بسم الله الرحمن الرحيم كمال محمد عبدالرحمن (سفير متقاعد) عرف السودان الاستطباب بالأعشاب والزيوت منذ زمان غابر. ولعل بعضنا يذكر الحجامة فى الاسواق والفصادة والتشليق وغيرهم من العلاجات التي درجت عليها مجتمعاتنا. وبعد الفتح جاء الجيش الفاتح بالاجزجية المصريين والشوام للعمل فى السودان. ولما عرفنا الدواء ونجاعته اتى نفر من الاغريق والارمن ومارسوا مهنة الصيدلة فى السودان. وبعد اضراب الكلية فى عام 1931 سافر اثنان من خيرة أبناء السودان الى بيروت عام 1932 والتحقا بالجامعة الامريكيةببيروت لدراسة الصيدلة وعاد الرائدان عام 1937 يحملان الشهادة الجامعية فى الصيدلة. عمل ابراهيم قاسم مخير ويوسف بابكر بدرى فى المصلحة الطبية بعد تخرجهما فى جامعة بيروت لكن شغفهما بالتعليم والتعلم انتهى بالبروفسور ابراهيم قاسو مخير الى ان يكون اول سودانى يتقلد عمادة كلية الصيدلة بجامعة الخرطوم وبالعميد يوسف بدرى الى خلافة والده العظيم الشيخ بابكر بدرى فى مؤسسة الاحفاد والتي اضحت بحق صرحا لتعليم ام الناس. ومن اسف ان الصفحة الالكترونية لكلية الصيدلة لا تورد اسم يوسف بدرى كصنو لرائدها الاخر. ولا أود اساءة الظن أن احدا ينكر عليه ريادته ولا يود ذكر جهده المعروف فى انشاء والتدريس بمدرسة الاجزجية. لقد حمل خريجو المدرسة مسؤولية تحضير وصرف الادوية بالمستشفيات الريفية.ولعلنانذكر العم المرحوم الطريفي الريح اجزجى اسبتالية امدرمان كما كانت تعرف قبل ان تدركنا رياح التعريب بمستشفى وصيدلية.لا شك ان ابراهيم قاسم ويوسف بدرى قد عرفا سيرة ابن البيطار واطلعا على فردوس الحكمة للطبريوتأسيا بهما وقد عرف عنهما الثقافة العالية والمعرفة الموسوعية. لقد هجر العظيمان مهج الحياة لتعلم الصيدلة على النفقة الخاصة وكرسا حياتهما لبحر التعليم المائج ولم يسعيان لجمع المال وها نحن نشهد المهن الانسانية تدر لبعض زمرها الاموال الوفيرة والناس تسأل اين العلاج والدواء الجيد؟. ان الصيدلة كما هو معلوم علم من العلوم الصحية يربط فيما بين الطب والصيدلة وذلك لتأمين ضمان استعمال الدواء وفاعليته. ويعرف الدواء بأنه "أي مادة فى منتج صيدليتستخدم لتغيير أو استكشاف نظم فسيولوجية او حالات مرضية لنتلقى هذه المادة". وكان دور الصيدلي التقليدي هو تركيب الدواء وليس صرفه وقد كان الصيادلة فى الزمان الغابر ملمون بالطبابة والدواء.ونظرا لحاجة الانسان للدواء قد نشأت مع وجوده وستستمر ما استمر وجوده وتظل صناعة الدواء اقدم صناعة لم يؤثر عليها الركود والتراجع. لكن العلوم الصيدلانية تطورت خلال القرن الفائت شأنها شأن العلوم الاخرى ولم تعد تشمل تركيب وصرف الادوية بل تعدته الى التصنيع الدوائي واضافة عقاقير جديدة تم التوصل اليها نتيجة أبحاث مضنية حتى أضحت صناعة ضخمة قوامها مئات البلايين من الدولارات. ولقد حدثت ثورة فى تصنيع الدواء بعد اكتشاف الجينوم. الصناعة الدوائية فى السودان والتي بدأت فى ستينات القرن الماضي بالصناعات الكيماوية ونيكولاس ثم تلتهم شركة أميفارما الوطنية وغيرها لازالت فى بداياتها ولازلنا ننتج ادوية دون اسم تجارى مسجل عالميا ولم نلج بعد مضمارالابحاث الدوائية ذات الاستثمارالضخم بغرض انتاج ادوية جديدة. ويتعين علينا الا نقدح فى جهد شركات الدواء السودانية وبقية شركات الاستثمارفى توفير ادوية للسوق المحلى وبعضها للتصدير للأسواق المجاورة. وعلى الرغم من أن الأبحاث فى مجال الدواء باهظة وضخمة وقد تكون مقاربة فى استثماراتها لصناعة البترول والسلاح والسيارات و الدخان لكن باتباع استراتيجية متنورة يمكن أن تسهم الصناعة المحلية فى توفير العديد من العقاقير محليا وذلك بإعفاء المدخلات من مواد اولية ومواد تعبئة من رسوم جمركية باهظة تكاد لا تفرق فيما بين مدخلات ومواد الادوية والمشروبات الغازية. لاشك أن سوق الادوية المحلية والمستوردة سوق ضخم وعلى سبيل اليقين ان هذا السوق يدر ارباحا طائلة على العاملين فيه ودونكم سلسلة الصيدليات المنتشرة فى كل ارجاء السودان ومن عجب ان بعضها يحمل اسماء لا ادرى كنهها ودونكم كذلك ما اثير فى الصحافة عن دولار الدواء وصيحات منظمات المجتمع المدني. إن المرضى فى السودان لا يقعون تحت مطرقة غياب المعالجة النموذجية من قبل بعض زمر الاطباء لكنهم كذلك تحت سندان شح الادوية وارتفاع اسعارها. وقد اشرت من قبل الى ان غمار الناس قد اتجهوا للأعشاب والعشابين لارتفاع اسعار الدواء. ورد فى دراسة اجراها د. عوض عبدالمنعم وآخرين عام 2005 فى ولاية الخرطوم أن 48.1% من الذين شملهم الاستبيان قد تعاطوا مضادات حيوية دون وصفة طبية و اكثر من 43% ضد الملاريا ولا عجب فقد اكتسب غمار الناس مناعة لا تجاريها مناعة ضد الامراض. حصيلة الاستبيان تشير الى ان الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيش تحت وطأتها فيوض الناس اجبرتهم على الى اختصار بروتكولات العلاج واستخدام عقاقير تم وصفها من قبل فنيو المعامل "الدكاكين" او من بعض الصيادلة الذين يبيعون أي دواء دون وصفة طبية. ولا يقولن احدا أن الانسان طبيب نفسه فقد حازت حيوانات الغابة على هذا الشرف وقد انتهى عهد لعق الجراح والفصادة والتشليق. ونحن فى سبيل الداء والدواء قد يكون من الانسب ان تنتبه الاجهزة الرقابية فى السودان الى ان العالم الثالث قد اضحى مرتعا خصبا لطلاب الثراء السريع الذين يروجون لأدوية مغشوشة قد تحتوى على مكونات قليلة او ضارة او قاتلة وقد تكون منتهية الصلاحية واعيد تعبئتها. وتقول بعض المصادر ان الحجم السنويتجارة الادوية تلك يبلغ عشرات البلايين من الدولارات وفى اكبر دولة فى غرب افريقيا تم اكتشاف ان اكثر من 70% من ادوية الملاريا مغشوشة ومستوردة من مصادر اسيوية. ونحن فى السودان لا تعوزنا القوانين واللوائح المنظمة لبيع الادوية والسموم. لكننا بالقطع نفتقر للإنفاذ الصارم لمراقبة بيع الادوية. و الصيادلة بدورهم مطالبون بالتقيد بمعايير واخلاقيات ممارسة مهنة الصيدلة ولعل اهمها توفير الدواء من مصادر موثوقة ومراعاة شروط تخزين الادوية والامتناع عن بيع وتداول الادوية المزورة والمهربة والتالفة والمسروقة. ومن اوجب مسؤولية الصيادلة عدم صرف الادوية بغير وصفة طبية وتقييم الوصفة ان كانت حقيقية او مزورة. كذلك على الصيادلة وهم شركاء للأطباء فى تقديم العلاج الناجع للمرضى الرجوع للطبيب المعالج فى حالة الشك فى مقدار الجرعة الموصوفة او تداخل الادوية الموصوفة و اتمنى من الصيادلة كتابة التعليمات واضحة على ملصق بدلا من كتابتها بقلم وبخط يحتاج عديدنا لجهد جهيد لفك طلاسمه. إن وصف الدواء وصرفه يتعين ان يخضع للضرورة الطبية الموثقة وليس لغرض تجارى.والى حديث مستطرد حول الطبابة فى السودان، اود ان اشكر كل الذين تابعوا مقالاتي السابقة ولا زلت ارجو ان يتفاعل معها كافة زمر الاطباء ليس بوصفها تشتمل على اراء لا يعضدونها او نقد لبعض زمرهم، وانما بوصفها ِشأن عام لا سبيل للاستمرار فى تجاهله او الاستهانة به. والله من وراء القصد. كمال محمد عبدالرحمن [email protected] (نشر بصحيفة الايام الغراء يوم 27 أغسطس 2013)