حين قرأت إعلان ولاية الخرطوم المنشور على الصفحة الأولى من أحد صحف الأسبوع الماضي عن تدشين مشروع القطار المحلّي، توضأت وصليت ركعتين حتى أتوجه إلى الله بقلب سليم وجسد طاهر علّه يستجيب لدعائي. دعوت الله متضرعا أن تكون ولاية الخرطوم قد تخلت عن استراتيجيتها المعهودة في تدشين المشروعات الكبرى (والصغرى)، وتنفيذها، قبل دراستها دراسة جدوى علمية جادة تأخذ في الحسبان كل جوانب المشروع الفنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وإذا كانت الفائدة المرجوّة من المشروع تُبرر الأموال الضخمة التي ستُصرف عليه. لا أقول هذا تجنياً، فقد عودتنا حكومة الولاية، مثلها في ذلك مثل أمّها في الرِضاع – حكومة المؤتمر الوطني والأحزاب المؤلفة قلوبها وجيوبها- أن تُطلق الرصاص أولا ثم تستفسر بعد ذلك عما يحدث، مثلها في ذلك مثل "كاوبويات" الغرب الأمريكي الدامي المتفلت. ألم تُطبق الحكومة سلما تعليميا جديدا بين ليلة وضُحاها، دون دراسة جادة وتروٍ وإعداد متفطن، دمجت فيه المرحلة الأولية مع المرحلة الوسطى (وهما مرحلتان منفصلتان تماما من حيث المناهج والكتُب والمعلمين والمباني)، وبترت منه عاما دراسيا كاملا، ثم عادت بعد سنوات طويلة، وتردٍ مُريع في مستويات التعليم، تُنظم على استحياء مؤتمرا للتعليم يُوصي بإعادة السنة المبتورة؟ ألم يُصرح وزير السدود أن تنفيذ سد مروي صاحبته بعض الأخطاء، وانه تم في عجلة وحماس، وأن تقديراته المالية لم تكن صحيحة؟ ألم تُصر الحكومة على زراعة القمح في مشروع الجزيرة (رغم الدراسات والمحاذير ونصح الناصحين) حتى فشلت التجربة، "واندلق الرضيع مع ماء الحمام" كما تقول الفرنجة؟ ألم تستجلب الحكومة "يختا" فاخرا أفسحت له الطرقات والجسور وأسلاك الكهرباء لتكتشف أنه مُصمم للإبحار في بحر المالح بحكم غاطسه الطويل الذي لا يصلح للملاحة في النيل؟ ألم تنقل حكومة الولاية مواقف المواصلات العامة عدة مرات لتعود فتخبرنا أن القرارات صاحبتها المشاكل، وسببت العنت لمن تريد الولاية خدمتهم؟ ألم يُصرح الوالي أن نحو 90 في المائة من شوارع الخرطوم نُفِّذت دون التزام بالمعايير المعتادة (دون أن يحدثنا عن محاسبة من اشتركوا في هذا الخطأ المُكلف)؟ ألم تستجلب الولاية مئات البصات دون أن يصحب ذلك ما يلزم من ترتيبات الصيانة الواجبة لمثل هذا الأسطول الكبير من المركبات (التي تحاول الآن التخلص منها)؟ ألم تنصب الولاية لافتات المرور الضخمة المُكلفة التي لا تفيد السائقين لعدم جدوى الإرشادات التي تحتويها في حين تخلو مداخل، ومخارج، وجسور، وأحياء العاصمة الحضارية من أي لافتات مرور متواضعة تدلك على تلمس طريقك في هذه المدينة المختنقة، المهملة؟ ألم تتخلص الولاية من ميدان الأممالمتحدة، الرئة الوحيدة لقلب المدينة، لتبني عليه مركزا تجاريا ضخما يشكو الخواء والبوار بعد أن توقف قلب المدينة عن الخفقان ليلا؟ نعود لإعلان تدشين مشروع القطار المحلي وهو إعلان يُذكرك بالمثل السوداني الذي يقول "الجواب يكفيك عنوانه"- وأنا أقول:" المشروع يكفيك إعلانه"،. لن إعلق على المشروع نفسه فقد لدغنا من جحر الوعود الكاذبة والمشاريع المسلوقة على عجل، والأفيال البيضاء مرات ومرات بداية بترعتي كنانة والرهد اللتين تداعت لحفرهما محليات السودان من عِد الفرسان إلى همشكوريب، ونصبت لهما منظمة شباب الوطن (التي اختفت خلسة مع شركة الرواسي والعنقاء والخل الوفي) سرادقا صنعت فيه المحافير الكافية لحفر قناة السويس، ومرورا بالمفاعل الذري، وانتهاء بالقمر الصناعي السوداني. لذلك سأمسك عن التعليق على المشروع ويكفيني تأمل الإعلان ففيه ما يُنبئك عن طبيعة المشروع ومآله وما يُغنيك عن ترقب بدء العمل فيه، واكتماله والخدمات التي لن يُقدمها للجمهور المعلق على جنبات الطرق في انتظار الفرج ووسائل النقل. يقول الإعلانن الكاشف المنشور على الصفحات الأولي في جرأة مدهشة أن مشروع القطار المحلي جزء من استراتيجية الولاية للخروج بحلول "جزرية" – بحرف الزين – لمشاكل المواصلات في العاصمة. وقد أحسنتُ الظن – في بادئ الأمر – بادارة الولاية إذ حسبت أن المقصود هو تحول الولاية (وربما الحكومة) إلى استخدام الجزرة في "سياسة الجزرة والعصا" بعد ربع قرن من استخدام العصي والهراوات وقنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص في تعاملها معنا! وحين تبينت الخطأ الإملائي في إعلان به أقل من 20 كلمة، تأكد لي مجددا أن المشروع لن يختلف عن سابقاته. ماذا نقول عن مثل هذا الإعلان، وهذا المشروع، سوى أنه صادر عن موهبة نادرة، وتوفيق عجيب من عند الله تعالى في ارتكاب الأخطاء الإملائية، والسياسية، والإقتصادية، وتكرارها مثني وثلاث ورباع؟! ///////////