تكرم مركز الدراسات الاستراتيجية مشكوراً في عام 1998 بنشر رسالتي للدكتوراه في كتاب تحت عنوان "التنوع العرقي والسياسة الخارجية في السودان". كانت الرسالة التي أعددتها باللغة الانجليزية تحمل عنواناً تقول ترجمته للعربية "صراع الهوية والسياسة الخارجية في السودان" ، غير أن الناشر لم يقبل بهذا العنوان لأنه غير جاذب على حد قوله ورأى أن يصدر الكتاب تحت العنوان الذي أشرنا له. بالرغم من تحفظي على العنوان المقترح إلا أنني وافقت على نشر الكتاب رغبة مني في أن يطلع المهتمون والمعنيون بالأمر على الآراء الواردة فيه ، إذ أن الناشر وللأمانة لم يتدخل في المادة التي احتواها الكتاب بأي صورة من الصور. كان اعتقادي وقتها أن سبب رفض العنوان الأصلي للرسالة هو أنه يخالف الاتجاه العام لسياسة الدولة في ذلك الزمان والتي عرفت عندئذٍ بالمشروع الحضاري. الذي جعلني أعود للحديث عن هذا الموضوع المهم بعد مضي كل هذه السنوات ، هو ما أورده الأستاذ محمد لطيف في عموده المقروء نقلاً عن السيد رئيس الجمهورية وتناول فيه بوضوح إعادة تعريف المشروع الحضاري الذي قامت على أساسه كل سياسات حكومة الانقاذ بما في ذلك سياستها الخارجية. ولعل أكثر ما يهمنا في حديث السيد الرئيس الذي نقله الاستاذ محمد لطيف قوله: "حين أطلقنا المشروع الحضاري هدفنا لتوظيف المحمول الثقافي للشعب السوداني بما يحقق الخير والرفاه وتعافي المجتمع .... الثقافات السودانية وتنوعها هي سلاحنا لمحاربة القبلية والجهوية والإثنية". وينسب الاستاذ محمد لطيف للسيد الرئيس قوله أن الكثيرين أساءوا فهم المشروع كما أساء الكثيرون تطبيقه. قد يعجب الكثيرون كذلك لعودة الوعي المتأخرة بهذا الأمر المهم ، غير أننا لا نملك إلا أن نرحب بحديث السيد الرئيس وفي أذهاننا القول المأثور "الرجوع إلى الحق فضيلة". لقد كان سوء فهم المشروع الحضاري ، وسوء تطبيقه خلال عقدين من الزمان سبباً في تجاهل المحمول الثقافي لقطاعات واسعة من مكونات الشعب السوداني مما هدد وحدة بلادنا وقادها إلى "النفق المظلم" الذي تمر عبره حالياً. ولا يساورنا الشك في أن العودة للفهم الصحيح لهذا المشروع المهم والذي يمثل المرتكز الذي تقوم عليه سياسة الحكومة سينعكس بصورة إيجابية على سياسة السودان الخارجية. فبالرغم من ذهاب الجنوب فإن المشاكل التي تواجهها بلادنا في عدد من أقاليمها في الوقت الحاضر لا زالت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحقيقة مؤلمة وهي عدم اهتمامنا بالمكون الأفريقي في الشخصية السودانية. تمثل هوية أي شعب من الشعوب أحد الأسس التي تقوم عليها السياسة الخارجية للدولة ، ولأن الهوية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة فإن التنوع الثقافي لأي شعب من الشعوب لا بد أن ينعكس على سياسة دولته الخارجية. أعجبني حديث لأحد المتنفذين في مطلع التسعينات يمثل فيه السودان بطائر يطير بجناحين لا بد من التوازن الدقيق بين قوة كل منهما حتى لا يجد الطائر نفسه دائراً في حلقة مفرغة. كما أن أي إصابة في أحد الجناحين أو كليهما ستقود حتماً على حد قول المسئول لأن يَخْلُد الطائر إلى الأرض ويعجز تماماً عن التحليق في الفضاء الرحب ، وكان الرجل يشير عندما قال قولته لضرورة اهتمام السودان بانتماءه المزدوج لكل من الثقافتين العربية والأفريقية. غير أن البون بين أقوال السياسيين عامة وأفعالهم كان ولا زال شاسعاً حتى فقدت الكثير من أقوالهم مصداقيتها لدى المواطن العادي ، وقد وصفتهم السياسية الأمريكية مورين ميرفي وصفاً بليغاً عندما قالت: "إن السبب وراء قلة وجود النساء على الساحة السياسية هو أنه من الصعب وضع المساحيق على وجهين في وقت واحد" ، وإن كان بعضهم قد تمكن ولو لفترة محدودة من تسويق الوجهين معاً. كان الموضوع الذي تناولته في رسالة الدكتوراه هو مشكلة الجنوب وأثرها على سياسة السودان الخارجية في أفريقيا والعالم العربي ، وقد توصلت لعدد من الخلاصات يمكن إجمالها في أن سياسة السودان الخارجية ظلت وتحت كل العهود منذ استقلاله في عام 1956 تغلب انتماءنا العربي على الأفريقي فيما عدا سنوات معدودة أعقبت التوقيع على اتفاقية السلام بين الحكومة وحركة تحرير جنوب السودان بأديس أبابا في عام 1972. استمرت الحركة الوطنية بمختلف توجهاتها تردد الحديث في كل المناسبات عن انتماء السودان العربي الأفريقي ، غير أن ذلك لم ينعكس على سياسة الحكومات الوطنية الداخلية أو الخارجية بالصورة التي تؤكد هذه الحقيقة وتحفظ وحدة البلاد. فبينما كانت قياداتنا التاريخية تهتف في وجه الاستعمار رافضة فصل الجنوب عن الشمال رابطة ذلك بجلاء المستعمر عن البلاد ، فإنها لم تعمل في الواقع لوضع شعارها الأشهر موضع التنفيذ عندما آلت لها مقاليد الحكم في البلاد. ولعل ما جرى في لجنتي الدستور والسودنة في ذلك الوقت يؤكد ما ذهبنا إليه ، ففي لجنة الدستور منح الجنوبيون ثلاثة مقاعد فقط من جملة 46 مقعداً مما حدا بهم للانسحاب من اللجنة ، أما لجنة السودنة فقد خصصت للجنوبيين ست وظائف لا غير من جملة ثمانمائة وظيفة في قيادة الخدمة المدنية مغلبة التأهيل الاداري على الجوانب السياسية بالرغم من رفضها القاطع عندما طلب الحاكم العام الإبقاء على بعض الموظفين الانجليز لعدم وجود من يملأ الوظائف التي كانوا يشغلونها من بين السودانيين. أما نظام مايو فبالرغم من أنه اعترف خلال الأسبوع الثاني له في الحكم بأسباب الحرب في الجنوب ، فالواضح أنه كان يسعى لاستغلال مشلكة الجنوب لتمكين نفسه من السلطة فخرج علينا وزير شئون الجنوب وقتها للقول بأن المشكلة لا يمكن حلها إلا بعد قيام حركة ديمقراطية في الجنوب ، وهي إشارة لمحاولة "أدلجة" النخبة السياسية بالجنوب في الوقت الذي كانت فيه قوى اليسار تسيطر على الأوضاع في الخرطوم. بل إن الرئيس نميري نفسه نقض غزله بيديه عندما قام في عام 1983 بتقسيم الجنوب إلى ثلاث أقاليم خلافاً لبنود اتفاقية أديس أبابا وذلك في سعيه للتمكين لنظامه ، وقد كان الرئيس نميري قد فارق الرفاق في ذلك الوقت "فراق الطريفي لجمله" كما يقول المثل الشعبي. أما بالنسبة لحكومة الإنقاذ فمن الواضح أنها فضلت خيار الانفصال عندما وجدت أنه من الصعب عليها أن تفرض فلسفتها في الحكم على جنوب السودان ، اعتقاداً منها أن ذهاب الجنوب سيجعل الطريق ممهدا لتطبيق تصورها الخاص لكيفية حكم البلاد على بقية أنحاء السودان باعتبار أن الغالبية الساحقة من المواطنين يدينون بالاسلام. بالرغم من أننا قد أضعنا الكثير من الوقت منذ استقلال البلاد ، إلا أنه لا زال بالإمكان تلافي الخلل في نظرتنا لشخصيتنا القومية وهو أمر يحتاج بالطبع للكثير من الجهد والتسامح من كل الأطراف بما في ذلك الحكومة نفسها. فالمعروف أن القوانين التي تحكم البلاد لا تميز بين مختلف المكونات الإثنية للشعب ، وأن المواطن السوداني إياً كان انتماؤه الإثني يتساوى في الحقوق والواجبات حسبما يرد في دستور البلاد وقوانينها. غير أن مثل هذا الحديث قد لا يجد من يصدقه خاصة بعد أن ابتدعت الحكومة بدعة لم يسبقها عليها غيرها وهي السؤال عن الانتماء القبلي عند استخراج الوثائق الثبوتية. وبينما يدفع البعض بأن الغرض من هذا السؤال المحير هو التمييز الإيجابي للأقليات الإثنية ، فإن آخرين يقولون أن العكس هو الصحيح. وفوق هذا وذاك فإنه لا يخفى على المراقب أن أسباباً تاريخية مثل تجارة الرقيق ساعدت على التفريق بين مكونات المجتمع المختلفة وتعقيد الوضع على المستوى الاجتماعي ، وقد زاد الأمر تعقيداً مع عودة روح القبلية مؤخراً وبصورة سافرة بعد أن خطا المجتمع خطوات لا بأس بها خلال العقود الماضية نحو تجاوز هذه العقبة. قد يكون من السهل معالجة الجوانب القانونية والدستورية المتعلقة بالموضوع ، غير أن الجوانب الاجتماعية تتطلب كما هو معلوم معالجات أكثر تعقيداً تُطرح خلالها الأمور بصراحة تامة دون محاولة إخفاء عيوبنا أو تجاوز الأحداث التاريخية والممارسات الاجتماعية السالبة التي ارتبطت بهذه الأحداث ، بدعوى أن إعادة طرح مثل هذه الأمور قد يثير المزيد من الحساسية بين مكونات المجتمع. قد تكون السياسة الخارجية المتوازنة التي تضع في الاعتبار مكونات الشخصية السودانية المختلفة نتيجة مباشرة لمقدرتنا على حل مشكلاتنا الاجتماعية ، غير أنها يمكن أن تكون في نفس الوقت أحد العوامل التي تساعد على تجاوز هذه المشاكل. وتقوم هذه السياسة على المزيد من الاهتمام بعلاقاتنا الأفريقية ، ليس على المستوى الرسمي المتمثل في السفارات بل وعلى المستوى الشعبي الذي يجعل المواطن السوداني أكثر فخراً بانتماءه الأفريقي. لذلك فإن التوجه نحو القارة الأفريقية يقتضي بالضرورة إعادة النظر في الكثير من سياساتنا الداخلية كذلك ، خاصة في مجالات الاعلام والتعليم بحيث تتم مراجعة فلسفتنا الاعلامية ومناهجنا التعليمية بالصورة التي تعكس المزيد من الاهتمام بالقارة الأفريقية وتاريخها وثقافاتها المتنوعة والتحديات التي تواجهها. ومما يؤسف له فإن مناهجنا الدراسية في مختلف مستويات التعليم تفتقر للمعلومات الصحيحة والتي تتناول بالتفصيل القارة الأفريقية وتاريخها وتطلعات الشعوب الأفريقية نحو المستقبل. بل إن هذه السياسة قد تقتضي إعادة كتابة تاريخ بلادنا نفسه والذي يتركز الآن على أحداث بعينها كالثورة المهدية التي تدرس في كل مراحل التعليم ، بينما تُهمل جوانب أخرى من تاريخنا يمكن أن تساعد كثيراً في تجاوز محنة الهوية وربطنا بالقارة الأفريقية خاصة تاريخ الممالك التي قامت على تخوم السودان المختلفة والتي كانت لها علاقات وثيقة بالدول الأفريقية المجاورة. كما أنه قد يكون من المناسب البحث في جذورنا التاريخية والحضارات العظيمة التي قامت في وادي النيل وغيره من أنحاء البلاد وهي في الأصل حضارات أفريقية لا زالت آثارها تنعكس على مختلف أوجه حياتنا اليومية. ولعل إشارة الرئيس إلى المحمول الثقافي للشعب السوداني جاءت في وقتها تماماً فبالاضافة لما ذكره السيد الرئيس من أن ذلك سيساعد على محاربة القبلية والجهوية والإثنية التي استشرت في البلاد ، فإنه سيساعد أيضاً في الارتقاء بموقع السودان الإقليمي بين أشقاءه في القارة الأم عبر ترقية ثقافاتنا ذات الأصول الأفريقية. وكما هو معلوم فإن حجم الدولة وموقعها على الساحة الدولية يقومان أساساً على الدور الذي تلعبه في إقليمها ، وتحتاج بلادنا لأن تراجع موقفها من الأحداث في القارة بالصورة التي تتيح لها الفرصة للعب الدور الإقليمي المأمول. ولعله مما يؤسف له أن كتابات المراقبين حول التطورات المهمة التي تقع في مختلف انحاء أفريقيا ومآلات مستقبل الأوضاع فيها لا تشير لبلادنا كدولة يؤبه لها في هذا المجال. فعندما يتحدث هؤلاء عن الدول المؤهلة لقيادة أقاليم القارة المختلفة نحو المستقبل فإنهم يشيرون لدول مثل مصر وإثيوبيا ونيجيريا وجنوب أفريقيا ولا يخطر السودان على بالهم. بل إن بعضهم يحتار في تصنيف السودان وهل هو دولة تابعة لشرق أفريقيا أم شمالها بسبب فشلنا في استغلال الموقع الذي كنا نأمل في يوم من الأيام أن يؤهلنا لقيادة القارة بأكملها. لكل هذه الأسباب فإن حديث السيد الرئيس الذي رواه الأستاذ محمد لطيف إذا وضع موضع التنفيذ فإنه يحمل الكثير من البشريات ويعيد الأمل في أن يتمكن السودان من القيام بدوره المأمول على مستوى القارة بالرغم مما أصابنا بسبب السياسات التي افتقرت للحكمة والدراسة. كل المطلوب هو أن يخرج هذا القول من نطاق الأحاديث الخاصة للفضاء الرحب ويطرح للتداول على مختلف التنظيمات السياسية ويخضع للدراسة العلمية الجادة من جانب مؤسسات الدولة حتى نخرج باستراتيجية شاملة "حقيقية" تضع السودان في مصاف الدول الرائدة في إقليمه. [email protected]