(قبل عامين او اقل كتبت مقالاً بعنوان قبال ما ابقى اجنبية، كان عبارة عن زفرات مذبوح في زمن احتفالات الجناة وقفزهم فوق جثة وطن مشطور. كان الماً لا يطاق والزمن ليس كفيلاً بمحوه او نسيانه وحينها قلت لاحدى صديقاتي هذا اكبر الم نتعرض له ولا اظن باننا سنتعرض لحزن اكثر إيلاماً من هذا طالما اننا ركبنا اعلى امواج الاوجاع وحققنا الرقم القياسي بلا منافس وبعد ذلك سكت عن الكلام المباح وغير المباح. وكل ما افعله بعد ذلك يسمى هروباً وكل ادعاءات السعادة تسمى نفاقاً لاني ببساطة بعد ان هاتفتني الصديقة جداً رشا عوض بمعاودة الكتابة في الشأن السوداني، حقيقة سألت نفسي ماذا سأكتب وبعد ان اقيمت كل تلك الحدود والحواجز وقلت لها ذلك، قالت ليس شرطاً ان تكتبي في الشأن السياسي اكتبي عن اي شئ ولكني حاولت ولم استطع خاصة بعد ان عادت الى حلقي تلك العبرة التي لا تحرض على البكاء رغم اني اقتحمت كل الابواب التي تقول انتهى ذلك العهد الذي كنت تجيدين التحدث عنه واصبحت يومياً اردد في وعيي وعقلي الباطني انت لم تعودي منتمية الى كل ذلك أو جزء منه ويجب اتخاذ قرار مع من وضد من، مع وطن نتعرف عليه على ناسه وارضه وشجره واجوائه ومحاولة حفظ نشيده الوطني والتعرف على معاني الوان علمه ومحاولة التعرف على الاتجاهات الجغرافية وقيمة عملتها، وضد وطن آخر كان رمزاً للظلم والشقاء والقيد ولكنه كان الوطن والذي حاولنا بأن نغيره ليتسع لنا جميعا ولاحلامنا ولكن سبق السيف العزل. بغض النظر عن العلائق الاجتماعية التي تجمعنا مع الكثيرين، بغض النظر عن سنين الطفولة والدراسة والحنين الى كل ذلك ، لان التحدث باللغة القديمة قد تطعن في وطنيتي وانتمائي لجنوب السودان يجب ان نفصل بعد الان ويجب ان نتجاهل معاناة السودانيين الاخرين في دارفور وجنوبي كردفان والنيل الازرق ومعاناة المواطنين بالغلاء الذي يطحنهم كل ذلك يجب ان اتظاهر انه لم يعد يعنيني في شئ وليس من حقي التحدث عنه لانه يدخل في صميم العلائق بين الدولتين، هذا صعب ولا اعلم هل ساجيد التعامل مع هذا ام لا ! وسأبدأ من هذا السطر، نشكر صحيفة التغيير على السماح لنا نحن كتاب دول الجوار بالكتابة والمشاركة) هذه الكلمات هي مقدمة أول مقالة تكتبها الرائعة استيلا قايتانو في أول عدد من صحيفة التغيير الإلكترونية في الثالث من مايو عام 2013م، فاستمطرت حروفها العذبة دموعنا وهزت مشاعرنا، وفي ذات الوقت أسعدتنا، لم نسعد بها ككاتبة من دول الجوار كما قالت(من وراء قلبها)، بل كواحدة تنتمي إلينا وننتمي إليها، ليس هذا إنكار للواقع ولا مغالطة طفولية للحقائق لمجرد أنها لا تعجبنا، ولا رومانسية مفارقة لمنطق السياسة والحقائق التاريخية والجغرافية الماثلة، نعم نجح (مشروع الفشل التاريخي) في نسخته الإنقاذية، مشروع العنصرية والاستبداد والفساد في قسمة السودان على اثنين، وذات المشروع الكارثة ما زال مثابرا على تقسيم السودان ربما على ثلاثة أو أربعة، ولكن رغم أنف(مشروع الفشل التاريخي) هناك (حلم واحد) لا يقبل القسمة على اثنين، حلم مستوطن في وجدان الكثيرين والكثيرات منا كسودانيين(شماليين او جنوبيين)، وهو حلم الحرية والعدالة والتنمية والتقدم، حلم انتصار المظلومين على الظالمين، والمستضعفين على القاهرين، حلم انتصار التقدم على التخلف، والنور على الظلام ، والسلام على الحرب، والمساواة على التمييز، والخير على الشر، حلم الحكم الراشد الذي يستأصل الفساد ويوظف الموارد لاستئصال الفقر والمرض والجهل من حياة ملايين السودانيين الأشقياء الذين يبدد المستبدون الفاسدون وتجار الحرب والفتن مواردهم وثرواتهم كما يبددون أحلامهم وكرامتهم، هذا الحلم الإنساني النبيل، البسيط والمعقد، في تجلياته السودانية (شمالا وجنوبا وغربا وشرقا) يجب ان يظل حبلا متينا يربط بين ذوي الضمائر والبصائر من أبناء وبنات السودان(الشمالي والجنوبي، الشرقي والغربي) الذين يكدحون في سبيل تحقيقه بجدية وإخلاص، تحقيق ذلك الحلم النبيل العابر للجهات والإثنيات والثقافات والأديان في سوداننا المتنوع، هو التحدي الأكبر أمام شعوب السودان سواء ظلوا متحدين أو تفرقوا واستقل كل بدولته، وقد لمسنا ذلك في كتابات النابهة استيلا بصحيفة التغيير الإلكترونية، لمسنا في تلك الكتابات الفخر والاعتزاز بالاستقلال رغم الحنين للسودان الوطن الواحد! وليس هذا تناقضا لأن السودان الواحد الذي نريده وتريده استيلا واخواتها ليس سودان (مشروع الفشل التاريخي)! كما لمسنا في تلك الكتابات وعيا عميقا بأن الاستقلال السياسي وحده ليس كافيا لتحقيق الحرية والكرامة والتنمية والرفاه لشعب الجنوب، فقد تناولت استيلا بعقل ناقد وبجرأة وشجاعة تجربة الدولة الوليدة في جنوب السودان في (ميزان الحكم الراشد)، ورسمت بكلماتها صورا متعددة لمعاناة شعب جنوب السودان، ابتداء من الألغام المدفونة في الأرض التي (تنبض بالموت) على حد تعبيرها مرورا بالجوع وتردي الخدمات وتلوث مياه الشرب وندرة الكهرباء ومشاكل الأمن والاحتراب القبلي والفقر والبطالة وصولا إلى فساد المسئولين الكبار وأنانيتهم وعدم التفاتهم لمعاناة شعبهم، وخنق حرية التعبير لدرجة اغتيال صحفي لاخراس صوته الناقد للحكومة! كما أفردت استيلا مساحة في مقالاتها للعلاقة بين دولتي السودان وضرورة تجاوزها لخانة الكيد والعداء الى خانة العقلانية التي تقدر مصلحة الشعبين توقفت استيلا عن الكتابة لاسابيع، وقالت لي ان حالة من الاحباط انتابتها لدرجة جعلتها غير قادرة على الكتابة، وكم اتمنى ويتمنى كل محبي استيلا وهم كثر، ان تعاود الكتابة اليوم قبل الغد، وان تدرك أنها بانقطاعها عن الكتابة تتوقف عن بذر بذور (الحلم السوداني النبيل) في تجلّيه (الجنوبي)، وتتوقف عن إلهام ذلك الحلم في شمال السودان ووسطه، وفي دارفور، وفي جنوب كردفان، وفي جنوب النيل الأزرق. الذين يحملون السلاح من أبناء الجنوب الجديد(دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق) في وجه (مشروع الفشل التاريخي) ربما يحققون اليوم أو غدا ما حققه الجنوب القديم، اي الاستقلال بدولهم، ولكن ومن تجربة الجنوب القديم نفسه، فإن الاستقلال السياسي لكي يستوفي مضامينه التحررية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يكون مجرد إعادة انتاج ل(مشروع الفشل التاريخي) بوجوه جديدة، لا بد من كفاح طويل وشاق، وتضحيات كبيرة في معركة توطين قيم الحكم الراشد وهندسة نظام جديد تتربع على عرش اولوياته عملية تغيير حالة القهر والتهميش وتغيير واقع التخلف الذي يعانيه الشعب، إن مشروع الدولة العلمانية الديمقراطية الفدرالية الحاضنة للتنوع والملتزمة بقيم الحكم الراشد بقدر ما كان مطلوبا للحفاظ على وحدة وتنمية وتطور السودان، ما زال مطلوبا بإلحاح لوحدة وتنمية وتطور ما تبقى من السودان بعد انفصال الجنوب، وهو مطلوب كذلك لوحدة وتنمية وتطور دولة جنوب السودان، وسوف يكون مطلوبا بذات القدر لوحدة وتنمية وتطور الجنوب الجديد لو انفصل واستقل بدولته. ولذلك فإن المؤمنين بهذا المشروع الكبير من السودانيين سواء في الشمال او في الجنوب المستقل، او في الجنوب الجديد عليهم ان يدركوا انهم تيار المستقبل الذي عليه ان يتقدم لاداء دوره التاريخي، قاومي الاحباط عزيزتي استيلا، فمهما ثقلت وطأة الفقر والتخلف على مجتمعاتنا، ومهما بدت آفاق الخلاص مسدودة، لا بد من التمسك بالأمل، والرهان على أن التغيير ممكن! وبما ان كل تغيير ناضج لا بد ان يسبقه (تفكير) فلا بد ان نمارس جميعا فريضة (التفكير) في كيفية فتح الآفاق المسدودة. اكتبي عزيزتي استيلا، كي تقرأك الخرطوم قبل جوبا، والفاشر قبل واو، وكادوقلي قبل ملكال، فأنت لست أجنبية!