ضعف مؤسسية الفكر الإسلامي الحديث "من الإمبراطورية العثمانية إلى تيار الأخوان في السودان" الاستاذ /أحمد يوسف حمد النيل 1- لمحة عن الامبراطورية العثمانية و تيار الأخوان في السودان: *أولاً : الدولة العثمانية: (699 – 1343 ه) كما يشير العنوان أعلاه , فاننا سوف نتطرق الى ملامح المؤسسة الاسلامية أو التيار الاسلامي في العصر الحديث. شبه بن خلدون الدولة بأعمار البشر و قال : " اذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد و حصول الترف و الدعة أقبلت الدولة على الهرم". ففي عهد العثمانيين الأوائل لم يكن هنالك انحرافا ً عن نهج الله , و لكن عادت الدولة للهبوط و الانحراف بعد انقضاء عهد السلاطين العشرة الذين أرسوا كيان الدولة و عززوا قوتها و مدوا فتوحاتها. و بدأ الانحراف عن منهج الله صغيرا ً ثم ازداد الانفراج و اتسع تدريجيا ثم تحول الى ملك عضوض بالقوة أو بالإكراه حتى أصبحت الهرقلية أمرا ً متعارفا ً عليه. و في بادئ الأمر كانت الدولة العثمانية تمتاز بسطوة و قوة قهرت كل من تآمر على المسلمين و ارتجفت أوروبا خوفا منها فاتسعت رقعة البلاد الاسلامية شرقاً و غرباً. و لكن لنعود لأسباب هذه القوة الضاربة , فهيبة الدولة جاءت لأن معايير الاختيار و الانتخاب و الترشيح لتولي أمور الدولة كانت تتم بالانتقاء والاختيار و التدريب , فكانوا يشددون على من تؤهله صفاته العقلية و الحسية و مواهبه الأخرى المناسبة لشغل الوظائف. أما السلطان فهو رأس الحكم و مركزه و قوته الدافعة و أداة توحيده و تسييره , و كانت أوامره ذات صبغة دينية , و كان يحرص على كسب رضاء الله و احترام الشرع الاسلامي , و لكن عندما بدأ الانحراف يدب في كيان الدولة , بدأ الضعف و الوهن يزحف الى كيان دولتهم. و لعل ذلك له دوافعه التي سنتطرق اليها في سياق هذا المقال. *ثانيا ً : دولة التيار الاسلامي في السودان : اما التيار الاسلامي في السودان فمنذ فجر الاستقلال أو قبله بقليل بدأت تنظيماتهم السرية تضرب منظمات المجتمع المدني , و غدت تستهدفها استهدافا ً سريا و لم تكن المؤسسة العسكرية ببعيدة عن هذا الحراك. فهذا الجوء الذي كان يعيشون فيه و يضربون عليه من السرية التنظيمية و الحزبية جعلهم يحدثون فوارق بين مؤسسات المجتمع , و يحدثون شروخا منذ بذوق فجرهم , فقد كانت هذه الفكرة في الأساس قد تم استجلابها عبر الحدود من الجارة مصر. فكانوا في حراك دائم منذ ذلك الحين حتى سنحت لهم الفرصة في 30 يونيو 1989م , فقد اعتلوا حكم السودان عبر آلة الدبابة و الانقلاب العسكري الذي جاء ليقوض الشرعية و الديمقراطية التي ابداً لم يعترفوا بها طوال الديمقراطيات التي مرت على السودان. و لكن وثبتهم على الحكم عبر الدبابة , جعلهم لا يثقون في من حولهم و في المشاركين في الحكم من بين صفوفهم , فدب الخلاف من الوهلة الأولى بين العسكر و المدنيين , فقد تزعزعت مصداقية منظري هذا الانقلاب في نفوس المخالفين لهم. ثم بدءوا بناء دولتهم , و هنا مربط الفرس فدعونا نتحقق من سمات الحكم الذي كان شعاره الاسلام و ظاهره الشريعة التي يدعون بها. لم يكن نظام اختيار الموظفين على أساس المواطنة و المؤهلات و انما على اساس الحزبية (أي من يتبع لهم فقط) , فبدأ التشريد في الخدمة المدنية , و عدم مراعاة العدل في اختيار الحكام. فساروا بالبلاد بهذا الأسلوب و كان ذلك سبب ترنحهم منذ البداية. فانحرفت الدولة عن الشعارات التي رفعتها. فدبت العداوة بين الاسلاميين و الشعب صاحب الشرعية الذي فجر الثورة , و بين اتباع التيار الاسلامي منذ البداية , فكثر الظلم و السجن و القتل , فلم يستقر حكمهم على حال أو رؤية. فتمزقت المنظمات المدنية , و خارت قوى المجتمع , فكان هذا هدفهم الاساسي من أجل محو سمات المجتمع لصالح دعوتهم الجديدة , فانتظروا ما بين ظلم و خراب في المجتمع لزمن طويل دون أن يأتوا بشئ يستطيعوا أن يقنعوا به الشعب. فامتد الوهن عاما بعد عام يستندون في حكمهم على آلة القوة و الكبت. و دخلت البلاد في سلسلة من الحروب و الانتهاكات و ضعف المؤسسات التعليمية و الصحية و الاقتصادية و العداوات الخارجية دون ان يكون لهم سند دبلوماسي أو قوة يصدون بها تلك العداوات عن البلاد. 2- أسباب زوال الدولة العثمانية و انحطاط التيار الاسلامي في السودان : أ - مخالفة منهج الله : كانت الدولة العثمانية في بداية الامر ترتكز على العاطفة الاسلامية الجياشة و لما خارت فيهم التربية الاسلامية ظهرت أعمال السلب و النهب و الفسق و الفجور و استمر الانحراف و ظهرت حركات العصيان و فقدت الدولة هيبتها بسبب انصراف السلاطين الى ملاذاتهم. فلنعقد مقارنة بين الدولة العثمانية و حكومة التيار الاسلامي في السودان. من وجهة نظر مخافة الله و مخالفة الشرع الذي نادوا به , فقد وقع منظري هذا التيار في المشاكل التي وقعت فيها الدولة العثمانية , و لكنهم حملوا بذرة انهيارهم منذ الوهلة الأولى. ب- عدم اتخاذ الاسلام مصدرا أساسيا للتشريعات: في الدولة العثمانية كثُر اصدار التشريعات و القوانين الوضعية فيما سمي بالتجديدات بسبب الضغوطات الأوروبية. أما بالنسبة للتيار الاسلامي في السودان فغيّر الخارطة الادارية من غير تدرج , مما أدى للحروب القبلية و النزاعات الدينية نسبة لأن السودان يتألف من أقليات أخرى و أكبرها المسيحية. فعجزت ادارات التيار في وضع قوانين خاصة مما أدى لإلهاب البلاد تحت مسمى الجهاد. ج - الحروب الصليبية على الدولة العثمانية: مثال لذلك الحملة الفرنسية على مصر و الجزائر و غيرهما و الحملة الانجليزية على مصر و السودان و عدن و الحملة الايطالية على ليبيا. و الحركات الانفصالية التي اشعلتها الهجمة الصليبية على الدولة العثمانية. أما بالنسبة للتيار الاسلامي في السودان , فناصب العداء لأمريكا و أوروبا دون اسباب منطقية فضلا ً عن حداثة عهدهم بالحكم. و كثير من العدائيات بينهم و بين الجيران , و في المحيط العربي انحيازهم لمعسكر دون الآخر خاصة في حرب الخليج مما ألب عليهم حلفاء أمريكا و أوروبا و كانت العزلة و الحصار الاقتصادي منذ الوهلة الأولى للحكم. د – توسع رقعة الدولة العثمانية: فقد وصلت مساحة الدولة الى اربعة عشر مليون كيلومتر , و نسبة لصعوبة المواصلات فكان من الصعوبة بمكان اخماد الثورات و الحركات ضد الدولة العثمانية نسبة لبعدها عن المركز. أما بالنسبة للسودان فقد دخل تيار الاسلاميين في شؤون بعض دول الجوار و كانت لديهم شهوة تأسيس امبراطورية اسلامية , مما أدى الى تأليب دول الجوار عليهم من قبل الأمريكان و غيرهم من العرب الذين نبذوا هذا التيار, فكان ان غرقت الدولة في مشاكل داخلية و خارجية و هجمات صغيرة لا حصر لها , و الدولة السودانية لم تستند الى قوة عسكرية أو اقتصادية. ه - التخلف العلمي : انشغل العثمانيون بالفتوحات و الحروب المستمرة في كل الجبهات و أهملوا التطوير العلمي. أما بالنسبة للتيار الاسلامي في السودان , فقد انشغل بتوطيد دعائم حكمهم و عمدوا الى تجهيل الناس , و ذلك بإضعاف نظام التعليم و تجاهل التطور في هذا المجال الى ان غدت المؤسسات التعليمية التي كانت شامخة في السابق ضعيفة لا يعترف بها عالميا.و تغيير نظام التعليم دون دراية كافية أو عن قصد مرات و مرات. و – كان العثمانيون يكتفون بالخراج من البلاد المفتوحة: فتركوا المجتمعات كما هي و لم يهتموا بنشر الدعوة للاسلام بالطريقة الصحيحة و اهمال الامن و العدل و المساواة. اما التيار الاسلامي في السودان فقد اهتم بالضرائب و التضييق على الناس اقرب الى نظام السخرة و الجباية العثمانية التركية , و أهملوا العدل بين فئات المجتمع السوداني و انعدام الامن. ز – الضعف السياسي و العسكري في الدولة العثمانية : فقدت الامبراطورية العثمانية المقومات التي بنت على اساسها امبراطوريتها الواسعة , اذ اخذت بوادر الضعف تظهر منذ أواخر القرن 16 م , حيث تعرضت لهزائم عسكرية متتالية, ففرضت عليها مجموعة من المعاهدات اقتطعت أجزاء مهمة من ترابها.تفسخت دعائم الدولة ,حيث فقدت أسس قوتها المتمثلة في التنظيم الاداري و العسكري بعد ضعف سلطة الباب العالي و تحول النفوذ للصدر الأعظم مع استفحال الرشوة و المحسوبية , كما تحول الجيش من مصدر قوة الى أحد عناصر الضعف بتدخله في السياسة و عجز الدولة عن دفع رواتبه. أما في دولة السودان تحت لواء التيار الاسلامي ,دخلت الدولة في صراع سياسي و عقدي تجاه جنوب السودان من وجهة نظر دينية و اهمال النواحي السياسية و الاقتصادية ,ففرض عليها التدخلات الأجنبية و التي افضت الى تمزيق رقعة السودان لجزأين كبيرين هما دولة السودان في الشمال و دولة جنوب السودان , و هذه أصبحت المعضلة الأساسية التي أدت للضعف السياسي و العسكري و الاقتصادي, فضلا عن الصراعات الأخرى في مناطق أخرى من السودان , فظهرت دعاوى انفصالية في مناطق أخرى من السودان. ح – الضعف الاقتصادي : انهار الاقتصاد العثماني بعد تضرر الفلاحة التي أهملها الفلاحون بسبب ثقل الضرائب , كما تضرر النشاط الحرفي لضعفه التقني و لصعوبة تسويق منتجاته بفعل منافسة المنتجات الأوروبية. أدت كثرة الديون المتراكمة على الامبراطورية الى انشاء صندوق الدين العثماني سنة 1881م. أما بالنسبة لدولة التيار الاسلامي في السودان , فقد أخذ الاقتصاد فيها يتدهور شيئا ً فشيئا ً باستثناء السنوات القصيرة التي انتعش فيها الاقتصاد بسبب البترول, و لكن ما انفك الاقتصاد من التراجع المريع بسبب الانفصال بين الدولتين و نسبة لتركز حقول النفط في دولة الجنوب, مما افرز الصراع المحتدم حتى الآن في قضية ترسيم الحدود. فكثرت الديون و عاش السودان فيها أسوأ فترات اقتصاده ضعفا و أصبح بلا موارد بسبب اهمال الزراعة و هي الحرفة الرئيسية لسكان السودان و ذلك بسبب الضرائب و الجبايات المفروضة على المزارعين فانهار أكبر مشروع في السودان و هو مشروع الجزيرة و هجر المزارعون الريف الى المدن الكبيرة , فضلا عن سياسات الدولة في اختيار وزراء زراعة زادوا من تعقيد المشكلة بسبب فسادهم و سوء ادارتهم. ط – ضعف الدولة العثمانية في أواخر عهدها جعل الدول الأوروبية تتآمر عليها : فأثاروا ضدها الحركات الانفصالية السياسية و الدينية , كما استغل دعاة القومية و الصهيونية هذا الضعف مما جعلهم يقومون بحركات لتقويض هذه الدولة. أما في السودان فقد ظهرت الثورات و مجموعات متمردة انفصالية سياسية و اثنية , ما اثقل كاهل الدولة بالديون بسبب ميزانية الأمن و السلاح الكبيرة على حساب التعليم و الصحة و الخدمات الأخرى فكان التدهور المريع. فنشطت المنظمات العالمية متخفية في ثوب الاعانة لهذه الحركات في سبيل اضعاف الدولة السودانية المعادية لجهات عالمية كثيرة. ي – الامتيازات التي كانت تمنح للأجانب اعتباطا ًبسخاء و كرم لا مبرر لها : و قد كانت تمثل التفريط بحق الوطن في اقبح صورة , فمنحت الدولة العثمانية في أوج عظمتها , امتيازات لدول اجنبية جعلتها شبه شريكة معها في حكم البلاد. أما عن الدولة السودانية فقد جعلت السلطة المطلقة و التصرف الأعمى في يد اتباعها من الاسلاميين دون غيرهم محاباة و محسوبية , مما أدى ذلك لصراع مصالح داخل الدولة بين اتباعها , و هكذا اصبحت موارد البلاد حكرا لفئة قليلة لا تمثل السواد الاعظم من السودانيين , مما جعل التجارة و الاقتصاد في أيدي تجار جدد لا يعرفون أخلاق التجارة كما كان السابقون فانهار الاقتصاد و التجارة الداخلية و العالمية و انهارت قيمة العملة السودانية الى أدنى مستوى لها في تاريخ السودان. ك – الغرور الذي أصاب سلاطين بني عثمان : فقد فتحت لهم الأرض على مصراعيها يلجونها كيف يشاءون. و الدليل على ذلك كتاب الملك سليمان القانوني الى ملك فرنسا و قد بدت فيه سمات الغطرسة , و كأنما كتاب من سيد الى مملوك. و هذا كان بسبب جهلهم و غرورهم. أما عن دولة السودان و التيار الأخواني , فكان خطابهم كخطاب فرعون لملأه , و كانوا يرون ما سوى الحركة الاسلامية خارجين عن الملة و استباحوا القتل و التنكيل و التشريد, مما أدى الى تعظيم سطوة الارهاب و الخطاب المبتذل من وزرائهم للشعب مما كرس للكراهية و الخوف في نفس الوقت , و دب الخلاف بين اباطرة النظام في كيفية الخطاب السياسي و نظام الحكم , فتفرق اباطرة النظام من بين قتيل و مقال و مستقيل فأصبحت دفة الحكم في ايدي عدة و متفرقة و متناحرة. و كادوا لبعضهم كيدا. ل – الجيش الانكشاري : و هو الجيش الذي اختاره السلطان اورخان , باختيار افراده من البلاد الأوروبية المفتوحة و تلقينهم مبادئ الدين الاسلامي , و وضعهم في ثكنات عسكرية خاصة و تدريبهم على فنون الحرب و القتال. فقد ابلوا بلاء حسنا ً في فتح القسطنطينية و غيرها و الدولة في أوج عظمتها , و لكن سرعان ما بدأ الوهن يتسرب الى دواخلهم عندما عاشوا وسط المدنيين و كثرت تعدياتهم و بصفتهم هم الأقرب الى السلطان , ففسدت طبيعتهم و تغيرت أخلاقهم , فاصبحت عداوتهم مع المواطنين و تدخلوا في شئون الدولة , و افتتنوا بالسلطة و انغمسوا في الملذات و المحرمات , فشق عليهم ان ينفروا في الاوقات العصيبة و عاشوا على عطايا السلطان و مالوا للسلب و النهب حين غزو البلدان. فأثاروا الاضطرابات يريدون الحروب و لو كان جحيمها يصب فوق رؤوسهم ليواصلوا نهب البلاد المفتوحة.فقتلوا السلاطين ليتولوا الحكم فكانت نهاية الامبراطورية العظيمة على اياديهم. أما بالنسبة للتيار الاسلامي في السودان , فكونوا بما يعرف بالدفاع الشعبي , ليكون فيهم المجاهدون و ليكونوا رديفا للجيش, فعاشوا على العطايا الجزلة , فبعد المعارك التي خاضوها في الجنوب جنبا الى جنب مع الجيش , اخذوا يحسون بالفخر و الكبر , فهاجت فيهم شهوة السلطة و الحكم , فصار المجند في الدفاع الشعبي يحلم بالوزارة بعد العودة من الجهاد , و فعلا ً نالوها مع إجزال العطاء لهم , فركبوا على المناصب كركوبهم المطايا , و أصبح المؤهل الوحيد للوزارة و غيرها هو ختم دامغ من ادارة الدفاع الشعبي , فانحرفت سياسات الدولة و صار المدني هو العسكري و دب الخلاف بين المدني و العسكري حتى انشق صف الجيش العظيم و اصبح بلا رائحة و لا لون, حتى اصبحت البلاد في مرحلة من المراحل لا تستطيع رد أي عدو خارجي. فقد سلب هؤلاء المجاهدون من الدفاع الشعبي حق كل الشعب السوداني بدعوى الجهاد , و أصبحوا هم الأغنى و الشعب الافقر ,فأصبحوا هم الاقوى و الجيش الاضعف و الاسهل على العدو , فسيسوا الجيش فتفرق. م – احتجاب السلاطين و الاتكال على وزراء جهال : كان سلاطين آل عثمان حتى السلطان سليم الأول يقودون الجيش بأنفسهم , فيبعثون الحماسة في صدور الجنود , ثم صار السلاطين يعهدون بالقيادة الى ضباط فصار الجنود يتقاعسون كما يتقاعس المسئولون. أما سلطة التيار الاسلامي في السودان , فصارت ادارة الحرب بيد افراد الأمن و جهاز الأمن و خاصة رجالات التنظيم لعدم ثقتهم بالجيش, فانتهى دور العساكر في ثكناتهم و كثرة الاقالات بسبب الانتقاد و الخلافات , فتتالت الهزائم تلو الهزائم , و استبدلت الحروب بالمحارق و الفتك و الابادة للمتمردين و الشعب , خوفا من زوال الحكم. ن – تسليم أمور الدولة الى غير الأكفاء من الناس : فقد وصل الحال في الامبراطورية العظيمة ان طباخ القصر و بستانيه و حاطبه و الخصي و الخادم يصلون الى رتبة رئاسة الوزارة أو القيادة العامة للجيش , فماذا ينتظر من جاهل أن يفعل؟ أما سلطة التيار الاسلامي في السودان , فكان المنصب بالولاء , وليس الكفاءة, فهاجرت العقول و الكفاءات , و هام اتباع الحركة في السلطة ما شاء الله لهم ان يهيموا , فظهر السودان بوجه غير الذي كنا نعرف , خاصة في ادارة شئون الخدمة المدنية و التعليم و الصحة و حتى الأسواق و كل مرافق الدولة , فكان انحسار بريق دولة السودان من حيث جودة الموظف و الخريج و العامل و الفني و الطبيب و المعلم و الممرض ...الخ. س – زواج السلاطين بالأجنبيات و تسلطهن في أمور الدولة و تعدد الزوجات: فكم من ملوك قُتل اولادهم و اخوانهم بسبب دسائس النساء, و قد أدى تعدد الزوجات الى دسائس بين الأخوان , و تفككت روابط الاسر السلطانية بسبب كثرة النساء , حتى أصبحت عادة قتل السلطان اولاده أو اخوانه , يوم يتولى العرش , أمراً معروفا ً و مألوفا ً. و كأنه يذبح خراف يوم تولي الحكم و لا يشعر بوخز ضمير أو لسعة ألم. أما في ظل حكم التيار الاسلامي في السودان , اصبح التسابق على نساء الشهداء و الجميلات منهن أمراً معروفا و عاديا , و كثرت الدسائس من بين الأسر ذات النفوذ الديني أو العسكري أو المدني , و كثر زواج ابناء الوزراء و بنات الوزراء فيما بينهم , ليربطوا مصائرهم ببعض فلا يغدر واحدا ً بالآخر و ان وقعت الخيانة بعد وفاق ستزول الخلافات بسهولة نسبة للنسب و المصلحة التي تربطهم ببعض , و هذه سنة قد استنها قادة و شيوخ الحركة الاسلامية , فغدوا غارقين في برك من المحسوبية و الشعب غارق في برك الفقر و العوز و ويلات الحرب , بينما تدار ازمة السودان من وراء القصور و الحشم و الخدم و النساء و الديباج. ع – المؤسسة الدينية و الفساد و التبذير و الديون: فبعد انخراط شيخ الاسلام داخل منطقة السلطة غدا باستطاعته ان يستثمر ما تتيحه السلطة من امكانيات و وسائل فعالة بغية حيازات الثروة و توريث المناصب. فتسرب الفساد الى طبقة العلماء , إذ كانوا يأتون في المرتبة الثانية في الدولة بعد السلطان , و كان القضاء لا يسير الا بالرشوة. و قد بلغت نفقات القصور الملكية في بعض الأحيان الى ثلث واردات الدولة , و قد أعطي منصب المفتي لأناس ليس لديهم كفاءة , و بيع المناصب , اصبح الناس يشترون المناصب بالمال فيصبحون قضاة و مدرسين. و قد كان فخ الديون منهج انتهجه الأوروبيون لنصبه للدول الاسلامية منذ القرن التاسع عشر , و فخ الاقتراض الربوي من الدول الأوروبية للدول الاسلامية. أما دولة التيار الاسلامي في السودان فقد دخل شيوخها للسوق من الوهلة الأولى للثورة و كانت هنالك طرفة دائما ما تحكى عن شيوخ الحركة اذ يقولون : "اذهبوا انتم الى المساجد و لنذهب نحن للسوق". فاصبح شيخ الحركة هو المرشد و الوزير و رئيس البرلمان , فأصبح يجمع المال جمعا ً من وراء هذه المناصب , و كان شيخ الحركة اذا اراد عقاب احد افراده في البرلمان يهدد بالخصم المالي في حالة غيابه عن البرلمان. و عندما احتدم الصراع بين التشريعي و التنفيذي و الاتباع ضاقوا ذرعا ً من شيخ الحركة المتسلط , فاقاموا ضده و ضربوه ضربة رجل واحد بما يعرف بمذكرة العشرة ثم انحازوا لقائد الجيش و قائد البلاد لأن السلطة في يده , و من هنا بدأت الفتنة بينهم. أما الفساد فحدث و لا حرج , أموال تنهب و مشاريع تباع و تشترى لاتباع الحركة من أجل حيازة الثروات , و القضاء لا حول له و لا قوة اذ يمسك بجمرته الى يوم القيامة , و الرشاوى شيء يندى له الجبين , اما القصور فحدث و لا حرج , فكانت ضربة فصل الجنوب هي الموجعة بأيدي بلهائهم و ايادي خارجية نسبة لضعفهم و سعيهم وراء السلطة فسلط الله عليهم امريكا و الأوربيون نسبة لأنهم رفعوا شعار الاسلام و سقط عنهم اللواء من أول ضربة سيف. فضربوهم بالديون و الحصار و الاقتراض الربوي و سعوا وراء غسيل الأموال و جمعوا من النتن و الغث من المال بين ايديهم , فما ربحت تجارتهم. و بعد سنوات طوال من الحكم , و بعد ان ذهب بريق السلطة و صولجانها , اخذوا يتقهقرون الى الوراء من اجل اشراك الاخرين الذين نبذوهم منذ فجر الانقلاب , و رغم ان الاسلام لا يأتي إلا بالإقناع و العقل. فدحرجوهم عن الطريق بآلة الحرب و بعد الفشل المريع أرادوا ان يشركوهم في الفشل فنادوهم ان تعالوا الى كلمة سواء. و لكن حار نجمهم و اندثر , و ان بقيت السلطة لسنوات فان مصيرها مصير الامبراطورة العظمى التي كانت اشبه بدولة الخلافة الراشدة , الا أن اصحاب النزوات و المال و الشهوات , عندما فارقوا الدرب أذلهم الله فهزمهم شر هزيمة و جعل كيدهم في نحرهم.