العسكرية، و لدى تقلده منصب وزارة الدفاع .. و من بينهم الرئيس الانقلابي الحالي رئيس المحكمة الدستورية سابقا .. و هو أكثر الانقلابيين خزيا بسبب تخصصه المهني و العلمي و تجسيده لما يخالف ذلك تماما بقبوله للمنصب غير الشرعي حتى (يحلل) للعسكر انتهاكهم للدستور الذي يفترض أن يكون هو أحد حراسه. أما الحديث عن شرعية الشعب .. فليس للشعب من الشرعية إلا ما كان مدونا في الدستور من حيث (الكيفية) .. فالطريقة التي يعبر بها الشعب عن شرعيته إنما هي طريقة واحدة هي صندوق الاقتراع، وما يصاحب ذلك من احتساب دقيق لعدد المساندين للمرشح المختار حتى يتبوأ بذلك صدارة الشرعية الشعبية .. حتى أطفال المدارس الابتدائية لا يتأهلون لصف تال إلا بعد احتساب درجاتهم و التأكد من تأهلهم لهذا الانتقال .. لكن البعض يريدها فوضى .. كما كان يفعل العقيد القذافي .. في بدعة الديمقراطية المباشرة .. بينما هي ديمقراطية الفوضى .. تتجمع الرجرجة في قارعة الطريق لمحاكمة مواطن بالاعدام، و إعلان الحكم و إعدامه شنقا وسط صيحات التأييد من الدهماء !! هذا ما شاهدناه مسجلا بالفيديو، بعد أن صعب علينا تصديقه، فصدقناه!! و السؤال الموجه إلى من يدعون شرعية الشعب من الشارع .. هل هذه هي الطريقة التي تريدون إعتمادها لاحداث التغيير في الحكومات؟ هل تقبلون تغييرا للحكم من الشارع مسنودا بضباط الجيش؟ و لماذا الانفاق حينئذ على إدارة الانتخابات و فرزها و مراقبتها و تمويلها؟ هذا هروب من الانضباط الرقمي الصارم إلى فوضى الهدير و الصياح في الطرقات .. إنها و الله عودة إلى الغابة وسيكولوجية الحيوان!! و من قبيل التدني في الفهم الخلط بين حرية التعبير من جهة، و دعوى اختيار الحكومة و الرئيس من جهة أخرى .. هذان النشاطان بينهما فرق كبير في النظام الديمقراطي .. ذلك لأن حرية التعبير مكفولة لمن يريد من المواطنين في أي نظام ديمقراطي خلال الفترة ما بين بداية و نهاية الولاية لحكومة الرئيس المنتخب .. و هي حرية للتعبير لا حرية للاختيار .. لأن حرية الاختيار و التي تتضمن اختيار رئيس للدولة و للسلطة التنفيذية، و اختيار النظام التشريعي، ليست بالأمر الهين الذي يمكن أن يصدر عن جمهرة في ميدان عام .. لابد من التأكد من أن هذا الاختيار قد صدر عن أغلبية المواطنين ممن يحق لهم التصويت وفقا للقانون. ذلك لأن شرعية الشعب لا يمكن تطلق إلا على "أغلبية الشعب" .. بعد عدّهم عداً وفقا لمعايير صارمة و معلومة. و متى ما تم تحديد اختيار أغلبية الشعب فلابد أن يستمر هذا الاختيار طوال مدة ولاية الحكم ما التزم الحاكم بالقانون والدستور، و حتى إذا خالفهما يحاكم بالقانون والدستور، لا بالدبابات العسكرية !! و بعبارة أخرى فإن لأغلبية الشعب الحق في البقاء في السلطة طوال دورة الحكم، و و للأقلية و لغيرهم التعبير الحر في الميادين و الطرقات و على صفحات الصحف و عبر القنوات الاعلامية كافة طوال هذه الدورة، و كل ذلك في إطار القانون والدستور .. لا تمنع الحكومة حرية التعبير و لا يمنع أحد حرية البقاء في السلطة إلى حين انتهاء أجلها المنصوص عليه في الدستور الذي يمثل في حقيقته العهد الوطني للأمة. و ثمة سؤال ملحّ .. هل وصلت حكومة مرسي إلى السلطة بأصوات الاخوان المسلمين فقط؟ هل يبلغ عدد الاخوان المسلمين ذات الأرقام التي حصل عليها الرئيس محمد مرسي؟ و لو كانت الاجابة ب "نعم" لانتهى مستقبل الليبراليين في مصر إلى الأبد .. لأن الاخوان المسلمين حينئذ يمثلون أغلبية الشعب المصري، و ستكون لهم الغلبة في أي انتخابات مصرية نزيهة. لكن الامر غير ذلك .. فالذين صوتوا للرئيس محمد مرسي، بجانب الاخوان المسلمين، هم مواطنون مصريون حتى و إن كانوا متعاطفين فلا علاقة لهم بالتنظيم الاخواني .. مما يعني أن المشروع السياسي للاخوان المسلمين أكبر حجما من تعداد عضوية تنظيم الاخوان المسلمين .. و الأفضل لليبراليين ألا يُفزعوا أنفسهم أكثر مما يحتمله الواقع .. و ألا تدفعهم الرغبة العارمة في إظهار (عزلة) الاخوان عن سائر المصريين إلى تسجل وهم غير واقعي و هو أن الاخوان وحدهم كانوا من صوتوا للرئيس محمد مرسي .. لأن ذلك يعني وهما آخر و هو أن الاخوان المسلمين يشكلون غالبية المقترعين المصريين .. و هو غير صحيح بطبيعة الحال. و بعيدا عن اهتبال الفوضى و تصاوير الوهم و الصيد في مياه الانقلابات العكرة .. يمكن التعامل مع واقع الحال المصري بفكر وطني و نظر استراتيجي بعيد المدى .. فالذي يجري في مصر استقطاب حاد ما في ذلك شك بين فئتين رئيستين: الفئة الأولى هي التيار الاسلامي، و على رأسه الاخوان المسلمون. و الفئة الثانية هي التيار العلماني الليبرالي .. و لنسكت هنيهة عن طبيعة "تجمع الشتات" المستقوي بالجيش و بواقي رموز نظام حسني مبارك، بما فيهم بلطجيته و جهاز أمنه .. لأن الوجود الحقيقي في الشارع المصري للفئتين المتميزتين سياسيا و ثقافيا و فكريا .. الاسلاميون و العلمانيون الليبراليون. و هنالك خياران أمام هذا الاستقطاب الاسلامي العلماني-الليبرالي .. الخيار الأول هو التصادم و الاقتتال، و هو خيار لا ينفع مصر و لا المصريين .. الخيار الثاني هو التعايش مع الاختلاف القائم بين الفئتين .. لكن هذا الخيار يقتات على السؤال الرئيس نفسه .. إذ كيف يكون التعايش؟ الاجابة السريعة هي "الديمقراطية" .. فالنظام الديمقراطي، التقليدي و ليس نظام الديمقراطية المباشرة القذافية، قادر على حل المشكل .. فهو نظام مصمم للتعامل مع الاختلاف السياسي و الفكري و الثقافي .. و مصمم على إدارة التنافس على حكم البلاد .. ومصمم على منع الفوضى و منع الاحتراب و تشجيع الحلول السلمية .. وهو نظام له إسم و عنوان .. إسمه النظام الديمقراطي و عنوانه الدستور الوطني للبلاد .. حيث تتضمن نصوصه شروط و أحكام إدارة نظام الحكم في أي بلد .. تلك هي الاجابة السريعة .. أن الديمقراطية هي الحل لادارة الخلاف بين الاسلاميين و العلمانيين الليبراليين في مصر أو في أي مكان .. و لكن هذه الاجابة صارت لا تفيد بعد الانقضاض على النظام الديمقراطي المصري و وجود من يؤيد مبدأ الانقضاض أو الانقلاب العسكري كوسيلة من وسائل تداول السلطة .. بعد (تحلية) الانقلاب بكونه مسنود برأي قطاع من قطاعات الشعب .. و سوق الناس إلى قبول الأمر الواقع وشرعية القوة العسكرية .. بدلا من قوة الشرعية الدستورية .. إذا كان للحل مفتاح فقد سرق العلمانيون الليبراليون الحل .. حرابةً و (همبتة)!! و يظل هذا الاشكال غير مسنود إلا ببنادق العسكر و دباباتهم .. فلو تخلى الجيش عن إسناد هذه الممارسة لعادت الديمقراطية في مصر و عادت الشرعية .. و ليجرب العسكر الحياد لتظهر هذه الحقيقة .. و معلوم أن الجيش المصري بقيادته الحالية لن يمارس الحياد المهني الواجب عليه .. و هو ما يترك تطور الاحداث رهن تقلبات الشارع و إرادة من بيده القوة المادية الباطشة .. و هذا اسمه المختصر هو الفوضى. Ahmed Izzeddin [[email protected]]