كان الأستاذ على كرتي وزير الخارجية ضيفاً على برنامج "مؤتمر إذاعي" على الاذاعة السودانية مطلع الشهر الحالي. تحدث السيد الوزير عن عدد من قضايا سياسة السودان الخارجية ، وكان صريحاً وواضحاً في طرحه لهذه القضايا والحلول التي يرى أنها ستقود البلاد إلى بر الأمان. غير أننا سنتناول في هذا المقال حديث السيد الوزير عن علاقات السودان الأفريقية دون غيرها ، وذلك لأنه خصها بجانب كبير من حديثه ، ولإيماننا بأن علاقة السودان بالقارة الأم هي مفتاح علاقاته مع المجتمع الدولي ككل. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنني أتناول حديث السيد الوزير من واقع ما ورد في النص المنشور للبرنامج على صفحة الإذاعة بالانترنت إذ لم تتح لي فرصة متابعته على الهواء عند إذاعته. أشار السيد الوزير إلى أنه لم يتوانى في تنبيه جهات صنع القرار في المجلس الوطني وغيره إلى أن انسحاب السودان وتقليص مجالات تحركه في دول أفريقية عدة خلال تسعينات القرن الماضي فتح الباب واسعاً لأعداء البلاد. ولعله مما يثير العجب أن حكومة الانقاذ قد تراجعت عن العديد من المواقع في أفريقيا حسب إفادة السيد الوزير في تسعينات القرن الماضي بالرغم من إدراكها لأهمية القارة القصوى كما اتضح من البيان الأول للانقلاب في صباح الثلاثين من يونيو 1989 والذي أدان الحكومة المنتخبة بسبب "تفريطها في صداقاتها علي الساحة الإفريقية وخاصة دول الجوار الإفريقي حتى تضررت العلاقات مع أغلبها وتركت حركة التمرد تتحرك فيها بحرية مكنتها من إيجاد وضع متميز أتاح لها عمقا استراتيجيا تنطلق منه لضرب الأمن والاستقرار في البلاد". ولم تكتف حكومة الانقاذ بالهجوم على الحكومات الحزبية بل سعت لتأكيد اهتمامها بالقارة عندما قررت أن يكون عامها الأول في الحكم وهو عام 1990 عاماً لأفريقيا. كان الأحرى بالطبع أن يكون "عام أفريقيا" فرصة لتوطيد العلائق مع الدول الأفريقية عبر خطط وبرامج واضحة من بينها انتشار التمثيل الدبلوماسي المقيم وغير المقيم في المواقع المهمة بالقارة ، غير أن "عام أفريقيا" شهد في الحقيقة كما وضح من حديث السيد وزير الخارجية بداية انسحاب حكومة الانقاذ من مناطق كان للسودان بها وجود سابق ، وهو أمر يستعصي على الفهم. حسناً فعل السيد الوزير كرتي عندما اتخذ قراره بزيادة مواقع الوجود السوداني في مختلف أنحاء القارة عبر إنشاء المزيد من السفارات المقيمة وتوسيع مساحة التمثيل غير المقيم ، فقد ظل تمثيل السودان الدبلوماسي في القارة ولفترة طويلة دون المستوى المطلوب حتى أن أقاليم كاملة ظلت خارج خارطة التمثيل الدبلوماسي. ورغم أن السيد الوزير لم يعلن الأسباب وراء اختيار مواقع السفارات الجديدة التي وردت في حديثه للإذاعة دون غيرها ، إلا أننا لا نشك في أن الأمر قد أخضع لدراسة دقيقة تم على أساسها تحديد هذه المواقع على ضوء المنفعة التي سيجنيها السودان من وجوده الدبلوماسي هناك. ولا نشك كذلك في أن السيد الوزير يدرك أن توفير الموارد البشرية والمالية والفنية لتمكين هذه السفارات من أداء واجبها بالصورة المرجوة أمر في غاية الضرورة ، فقد كان شح الموارد في الكثير من الأحيان أحد المعيقات الأساسية للتحرك الدبلوماسي السوداني ليس في أفريقيا وحسب بل في مختلف أنحاء العالم خاصة وأن سياسات التقشف الحكومية كانت تبدأ دائماً بوزارة الخارجية. ونأمل أن تتبع الوزارة قرارها بتوسيع دائرة التمثيل الدبلوماسي بخطة تحرك محكمة لاستعادة مواقعنا التي فقدناها في عدد من المنظمات الاقليمية داخل القارة. لا يختلف اثنان حول الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للقارة الأفريقية وهو ما أدركته الكثير من الدول كالصين والبرازيل وتركيا وقد عملت جميعها على تكثيف نشاطها الدبلوماسي و ترقية علاقاتها الاقتصادية مع أفريقيا. أما بالنسبة للولايات المتحدة فقد وصف جوني كارسون مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الأفريقية الأسبوع الماضي القرن الحادي والعشرين بأنه "قرن أفريقيا". وتعود أهمية أفريقيا الاستراتيجية لعدة أسباب منها وجود العديد من المواد الخام الضرورية للصناعات الاستراتيجية المهمة كصناعة الطاقة نفطية كانت أو نووية بكميات تجارية هائلة ، كما أن القارة تشهد نمواً اقتصادياً غير مسبوق مما جعل الدول الصناعية تتنافس على أسواقها التي تتوسع بسرعة عالية. هذا فضلاً عن أن الدول الأفريقية تمثل ثلث عضوية الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ونسبة أعلى من ذلك في عدد من المنظمات الدولية والاقليمية الأخرى كمنظمة عدم الانحياز ومنظمة التعاون الاسلامي. أما بالنسبة للسودان فإن القارة ظلت تمثل في السنوات الأخيرة السند الأهم لمواقف الحكومة السودانية على الساحة الدولية كما أشار لذلك السيد الوزير في حديثه للإذاعة. ظلت حكوماتنا الوطنية المتعاقبة تردد بلا كلل أو ملل انتماءنا الأصيل للقارة الأفريقية ، بل إنها ذهبت في بعض الحالات لاعتماد سياسة خارجية تقوم على هذه الحقيقة. غير أن كل هذه الحكومات بلا استثناء افتقرت لخطة استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع أفريقيا فجاءت الفترات المضيئة في علاقاتها الأفريقية متباعدة ومتأرجحة. كانت مشكلة الجنوب والحرب التي دارت هناك لنصف قرن من الزمان حجر عثرة أمام تطوير علاقات السودان بجيرانه وبالدول الأفريقية بصورة عامة. وكان من المؤمل أن يساعد حل هذه المشكلة وانفصال الجنوب على فتح الباب أمام تطوير علاقاتنا الأفريقية ، غير أن التوتر الذي صبغ العلاقات بين البلدين والقضايا العالقة التي لم تحسم بينهما حتى الآن عقدت من الأوضاع وأدت لتأجيل الانفتاح على أفريقيا بالصورة التي توقعها الجميع. وزادت الأمور تعقيداً بسبب الانفلات الأمني الذي تعاني منه مناطق أخرى من البلاد مثل دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق ، والتوتر الذي يسود في عدد من الأقاليم الأخرى. تمثل السياسة الخارجية المتوازنة والمنفتحة على القارة الأفريقية حجر الأساس الذي يقوم عليه التحرك الرسمي نحو توثيق العرى مع الدول الأفريقية ، غير أن هناك الكثير الذي يجب القيام به من أجل ترقية احساس المواطن السوداني بانتماءه الأفريقي كخطوة نحو بناء استراتيجية فاعلة تجاه القارة. ولعل الخطوة الأولى والأهم في هذا الصدد هي التأكيد على المكون الأفريقي في الشخصية السودانية ، وهي قضية شائكة أثارت الكثير من الجدل في البلاد منذ استقلالها في عام 1956 وكانت من بين الأسباب الرئيسة التي جعلت السودان يعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي طوال هذه الفترة. ومع أن الحكومات الوطنية المتعاقبة ظلت تنفي وجود مشكلة تتعلق بهوية السودان أصلاً باعتبار أنه دولة عربية أفريقية وأنه يتحرك في مجاليه العربي الأفريقي بنفس المستوى ، إلا أن مشكلة الحرب في جنوب السودان كانت تثير الكثير من الشك حول هذا الأمر خاصة وأن الحركة السياسية الجنوبية ظلت منذ نشأتها تطرح القضية باعتبارها صراع بين العرب المسلمين في الشمال والأفريقيين المسيحيين في الجنوب. ورغم بعد هذا الطرح عن الواقع فقد وجد دعماً من جانب الاعلام الإفريقي والدولي حتى أصبح لدى الكثيرين حقيقة مسلم بها. ومما زاد الأمور تعقيدا أن السياسات التي ظلت تتبعها الحكومات الوطنية خاصة في مجالات الاعلام والتعليم والتنمية الاقتصادية عن قصد أو غفلة كانت تعطي هذا الطرح الوقود الذي يساعد على سرعة انتشاره. كان الطرح من القوة بحيث أصبح المواطن الأفريقي العادي تحت الانطباع بأن شكل السوداني الشمالي مطابق للصورة النمطية للعربي والتي كانت تظهر في الاعلام العالمي في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، بل إن الكثير من السودانيين الشماليين أنفسهم أصيبوا بالدهشة عندما أدركوا أنهم يعاملون كإفريقيين في بلاد المهجر بمختلف أنحاء العالم بما في ذلك بعض دول الشرق الأوسط. لا شك أن ما تفضل بطرحه السيد وزير الخارجية فيما يتصل بتنمية وتطوير العلاقات مع الدول الأفريقية يعتبر خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح ، ولكنها خطوة يجب أن تتبعها خطوات في مجالات أخرى حتى يتحقق الهدف من تحرك وزارة الخارجية ونصل إلى ما نرمي إليه. ليس من المعقول مثلاً أن تخلو مناهج تعليمنا مما يشير إلى تاريخ حركة التحرير الأفريقية ، أو التحديات التي تواجه الدول الأفريقية بعد استقلالها. بل ليس من المفهوم أن يصل أبناؤنا حتى مرحلة التعليم الجامعي دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن مسار الحركة الثقافية في القارة الأفريقية ، أو أن هناك من الكتاب الأفريقيين من حاز على جائزة نوبل في الأدب. بل إنه ليس من المقبول أن تكون المساحة المتاحة للأحداث والتطورات في الدول الأفريقية في الإذاعات والتلفزيونات الأوربية أكبر مما هو متاح في أجهزة إعلامنا ، ولا يمكن أن نرضى مثلاً من بعض المعلقين الرياضيين عندنا أن يرددوا في تقليد لبعض القنوات العربية ودون تبصر أن المريخ أو الهلال هو ممثل العرب في كأس الكونفدرالية الأفريقية أو في بطولة الأندية الأفريقية. هناك حاجة حقيقية في اعتقادنا لمراجعة الكثير من السياسات حتى لا يكون انتماؤنا لأفريقيا مجرد انتماء جغرافي ، ولا بد من ترقية الاحساس بهذا الانتماء بل والاعتزاز به وسط الأجيال الجديدة. كلي يقين بأن ما أدعو له قد لا يكون سهلاً في ظل الردة القبلية التي تنتظم بلادنا في الوقت الحالي ، والأوضاع غير المستقرة التي جعلت الناس يلجأون لانتماءاتهم الضيقة بحثاً عن الأمن والطمأنينة ، غير أنه في اعتقادي واجب لا بد من القيام به حتى لا تصيبنا لعنة الأجيال القادمة. Mahjoub Basha [[email protected]]