[email protected] لدى صديق عزيز حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد، ويشغل حالياً موقعاً مرموقاً في احدي وكالات الاممالمتحدة المتخصصة في جنيف. ضبطت صديقي هذا عدة مرات متلبساً بالاستماع الى اغاني من تلك التي يجري تصنيفها تحت مُسمى (أغاني البنات). وعندما سألته ذات يوم: "هل يصح وانت من زمرة العلماء ان تستمع الى اغنية تقول كلماتها (سجل لي عرباتك ما انت العسل ذاتك)"؟ كان رده أنه ليس مغرماً حقاً بهذا الصنف من الغناء، ولكنه يحرص على سماعه لأنه في تقديره يمثل مؤشراً حيوياً لحركة قطاعات معينة في المجتمع، فهو، اى صاحبي، يرصد الحراك الاجتماعي من خلال تلك الاغاني! بالرغم من انني لم أحسن استيعاب حجة صديقي، الا أنها وقعت مني موقعاً طيباً فتبنيتها وتذرعت بها في كل مرة ضبطني فيها أحد الأحباب وأنا استمع الى اغنيتي المفضلة (كده كده يا تريلا)، بصوت مغنين ومغنيات كثر سودانيات واجنبيات، آخرهن المطربة المغربية العراقية شذى حسون، صاحبة لقب (قمر الاغنية العربية). وكنت لعهد طويل اعتقد انها، اى الاغنية، أصلاً من أغاني البنات، حتي صححني مؤخراً بعض الراسخين في العلم فأنبأوني انها ليست كذلك، بل هي من الفولكلور الشعبي. وأن أول من أداها مطرب من مدينة بورتسودان اسمه بكير محمد خميس، انتج في العام 1991 شريطاً تضمن الاغنية فذاعت وشاعت وملأت قرى السودان وحضره، ثم العالم العربي بأسره. تذكرت اغنية (كده كده يا تريلا) وأنا أقرأ في صحيفتنا (الخرطوم) أول أمس الأحد تحليلاً للاستاذ عبد الله رزق رئيس القسم السياسي للصحيفة بعنوان (القاطر والمقطور في العلاقات الجبهوية). تناول زميلنا في تحليله تصريحات جاءت على لسان السيد الصادق المهدي خلال ندوة اقيمت الاربعاء الماضية بدار حزبه، وصف فيها الإمام الحزب الاتحادي الديمقراطي بأنه (ترلة) لحزب المؤتمر الوطني، كما وصف تحالف قوى الاجماع الوطني بأنه (ترلة) للجبهة الثورية. وهي التصريحات التي رد عليها حزب المؤتمر الشعبي على الفور حيث أبرزت الصحيفة في عددها الصادر أمس الاتنين، عنواناً رئيسيا على صدر صفحتها الاولى يحمل تصريحا للقيادي كمال عمر جاء فيه: (الامة ترلة للمؤتمر الوطني)! وقد كتب الاستاذ رزق في معرض تحليله أن الامام الصادق المهدي، الذي كان له قصب السبق في افتتاح معرض القاطرات والتريلات السياسية، اتخذ ذلك الموقف وادلى بتلك التصريحات (بعد أن رفض تحالف قوى الاجماع تسليم قيادته الفكرية والسياسية والتنظيمية لرئيس حزب الامة والقبول بوضع الترلة). ويتضح من هذا ان خيارات التحالف اصبحت محدودة، فإما ان يترلل (أى ان يكون ترلة) للجبهة الثورية، بحسب تصريح الامام، او يترلل للامام نفسه بحسب تحليل رزق. لم يعجبني بالطبع تحليل الاستاذ عبد الله رزق، ولكنني في ذات الوقت لم استغربه، فقد اعتدت، وأحسب أن اغلب القراء قد اعتادوا مثلي، على مواد وتحليلات الكادرات التحريرية لصحيفتنا الغراء التي تميل الى تبخيس قدر الامام وإثارة الغبار حول مواقفه وتبني الخط السياسي لمخالفيه بصفة مستديمة. ولولا أنني أعرف ان سيدي ومولاي مبارك المهدي على خلاف قديم، اتسع خرقه على الراتق، مع مؤسس هذه الصحيفة ومديرها العام الدكتور الباقر احمد عبد الله، وانهما مثل خطين متوازيين لا يلتقيان، لذهبت بي الظنون الى ان الاخبار والتحليلات السياسية المتصلة بالإمام الصادق، التي تنشرها (الخرطوم)، تجري صياغتها في كمبالا! لماذا يا استاذ رزق رفض تحالف قوى الاجماع القبول بوضع (الترلة)، وفق تحليلك، واستنكف تسليم قيادته الفكرية والسياسية للامام؟ وإذا استنكف التحالف ان يكون للامام الدور الرائد الذي يليق به فلمن يكون ذلك الدور؟ والحق ان الامام لم يطلب القيادة، لا لنفسه ولا لغيره. وانما كانت دعوته لإعادة الهيكلة بما يحقق لكيان المعارضة الكفاءة والفاعلية المطلوبتين. ولكن الهيكلة والاصلاح يستعصيان اذ يفضل التحالف ان يترلل للجبهة الثورية فيدس المحافير عن الإمام. ولكن المعضلة الحقيقية في حياتنا السياسية هي أن كل حديث يُكتب او يقال، لا يُقرأ ولا يستمع اليه في نصه الاصلي، وانما يُصاخ السمع وتكون القراءة لما بين السطور. وهذا نوع من السمع والقراءة ضل به المعارضون عبر السنوات ضلالاً بعيدا. وهو الضلال الذي حجب عن الكثيرين حقيقة أن الامام الصادق المهدي سيظل - شاء من شاء وأبى من أبى - الرقم الأصعب في معادلة السياسة السودانية. أطال الله في عمره ونفع به. لست كثير التفاؤل بأن مشهدنا السياسي سيحظى بتغيير ذي بال في المستقبل المنظور، سواء على مستوي القاطرات او على مستوى الترلات. ولا استبعد ان يتجه تحالف المعارضة في ظل الأزمة الحالية التي تأخذ بخناقه الى أن يجعل من قيادته الفكرية والسياسية والتنظيمية شأناً دورياً، بحيث تكون الرئاسة دُولةً بين كياناته التنظيمية المختلفة وفق ترتيب يُتفق عليه. وفي هذه الحالة، وبحسباني كاتباً معارضاً، فإنني اقترح على التحالف أن تكون فترة القيادة الدورية الاولى من نصيب السندريلا (رئيسة حزب المسخرة)، عسى أن تنعم المعارضة بالفكر النير والقيادة الملهمة. وهكذا ينأى التحالف بنفسه عن هاجس (كده كده يا تريلا) الذي يؤرق منامه ويحول بينه وبين قبول خطة الامام الاصلاحية. وفي الأثر: (كيفما تكونوا يولّ عليكم)! نقلا عن صحيفة (الخرطوم)