* الثانية عشرة والنصف ظُهراً وشمسُ الشتاء تصرخ في سماء الحيِّ الأمدرماني ، حيث العاملون والعاملات يُصارعون لُقمة عيشهم كلٌّ في موقع كسْبه ، بينما تضع المنازل أثواب قيلولتها ، ويخفتْ وقْعُ أقدام الشوارع ! تخرج البِنْتان من خلوة (دار حفصة للعلوم الإسلامية) مُتبرْقعتان بحياءِهما البائن ، سالكتان صراطهما المُستقيم في رحلتهما اليوميَّة مِن وإلى الخلوة .. لوَّحتْ إحداهما – وهي تدخل دارَها – للأُخرى التي قاربت إدراك منزلَها .. وعند المُنعطَف ؛ قطعتْ أمامها الطريقَ درَّاجةٌ بُخارية على متْنِها شيطانان أرعنان ترجَّل أحدُهما وانتزع حقيبةَ البنت في غمضةِ عينٍ ، قبل أن تنطلق الدرَّاجة بسُرعتها الجنونية اللاورائيَّة ! في مَقرِّ (بسْط الأمن الشامل) الذي لا يبعد مسيرةَ خمس دقائق بخُطىً وئيدة من موقع الحدث ؛ سكبتْ البنتُ دموعَها وهي تُلْقِي على المكتب حزام حقيبة اليد المنزوعة !ولكن الإجراء الذي ينبغي أن تلعق جراحَها لديه هو فتحُ بلاغٍ ضدّ مجهولٍ في قسم الشُّرطة الذي تلزمها لبلوغه مسافةٌ تُضرَب لها أكباد الغُبن والامتثال والطائل من وراءه والإحساس بنقيض الأمن في عاصمة البلاد ٍوداخل الحي السكني وفي منتصف النهار ، وصاحب الدكَّان لم تحدِّثْه نفسه عن الغوث ، والمرأتان اللتان أطلَّتا من بابي منزليْهما أعادتهما إلى الداخل إيماءة من ساطور مازحٍ من فرْطِ طمأنينته ! لم يكن في حقيبة اليد المختَطَفة سوى الحقّ المُبين والذكْر الحكيم وكتاب في علم التجويد ودفتَر تزينه اقتباسات من النورانية وقلم (بِكْ) مثرَّم المؤخِّرة ! فما أغلى المُحتوى وما أرخص الأمان !!! ** في قلْب الخرطوم وبلا مقدِّمات ؛ نفخ في وجهه أحدُهم ريحَ فمِه وهو يقول متحفِّزاً لشجار : - لماذا تنظر إلىَّ هكذا أيُّها الأ[له ؟! - ولماذ أهيم بك يا هذا ؟ أمسك صاحبُ الريح الفمويَّة بتلابيب الرجل الطيِّب ولطمه على وجهه في اللحظة التي انتزع فيها آخَرٌ محفظة النقود والموبايل مُفْسِحاً المجال لحلبة قتالٍ غير متساوية الأطراف ، اُسْتُخدِمتْ فيها قبضاتُ اليد والرُكَب والأقدام ، تغلَّبتْ فيها الكثرة المُباشرة والخفيَّة على القِلَّة ! قبل أن تغيب الوجوه الكالحة بين الكالحة ..ليستفيق الرجُل الطيِّب عاري المنكبين ، نازف الأنف والفم ، غائم العينين لا يكاد يرى صحراء قاحلة من الماضي السحيق يُستلُّ بها سيفان ؛ سالبٌ ومسلوب أو قاتلٌ و مقتول ! *** خرجتْ في زِيَّها (البيجي) من مدرسة (الأمان) للأساس ، والمغرب تتقاطع أصواتُ أذانها النديَّة ، وغلالة المغيب الصفراء تتنازل رويداً رويداً لتمكين الظلام ! صوتُ الدرَّاجة خلفها جعلها تفسح الطريق وهي تميل يميناً ؛فتميل معها الدرَّاجة في الاتجاه ذاته ..تميل يساراً حتى تلتصق بالحائط أو تكاد تميل ،فتميل الدرَّاجة كذلك ..وعندما ارتعبت ؛ انتهرها أحدُهم بصوتٍ غليظٍ وعينين متورِّمين من على متْن الدرَّاجة أنْ هاتي الحقيبة وإلاَّ شججْتُ رأسَكِ بهذا الساطور ..خارت قوى الساقين الغضَّتين وسقطتْ مغشيَّاً عليها ، ولكن ليس قبل اختطاف حقيبة يدها ،لتغيب الدرَّاجة البخارية اللعينة بين العجاج والدُّخان وشفق المغارب ! **** استدارتْ في ثوبها الأبيض وهي تقسم السبّورة إلى نصفين قبل أن ترسم بغلةً متعثِّرة وتُعلن عن انتهاء الدَّرْس ! في مكتب المدرسين كان التورُّم والاحمرار اللذان يلفَّان عُنقَها مشهداً أشبه بمحاولة الشَّنْق الفاشلة !ولكن الحقيقة أن الشيطانين الراكبين الدرَّاجة البخارية واللذين كانا يطيران بجوارها مساء الأمس وهي راجعة من عملها إلى البيت ؛بريئان براءةَ الذئب من دمِ يوسف من (تعمُّد) خنقها! إنَّ حِرْص المُدرِّسة وتحوُّطها لفعائل هذا الزمان ؛ جعلها تمتشق حقيبة يدها كالحسام المهنَّد ؛ لا على طريقة وضعها على الكتف إذ تسهل عملية الاختطاف أو النزْع المباغت من أذرع الدرَّاجة المجنونة ! فعندما اُخْتُطفتْ الحقيبة علِقَتْ برقبتها فسَحَلتها الدَّراجة أو كادت لولا أنَّ المُدرِّسة تخلَّصتْ من الحقيبة فداءً لنجاتها ! فما أسوأ أن تفكَّ رقبتَكَ ؛ لا مِن الأسْر والعبوديَّة ، ولكن من الموت الزؤام على يد (الهَمْبتة) الطولى داخل الحيِّ السكني نهاراً جهاراً !! ***** نَقْرَزة أخيرة : أنا وأنتَ وهم أيضاً يعلمون الكثير المُثير من هذا ولكن .. لا إثارة !! أنا وأنتَ وهم أيضاً نُتابع جميعاً مسرحية (الدّوكة الما بْتَحَمى ) دون أن تهمَّ بنا ضحكةٌ عابرةٌ أو نهمَّ بها ! لا تحاول النَّفْخ في قربةٍ مقدودة ولكن حاول رتْقها ! قيل : فإنْ لم تستطع ..قال : ( فاسكُت حاول آ زول ..الفورة مليون ) !!!!!