(كتب التشكيلي النور أحمد على عن ذكرياته في مدرسة النيل الأبيض الثانوية في الستينات كان مدارها أستاذه سعد أمير طه وطرائقه العجيبة في التدريس بغير التفات للمقرر. وأثار ذكريات لنا مع سعد الذي درّسنا اللغة العربية في عطبرة الوسطى. وهذه كلمة قديمة عن هذا المعلم ممن أسمي رهطه بخت الرضا المضادة) 1- كاد المعلم أن يكون ساحرًا شغف كل من درس على يد المرحوم سعد أمير طه بالرجل صورة ومعرفة وطريقة . وكان يريح وجهه إلى جانب الكتف إذا مشى رشيقاً على الأرض . وحسبنا ذلك كبرًا وصلفاً أو "صعَّر خده" كما قال الشاعر القديم .. لا أدري . وكان صَلفاً منه بهياً في عيوننا الصغيرة الكلفة بالروعة . وكان أكثر من يقلده في مشيته الغراء بيننا نحن تلاميذ مدرسة عطبرة الأميرية الوسطى في منتصف الخمسينات أخونا مصطفى محمد عثمان (الصفي) الذي ربما اقتدى بسعد أمير حين اختار التدريس على ما عداه من المهن . علمنا بعد أن الميل في عنق سعد عاهة نجمت عن اضطراره الاختفاء في وضع عصيب على جسده حين هرب من مصر عبد الناصر عام 1954 أو نحوه إلى بلده السودان حين شدَّد نظام ناصر النكير على الشيوعيين . وكان سعد وقتئذ طالباً مبتدئاً في كلية القانون بجامعة القاهرة . وقيل إن السرطان الذي أودى بحياته ، أو عاجله فيها ، تأسس في العنق المصعَّر الذي عددناه في جهالتنا بطراً وعجباً و "فتونة" . سبق استلام سعد لمهام التدريس خبر أنه غشي مقهى المعلم الأبس في سوق عطبرة الكبير المقابل لمحلات حبيب بسطا والقريب من الجامع . وقيل إن سعداً لم يقبل إساءة من المعلم ، وشدد عليه اللكمات و "البونية" حتى صرعه . وماكنا نحسب في صغرنا أن الله قد خلق خلقاً يصرع معلم الأبس الغليظ ، الجسيم ، العظيم . إذا جلس عند مدخل المقهى يمخر عباب الشيشة بأنفاسه الجمة ، ويُحصي "الماركات" عدداً ، ويشخط في الجرسونات . واتضح مؤخراً كذب الخبر . فالذي اشتبك مع الأبس كان هو الأستاذ صابر الذي جاء منقولاً في ذات الوقت ليُدرِّس الرياضة البدنية بمدرسة الأقباط المصرية . كان سعد خلاقاً ، بارعاً ، حازماً . لم يكن يقبل من تلاميذه غير الكمال وله يقين مجرب أنهم سيبلغونه بضرب المثل وبالشدة . لم يكن ليقبل بحجة القائل أن خطى في الأصل قبيح ولا سبيل إلى تحسينه . فهو يجبر الطالب على تحسينه ، ويريك في السبورة خطاً عجباً ، وتجد أنك جيد الخط في خاتمة المطاف . ولم يكن يشتري منطق من يعتذر بأنه لم يخلق لرسم الخرط . فهو يريك كيف تُسلس لك الخرط زمامها . فلم أر بعد سعد من يرسم خرطة النيل من منبعه إلى مصبه مع البحرين الأبيض والأحمر في خطوط مستقيمة كالمثلثات فيما يشبه رسوم الأطفال . وكان يفعل ذلك في مقام التوضيح بسرعة أنيقة . وقد فرض سعد على تلاميذ الفصل الرابع ، الذي يوشك على الجلوس لامتحان الدخول للمدرسة الثانوية ، شراء كراسات خاصة لرسم الخرط التاريخية ، وجعلهم يرسمون كل الخرط المقررة في المنهج بالألوان : للبحر لون ، وللنيل لون ، وللبحيرات لون ، وللجبال لون ، وللحدود الدولية لون ، ولمواقع المدن لون .. وهلمجرا . وقد حمل تلاميذه حملاً على ذلك . وكانت له طريقة فذة للتحايل على معرفة المواقع التاريخية التي ترد في امتحان الخرطة في ورقة التاريخ . كان يطلب منا أن "نحفظ" أياً من تلك المواقع والمواضع بالنظر إلى انحاءة في النيل ، أو إعوجاجة في الحدود الدولية للسودان ، أو بانبعاجة في البحرين : الأبيض والأحمر. وكان يرينا كيف أنه إذا أحسنت استغلال قسمات الخرطة نفسها تمكنت من رسم خطين أفقي ورأسي يكون الموقع المطلوب حيث تقاطعا . ويحتاج هذا إلى جهد كبير وخيال عريض . ولم يكن سعد من يعتقد أننا خلو منهما . وأذكر أن كراسات خرطه تلك ظلت حتى بعد نقله متداولة في الفصل الرابع بمدرسة الأميرية وغيرها يرثها الجيل عن الجيل . ولا غرو إن احتل تلاميذه ، حيث حل ، المرتبة الأولى الممتازة في مادة التاريخ . وكان لا يقبل تمحك أو عذر من يقول أن جسمه يخذله أو شجاعته تخونه دون ألعاب الجمباز على الحصان و "البّك" ابتداء من القفز العادي حتى "السمسرسولت" حماك الله . وكان الجميع سواسية عند سعد بإزاء الرياضة فكلا السمين والضعيف يقف ولا يقع . وكانت وقفته الفارعة ، الواثقة ، المشجعة ، الحريفة عند الحصان يعين الممارس إذا اختلت حركات عنقه أو ظهره هي سببنا للمغامرة إلى بر السلامة . وواضح أن سعداً كان ذا ملكات كاملة خصيبة . كان خطاطاً رساماً رياضياً بعزيمة على السداد وبغير شفقة . فقد كان السوط لا يبرح يده . ولم تكن "أدبة" السوط شاذة على وقتنا بالمدارس الوسطى . فقد كان السوط بها هو المعلم الخفي غير مدفوع الراتب . وأذكر أن زميلي الشايقي القح الصامت الدقيق عمر عبدالرحمن استنكر "حقول السياط" أمام مكتب المدرسين يوماً قائلاً : "مجزرة!" وقد سبقنا إلى الشكوى من سوط المعلم الشاعر البليغ التيجاني يوسف بشير (ت 1937) الذي ذاق الهول منه في المدرسة القرآنية : الخلوة . واشتكى قهر السوط الجيل من طلاب كلية غردون السودانية في الثلاثينات . وقد كره نفر كثير هذه المجانية في العقوبة وسارت عبارة "القرايه أم دق" (أي القراءة على إيقاع السوط) مثلاً في الحاجز النفسي . ولهذا قال الدكتور بيتر ود ورد ، الذي صدرت له دراسات حسنة في السياسة السودانية ، إن مبالغة الرئيس نميري في ارتداف كل عقوبة من محاكمه الناجزة بالجلد ، إنما كانت محاولة لاستثمار أداة عقابية تقليدية أو معروفة في التأديب والإخذاء . وكان سعد مع ذلك مدرسة أخرى موازية للمدرسة التي عرفناها . كان عالمه وسيماً . وكانت الأخرى عادية . وكانت مدرسته بحراً والمدرسة الأخرى ساقية . وقال المتنبئ : ومَنْ قَصَدَ البَحرَ استقلَّ السَّواقيا وأحدثكم عن بحر سعد في لقاء آخر . 2- وهذا سحر يؤثر جاء المرحوم سعد أمير إلى مدرسة عطبرة الأميرية في العام 54/55 الذي قضاه معلم اللغة العربية الأصيل بالمدرسة ، المرحوم الشيخ أبو زيد محمد الأمين الجعلي ، نفعنا الله بذكره ، بكلية التدريس ببخت الرضا . ولم يخف الشيخ أبو زيد ضيقه بهذا التدريب الذي جاءه في الكبر. ويبدو أن هناك من اشتكى أن شيخ أبو زيد ، الوضئ الرضي ، لم يكن يتقيد في تدريسه بحرفية المنهج المرسوم . بخطرات له مشهودة مأخوذة من زكي مبارك أو المازني أو ماشئت . وأذكر أنه لما عاد من بخت الرضا بدأ يملي علينا مباشرة من "مرشد المعلم" عبارات مثل "وعلى المعلم أن يفعل كذا وكذا" . وحين استغربنا قال : - ألم يقل قائلكم أن أتقيد بالمنهج المقرر. وهذا هو المنهج . ولم يتب شيخ أبو زيد . ولازلت استغرب لهذا المعهدي (خريج المعهد العلمي) ونسل الدوحة الجعلية بكدباس تدريسه لنا في نفس العام قصيدة (عبري) للشاعر المرحوم الجيلي عبدالرحمن وهي درة شعره في الديوان المسمى قصائد من السودان الذي هو نتاج يساري شعراً ونثراً . شغل المرحوم محل شيخ أبو زيد يدرسنا مادة اللغة العربية بالسنة الثالثة وسطى . وجاء سعد بالعجب العجاب . فلم أدرس العربية بالنضارة التي يضفيها عليها سعد لا قبل ذلك ولا بعده. ولم أسمع ممن حولي من تلقى العربية على معلم في حيوية سعد وشغفه إلا ما كان من أمر المرحوم عبد الله الشيخ البشير ، ابن أخي ، رحمه الله وأحسن إليه . ما أزال كلفاً بمعرفة كيف وقعت لسعد هذه الطرائف العذبة في التدريس . ولا خلاف أنه جاء مشرباً بالوقائع الفكرية والجمالية لليسار المصري في الخمسينات بما في ذلك عشقه الواثق للغة العربية وإحسانه لها . فقد درّسنا سعد شيئاً من شعر صلاح عبد الصبور ودرّسنا "أيام" طه حسين التي هي وثيقة اجتماعية طرب لها ذلك اليسار كما طرب لمواقف طه بشأن حرية الفكر وحق التعليم الذي هو كالماء والهواء . ولست استغرب انغماسه في كل ذلك وانفعاله به ولكن الذي يحيرني هو طرائق التدريس التي ابتكرها لنا وأركبنا بها المراكب الصعبة دهشين مسحورين . فقد جاءنا بما أسماه "التطبيق الأدبي". وعهدنا بالتطبيق أنه ذلك الذي نشقى فيه بالإعراب والنحو شقاء الشاعر التيجاني يوسف بشير الذي ذكر "المعهد العلمي" وقال في إشهار محبته له : ولقيتُ من عَنَتِ الزيودِ مشاكلاً وشقيتُ من عمروٍ ومن إعرابه وكان تطبيق سعد الأدبي نافذة على خمائل اللغة العربية الغناء ، وجمالها الأخاذ ، وبلاغتها الغرَّاء . فقد كان يشرح لنا الأساليب مثل الأسلوب التلغرافي ويسأل في التطبيق أن نأتي بمثل عليه . وكان يسألنا أيهما أشعر في الوطن: "وطني لو شُغلت بالخلد عنه .." أو "وحبَّب أوطان الرجال إليهم .." وقس على ذلك . وكان يشرح لنا الأمثال العربية مثل "كحامل التمر إلى هجر" و "على نفسها جنت براقش" ويسألنا أن نكتب قصة نختمها بالمثل المطلوب . وأما أمر سعد مع طه حسين فعجيب . كان يحفظ "أيام" العميد عن ظهر قلب . وكنا إذا فرغنا من فصل من الكتاب وقف سعد بيننا مهيباً وقد أغلق كتابه وأغلقنا كتبنا حسب طلبه . ثم يبدأ سعد بأول جملة في الفصل المقرر يجترها من رأسه لا كراسه ، ويظل يدور بيننا يسألنا أن نكمل الفصل ، فيأتي هذا بجملة ، ويتلوه آخر ، ثم ثالث ، وهكذا يزهر فصل "الأيام" في ذاكرتنا وشفاهنا عقداً نضيداً . ومتى استعصت علينا جملة أو غابت صَوَبنا وعوضنا عن فقدنا . ولا أزال أذكر وقفته بيننا بعد فراغنا من درس الفصل الأول يقول "ولا يذكر لذلك اليوم اسماً ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة" . وزرعنا الفصل من الكتاب جملة جملة حتى بهاء آخره . ولعل أعجب وأندر وأبدع ما سألنا سعد أن نحول فصلاً من كتاب "الأيام" إلى مسرحية . فتأمل ثقة الرجل فينا ، وتقحمه بنا ، نحن الذين لم نكمل الثالثة عشر ربيعاً ممن معرفتنا بالمسرح نذراً ، هذه المجاهل الفيحاء في فنون الكتابة . كان واضحاً أن سعد يعد نفسه معلماً مؤدياً فناناً . ولذا كان حريصاً على أن يرتب بيئة الفصل ، بيئة التلقي ، بصورة يكون عنانها كله في يده . فقد كان يطلب حال دخوله الفصل أن نخلع عمائمنا المرتجلة عن رؤوسنا ، وأن نحشرها في الدرج ، حتى يتلافى انشغالنا بها انفضاضاً ولفاً . وكذلك كان يسألنا أن نضع "رزة" الدرج في فك الدرج نفسه حتى لا يدفعنا ملل الصبية إلى طرقها . وبهذا الضبط يكون سعد ، المؤدي الفنان ، سيد الموقف ينعقد له السمع والطاعة ، وتسلس له قيادة شغفنا وسحرنا . وأذكر ذات مساء من 1956 ، وكان سعد قد نُقل من المدرسة ، غير أنه جاء في مهمة للتفتيش الفني بها . وسأله مدرس التاريخ أن يُلقي علينا درساً في تاريخ السودان. ولم يوفق سعد إلى موعد نهاري فاختار أن يلتقي بنا ليلاً. وبدأ الدرس ، وحلَّق سعد بنا ، وحلقنا . ثم فجأة انقطع التيار الكهربائي . ولم يند صوت ، ولا نأمة ، ولا أزيز ، ولا فحيح ، ولا هسيس ، ولا وسوسة مما هو في طبع الصبية من سننا إذا انحجبت عنهم السلطة . ظل صوت سعد هو الأعلى وقد انعقد له إجماعنا الصامت السامع ، المأخوذ . وهذا سحر يؤثر . Ibrahim, Abdullahi A. [[email protected]]