8-10 امتحنت من مدرسة مدني الأهلية الوسطى للشهادة السودانية وقبلت بمدرسة حنتوب وكان يومنا الدراسي الدراسي الأول الأربعاء الثانى من فبراير 1949. لظروف خارجة عن إرادتى لم أتمكن من الوصول إلى حنتوب مساء الثلاثاء الأول من فبراير وفق النظام المدرسي المتبع. جئتها في صباح الأربعاء عابراً على الرفاص في رحلته الصباحية الأولى في ذلك اليوم. وهى رحلة يومية مخصصة لترحيل أبناء المعلمين والعاملين في حنتوب إلى مدارسهم الأولية والوسطى في مدينة ودمدنى. كنا مجموعة من الطلاب تبادلنا التحايا داخل الرفاص الذى اتخذ مساره مباشرة في عرض النهرعابراً إلى الضفة الشرقية التي وصلها في دقائق معدودات لم نتمكن أثناءها حتى من معرفة أسماء بعضنا البعض من القدامى كنا أو المستجدين. توقف الرفاص في مرساه في تمام الساعة السابعة والربع صباحاً. جاهدنا أنفسنا للصعود إلى أعلى هضبة المرفأ. كانت تتلاحق أنفاسنا من حمل أمتعتنا والوصول بها إلى حيث كان اثنان فقط من الحمالين (الحمّاره) ينتظران بجانب دابتيهما . كان عددنا زهاء عشرة من الطلاب. وما أن صار من كان متاعه خفيفا إلى مقربة من أعلى الهضبة حتى سارع الشابان الحماران في منافسة محمومة لتحميل اكبر قدر من الأمتعه للانطلاق بها إلى الداخليات. سمعت أحد الشابين يمنّي النفس أن تكون وجهة الطلاب القادمين المك نمر أو الزبير إذ هما أقرب الداخليات إلى المشرع. وذلك يمكن صاحب الدابة من العودة السريعة إلى المشرع عله يصيب مزيدا من الرزق. فالعودة قمينة إذ لم يكن من شخص آخر ينافسهما في ذلك الصباح. كان كل متاعي شنطة "حديدية" قليلة المحتوى، خفيفة الوزن، مما مكّنني أن أكون أول الواصلين إلى أعلى الهضبة، وأحظى بمساعدة أحد الحمالين الذى انفرجت أساريره عندما رفعها على ظهر دابته. وواصل يضع المزيد من متاع الطلاب على ظهر الحمار حتى كاد الحمار أن "يقع من طولو"، أو كذلك أحسسنا وخاصة بعد أن تلقّى ضربتين موجعتين على جانبي مؤخرته . وبدأنا رحلتنا سائرين في معيته نحو الداخليات، وفي مسارنا عرفنا من صاحب الدابة أن الكثيرين من الحمالين يعلمون – بالتجربة- أن الطلاب عادة يصلون إلى حنتوب يوم الثلاثاء. وما توقعوا أن يكون عدد القادمين في صباح الأربعاء كبيراً ولذا قنعوا بما رزقهم الله طوال ذلك اليوم السابق. وما أن صرنا إلى موقع قاعة الطعام إلا وجاءنا صوت أجش من رجل قصير القامة كان في حالة انفعال وتشنج يتطاير الشرر من عينيه. أثار ذلك فضولنا لنتوقف هنيهة نستجلي الأمر . كانت عبارات التأنيب تتابع مندفعة من لسان الرجل نحو طالب خرج مندفعاً من داخلية "المك نمر" مهرولا نحو المدرسة . عجبنا أن أحد مرافقينا، ويبدو أنه كان من قدامى طلاب المدرسة، سلّم على الرجل بعبارة غريبة: " إزيك يا عم لخبطه". وقد كانت درجة انفعال لخبطة قد وصلت إلى عنان السماء. ليه؟ فمن خلال كلمات "عم لخبطة" المتسارعة المؤنبة أدركنا أن ذلك الطالب المندفع من "المك نمر" كان سببا في استثارة غضب عمه "لخبطه" إذ انه ترك باب "النملية" مفتوحاً. ولكنا رأينا الطالب يعود معتذراً ومبديا أسفه للعم مصطفى فراش داخلية المك نمر الذي كان يُكنّى ب "لخبطة". أسرع الطالب وأغلق باب النملية. ورغماً عن ذلك واصل العم مصطفي حديثه محذرا الطالب من مغبة ترك أبواب النمالي مفتوحة: " لما تخلي النملية فاتحة حيدخل البعوض وتمسكك الملاريا .. بعدين موش حتقدر تروح المدرسة .. اعملوا حسابكم.. أنا بقولكم أهو، أسفك ما بفيد بحاجة، أنت تتسبب في مرض نفسك ومرض إخوانك. ما تنساش ربنا راح يحاسبك بعدين على ضرر الناس". عرفنا لاحقا ان اسم الرجل بالكامل مصطفي حران ، فراش داخلية "المك نمر" وكبير فراشي الداخليات. كان اهتمامه بعمله وانضباطه مضرباً للمثل. يقينى أن مشهد مصطفي حران في انفعالاته تلك كان مثالأ حيا على ما كانت عليه روح العمل الجماعي الذى ساد مجتمع حنتوب المدرسة . وقد تبين لنا في مستقبل الأيام أن كل من له صلة بحنتوب ذلك الزمان كان في سعى دائم للوصول إلى الكمال. كانوا جميعاً يتحدثون "لغة واحدة" ناظراً ومعلمين وعاملين مما جعل ذلك ينعكس في سلوك طلابها وأدائهم على مر الأيام والسنين. كان ذلك أول درس تعلمناه قبل دخولنا قاعات الدراسة. وقد تأكد لدينا ذلك بالدليل القاطع في أول اجتماع مدرسي في ذلك الصباح الأغر من كل كلمة خرجت من لسان المستر براون، ناظر المدرسة "فريد عصرو"، الذى ترك من الآثار والبصمات في حنتوب ما ظلت المدرسة تسير على هديه بعد مغادرته السودان عام 1955 إلى أن مال ميزانها وغربت شمسها في عام 1994. كان من بين ما تحدث عنه المستر براون في بداية ذلك الاجتماع في يومنا الأول - بعد ترحيبه بطلاب السنة الأولى – أن ركّز حديثه على عدم ترك أبواب "النمالي" في كل موقع في حنتوب غيرمغلقة. ذلك بالإضافة إلي الاقتصاد في استخدام الكهرباء بأن يقوم آخر المغادرين لأى موقع باطفاء الأنوار. وكانت تحظرأضاءة الأنوار في كل أرجاء حنتوب نهاراً. بعد أن تركت شنطتي في عهدة مصطفي حران في داخلية المك نمر واصلنا السير إلى المدرسة. وكانت ساعة البرج حين وصولنا المدرسة تشير إلى السابعة وخمسة وثلاثين دقيقة. و ما أن دلفنا عبر مدخل المدرسة الشرقي إلا ووجدت نفسي وجها لوجه أمام رجل داكن اللون يميل إلقصر في القامة مع احدوداب في الظهر يبدو به وكأنه سينكفئ على وجهه. ورغم ما بدا عليه من تقدم في السن إلا انه كان يسير في نشاط ظاهر للعيان..كان يرتدى بزة (بردلوبة) ناصعة البياض من فوق رداء ابيض قصير مع جوارب بيضاء تغطى ساقيه. ويتدلى على جانبيها تحت ركبتيه "شلاشل" حمراء وينتعل حذاء أسود شديد اللمعان. توقف أمامنا لثوان ثم واصل سيره مسرعا إلى هاتف صوت باسمه: عم جالي. فقفل راجعاً بسرعة. سألَنا الرجل إن كان أى منا من الطلاب المستجدين . ولما كنت أنا الوحيد المستجد من بين القادمين في ذلك الصباح، بادرني بعبارة ترحاب مقتضبة اتبعها بسؤال عن اسمى ومن أين قدمتَ . وما أن ذكرت اسم السلاوي إلا وانفرجت أساريره ولاحت على وجهه ابتسامة عريضة عجبت لها.