وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ ما أهمله التاريخ عن جنوب السودان (2) .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 08 - 02 - 2014

حركة وطنية سودانية أم حركات وطنية: تاريخ ما أهمله التاريخ عن جنوب السودان (2)
(أنشر على حلقات هذا المقال الذي سبق لمركز الدوحة للأبحاث ودراسة السياسات تضمينه في كتابه "جنوب السودان الفرص والمخاطر" (2012). وأعيد نشره قريباً في سلسلة كاتب الشونة. وجردت المقال هنا من هوامشه المرجعية لطبيعة هذا المنبر. ولكني سأنشر في نهاية الحلقات المراجع التي اعتمدت عليها. ومن طلب دقائق الهوامش رجع إلى المقال في بيئته الأصل.
في الجزء الأول جئنا بخبر الأستاذ عبد الخالق محجوب الذي رد على ذائعة الجنوبيين أن سائر الشماليين تركة الزبير باشا فلا تنتظر منهم خيراً. قال عبد الخالق إنه ربما نسي القائل هنا أنه نشأ بين الشماليين حزب شيوعي أخذ الأخاء الوطني أخذاً جميلا. وتساءلنا إن لم يكن قول عبد الخالق ذاك مجرد تجمل وتفاؤل لا يسنده واقع. وأجبنا بأن تفاؤل الرجل كان في محله. وبدأنا في عرض نضال الحزب والطبقة العاملة بعد الاستقلال لتطبيق مبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي لرفع أجور الجنوبيين التي بخسهم الاستعمار. وعرضنا للنظرية العرقية الاستعمارية والتبشيرية البيضاء التي اعتقدت أن الجنوبيين قبيل من سائر الزنج ممن يفسدهم النقد ويحجبهم عن الأكل خشاش الأرض. ويكفيهم من المال النذر. فلو كان من أساء للجنوبيين حقاً فهم الإنجليز الذين قامت سياستهم للأجور على تمييز للشماليين. وهذا ما احتشد الحزب الشيوعي كما سنرى لتغييره لتجديد الزمالة في الوطن. وسنرى كيف لقى الأمرين من حكومة الوقت الوطنية التي لم تخرج عن سقف حركة الخريجين وأمانيها حتى قلنا أن الحركة الوطنية حركات في واقع الممارسة لا حركة واحدة.
تاريخ للحركة الوطنية في جنوب السودان لا يرغب أحد في تبليغه:
أخذ تباين الأجور يؤرق المستخدمين الجنوبيين منذ الثلاثينات. وسنتجاوز الإضرابات العديدة التي قام بها العمال الجنوبيون لرد المظلمة لنركز على جانبين من جوانب نشأة الحركة النقابية المطلبية في الجنوب. سنصف أولاً نشأة جمعية رفاه الموظفين الجنوبيين التي تكونت في 1947 وجهادها في تحقيق مبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي. وسنتطرق أيضاً لأسباب التوتر الصناعي في أنزارا، حاضرة المنشأة الصناعية لمشروع الزاندي، في 1954- 1955.
بدأ الإنجليز في الأربعينات يعيدون النظر في سياستهم حيال الجنوب التي تقررت في 1930 وقضت بعزله عن الشمال. فعقدوا مؤتمراً بجوبا، حاضرة الجنوب، في 21 يوليو 1947 للتفاكر مع الجنوبيين، في ما إن كانوا على استعداد للقبول بالتطورات الدستورية التي رتبوها لإعداد السودان بأسره للحكم الذاتي ولكن من غير أن يحددوا ميقاتاً معلوماً. وكان الإنجليز يعلمون أن الجنوبيين غير ميالين ليكونوا طرفاً في مثلها. والتقى في المؤتمر مندوبون عن الشمال والجنوب اختارهم الإنجليز وبحضور موظفين منهم. واستغرب جيمس روبرتسون، السكرتير الإداري لحاكم السودان العام، كيف أن حفنة الأفندية الجنوبيين تخلوا بالكلية عن موقفهم في اليوم الأول باعتزال تلك التطورات الدستورية وغايتها في توحيد السودان. ثم جاء اليوم الثاني وقبلوا بها. وعبر في كتابه ( 1974) عن اقتناعه أن من كان السبب هو القاضي محمد صالح الشنقيطي، المندوب الشمالي النشط في ردهات المؤتمر، الذي تفاهم مع الموظفين الجنوبيين، دون مناديب زعماء القبائل، بتبني الشمال لمطلبهم بمبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي.
لم يقبل القوميون الجنوبيون اللاحقون أبداً بمقررات مؤتمر جوبا الذي تواضع على توحيد السودان، للصالح أو الطالح، بعد أن كادت سياسة الجنوب الإنجليزية أن تفصم عراه. ومن حججهم القوية على ذلك أن الشماليين خدعوا الجنوبيين وزجوا بهم في حظيرة الوحدة زجاً. وصار الشنقيطي في نظر هؤلاء القوميين شيطاناً رجيماً لدوره في إغراء أعضاء المؤتمر الجنوبيين بقبول وحدة القطر متجاوزين تحفظاتهم حول الوحدة التي صدعوا بها في أول يوم لإنعقاد المؤتمر. فقوميو يومنا في الجنوب لا يرون في مبدأ الأجر المتساوى قضية مستحقة يبني عليها سلفهم قراراً سياسياً مصيرياً. وبدا لهم تحول السلف من التحفظ على الوحدة إلى تبنيها صغاراً غير لائق وتهافتاً على خدعة شمالية باكرة. وبلغ هذا التأنيب للسلف حداً أضطر ستانسلاوس عبد الله بايساما، السياسي الجنوبي وعضو مؤتمر جوبا في 1947، للرد عليه في مذكراته التي نشرت من قريب (بلا تاريخ). قال بايساما إنه لا صحة للقول بأنهم خٌدعوا في لمؤتمر كما زعم روبرتسون. فالجنوبيون اذكى من أن يضلهم حتى فتى ماهر كالشنقيطي عن سبيلهم.
ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن تحول الجنوبيين من التحفظ على الوحدة إلى تبنيها كان درامياً. فشتان بين قولهم في أول يوم للمؤتمر إنهم أخوة قاصرين للشماليين لا دربة لهم على خوض بحر السياسة على قدم المساواة إلى استعدادهم في اليوم التالي للمؤتمر للقبول بالوحدة والخوض الصعب في ذلك البحر اللجج. وأخذ هذا التحول رئيس المؤتمر الإنجليزي على حين غرة ورغب أن يعرف من الجنوبيين سر الانقلاب. وبالطبع قام الإنجليز ب "تقسيس" (مصطلح في أخذ المرء عن عقيدته إلى أخرى) المناديب الجنوبيين قبل المؤتمر. وكان من رأي مفتش بريطاني بالجنوب أن ذلك التقسيس في محله خشية أن يتحول المؤتمر إلى مهزلة. ولا غلاط أن الشنقيطي كان نشطاً في داخل المؤتمر وفي أروقته. كان صوت الشنقيطي في الجلسات ربما صوت الحركة الوطنية الشمالية الجهير الوحيد حيال الجنوب الذي تجسد في هتافها المزمن: "لا تفريق لأمة واحدة يسقط يسقط الاستعمار" بإنجليزية مقفاة. وكان من وراء حجاب يناقش الأفندية الجنوبيين عن صفقة الوحدة ومستحقها.
وبدا أن الشنقيطي قد خاطب مظلمة غائرة ومٌعَذِبة لأولئك الأفندية ربما بدت قليلة الشأن لأجيالهم اللاحقة. ومهما يكن فقد كان البون بين الأجور في الشمال والجنوب شاسعاً. وكان حقاً. وكان مسيئاً. ونجد هذه المعاني دقيقة في خطاب كتبه القس المتقاعد أ أم قليسروب إلى روبرتسون، السكرتير الإداري، والدكتورة مارقريت بيرهام، أستاذة علوم الإدارة الإمبراطورية بأكسفورد، بعد زيارة للجنوب في 1948. قال فيه إن دافع الجنوبيين للقبول بوحدة السودان هو الحصول على الأجر المتساوي مع الشماليين. وبتحقيق هذا المطلب المهني سيتخلصون من الاستصغار وذهنية "العبد" التي انغرست فيهم من الشماليين الذين استعبدوهم في القرن التاسع عشر. وقال ولكن لهذا المسار، حسب قوله، مفآجاته. فمتى تساوى الجنوبيون مع الشماليين في الأجر افترقت دروبهم والتمس الجنوبيون من العالم أن أن يقف بجانبهم في مطلبهم بهوية وطنية مستقلة. ولن يبلغوا الغاية من هذه الهوية ومطلبها ما لم تطلق الحكومة يد التبشير والكنيسة في الجنوب لخمس سنوات قادمة.
تبنت جمعية رفاه الموظفين الجنوبيين مطلب مساواة الأجور في السودان المستعمر ونشطت لتحقيقه. وسنتناول هنا بصورة عريضة مساعيها لرد مظلمة أعضائها من تباين الأجور. وهذه الجمعية كأن لم تكن في نص تاريخ الجنوب الذي يذيعه القوميون الجنوبيون المعاصرون. فلا تجد لها ذكراً في الرواية التاريخية العريضة للجنوب باستثناء السياسي الكاتب لام أكول ربما. فقد تغاضي هؤلاء القوميون ومؤرخوهم عن جذور الحركة الوطنية الجنوبية المناهضة للاستعمار من فرط تركيزهم الدقيق على ضروب الظلم التي عانوا منها تحت ظل الحكومات الوطنية الشمالية في الخرطوم. وليس أدل على ذلك من أن كتابيّ محمد عمر بشير الرائجين عن مسألة الجنوب. (1968 و1975) ذكرا الجمعية مرة عرضاً في مقام تعديدهما للمنظمات الني نشأت في الأربعينات لتعبر عن الوعي الجنوبي السياسي. قال بشير عن الجمعية إنها نشأت في 1947 وانشغلت بأجور الجنوبيين ومواهيهم. ونسب لإضراب ناجح للجمعية الفضل في رفع الحكومة لمرتبات أعضائها. وجدير بالتنويه أن محمد عمر بشير لا يذكر تباين الأجور بين الشمال والجنوب إلا حين يقع حادث سياسي سعيد تتحسن بموجبه شروط خدمة الجنوبيين. وغير باد أنه اعتني يالديناميكية السياسية لذلك التباين الذي هو موضوعنا في هذه الكلمة.
ولعله من بؤس العلم حذف جمعية رفاه موظفي جنوب السودان من السجل التاريخي بالنظر إلى ما كتبه عنها جوزيف قرنق، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي وأول وزير للجنوب في دولة نميري (1969-1985) قبل شنقه في 1971 في أعقاب انقلاب عسكري أتهم الشيوعيين بالضلوع فيه. وعنوان كتابه هو "مأزق الإنتلجنسيا الجنوبية" جرى توزيعه سراً في أروقة الحزب الشيوعي وأعيد نشره في 1971 بواسطة وزارة شوؤن الجنوب. وهو كتاب مناسب ونافذ وذائع كان هو طرفاً في وقائعه.
تطرق الكتاب الصغير لطبيعة جمعية رفاه موظفي جنوب السودان المعادية للاستعمار على أنه لم يكتب لذلك الغرض أصلاً. كما وردت معارضتها لخرق الاستعمار لمبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي في كتاب سفرينو جألي (2000) وآخر لمحمد خير البدوي (2008). يَرجع جألي بالدافع لتكوين الجمعية إلى آخر الثلاثينات. ففي هذا الطور الباكر للجمعية اقتصر أفندية الجنوب على كتابة العرائض لمدير مديرية بحر الجيل (وحاضرتها جوبا) تلتمس رد مظلمتهم المهنية. وكان المدير وقحاً في رده عليهم. فقد فخر عليهم بطول وعرض مملكته (مديريته) التي يرقد فيها سلف أولئك الأفندية رقدتهم الأخيرة. ثم قال لهم ليحدث الحاضر الغائب أن المدير قد عَنٌف في توبيخهم على اجترائهم. وهذا كل ما ورد عن المذكرة.
تكونت لجنة الجمعية التمهيدية في 1947. ومما رواه جألي عنها بدا أن أفندية الجنوب ضاقوا بذلك الضيم المهني في الإجور. فحدثنا عن قدومه لجوبا من محطته وزيارته لحي "نمرة تلاتة" الذي يسكنه الموظفون الجنوبيون. ووضح له أن سكن عتالة ميناء جوبا الشماليين كان أميز من "نمرة تلاتة" ناهيك عن سكن نظرائه الموظفين الشماليين بالمدينة. وقادت هذه التفرقة الأفندية الجنوبيين لتكوين الجمعية في 1947 بمركز في جوبا وفروع في بلدات كبويتا وتوريت وياي وأمادي ومريدي ويامبيو (بمديرية بحر الجبل، الإستوائية لاحقاً وحاضراً) وملكال (مديرية اعالي النيل)، وواو (بحر الغزال). فتقدموا بعريضة في مارس 1947 إلى مديرية بحر الجبل لينظر في تظلمهم من شروط خدمتهم البائسة ومطلبهم بمساواة أجورهم مع الشماليين. وانعقد مؤتمر جوبا كما مر في يونيو من نفس العام. ويبدو أن نجاح الشنقيطي المزعوم في تحويل الأفندية الجنوبيين (وليس الأعيان الجنوبيين) من السلبية تجاه وحدة القطر إلى الإيجابية مردود إلى ملامسته حسنة التوقيت لتلك الظلامات والتزامه، كشمالي مميز، إلى التضامن مع الجنوبيين لتحقيق مبدا الأجر المتساوي للعمل المتساوي. ولكن الجنوبيين انتظروا وعد الشنقيطي طويلاً وما جاءتهم منه نأمة. وأضطر الموظفون الجنوبيون إلى الدخول في إضراب لثلاثة أيام في أكتوبر 1947 احتجاجاً على بؤس شروط خدمتهم. وأرسل الإنجليز كتائب من الفرقة الجنوبية لإرهاب المضربين وسكان المدينة. وألقوا القبض على بعض قادة الإضراب. ولكن أفراد الفرقة الجنوبية سرعان ما تغير رأيهم في مهمتهم بعد أن علموا ظلامة المضربين. فتلطفوا جداً في معالجة الموقف. ومعرفتنا بهذا الإضراب معين لنا لنفهم ما جاء عند روبرتسون من أنهم حسنوا من شروط خدمة موظفيّ الجنوب بعد مؤتمر جوبا. ومن الواضح أن ذلك التحسين احتاج لإضراب قبل أن يصبح واقعاً كما سنرى.
أما محمد خير البدوي، الموظف الشمالي بفندق الحكومة بجوبا في تلك الأيام، فقد حدثنا عن جمعية أكثر شمولاً مما سمعنا لوقتنا. فقال إنه كان عضواً بها وكذلك جماعة من الشماليين بالمدينة. علاوة على قوله بأن الجمعية قامت بأدوار إصلاحية لمجتمعها وفي التعليم. فهي عند البدوي بمثابة "مؤتمر خريجين" جنوبي على غرار مؤتمر الخريجين في الشمال الذي هو وعاء وطني ضم خريجي المدارس الإستعمارية الحديثة (الأفندية) التي جاء استقلال السودان ثمرة لنشاطاتها. ولكن كتاب البدوي انفرد بنشر نص الرسالة التي تقدمت بها الجمعية للحاكم العام. فقال إنه عربها والوقائع ساخنة في 1947 وهَرَّبها من جوبا لتنشرها جريدة "صوت السودان" في الخرطوم. واستغرب البدوي في كتابه لأنه لم يجد ذكراً لهذا الخطاب في الكتب عن تاريخ جنوب السودان سوى عند محمد عمر بشير. ولم يٌعين البدوي كتاب البشير الذي ورد ذكر العريضة فيه. وقد بحثت في كتبه التي عالجت مسألة الحركة الوطنية وتاريخ التعليم ومسألة الجنوب ولم اقع على إشارة للعريضة بها. ولم أجدها في كتابه عن التعليم في السودان (1969).
وتجسدت بوضوح بذور مناهضة القوميين الجنوبيين للاستعمار في عريضتهم للحاكم العام التي جاءت عند البدوي. وبرز منها ثلاث:
أ‌) لا يصح أن يصرف الإنجليز مطلبهم بالأجر المتساوي للعمل المتساوي بذريعة أن الجنوب متخلف. فالسودانيون الجنوبيون مواطنون سودانيون ووجبت السوية بينهم والآخرين بغير أعذار. من جهة أخرى قالت المذكرة إن الزعم بأن الجنوبيين سينفقون زيادات أجورهم على الخمر باطل. فقد تبعزقها القلة سكراً وسينأى عن ذلك المنزلق كثيرون. فالسكر مشكلة تعاني منها ألأمم صغير وكبيرها وأوحى مقدمو المذكرة بذلك أنه لمن الوصاية المفرطة أن ينصب كائناً من كان نفسه حكماً أخلاقيا على هذه المعضلة الكبرى الفاشية.
ب‌) احتج أهل العريضة على قسمة البلد إلى شمال وجنوب في المقام الأول. وحمَّلوا الإدارة الإنجليزية وزر ذلك التقسيم الذي لم يسمعوا به في بلدان أخرى. وقالوا إن الجنوبيين سود البشرة حقاً ولكن سحنة كثير من الشماليين ليست أقل سواداً. ولا تثريب فدماء الجنوبيين تتخللهم. واحتجوا على الإنجليز بخفض أجورهم قياساً بالشمال بذريعة أن العيش في الجنوب سهل ميسور. ونبهوا إلى أن العيش في أرياف الجنوب والشمال معاً ميسور سهل. ولكنهم، كموظفين، يعيشون في الحضر الجنوبي المكلف ويريدون أجوراً مساوية للشماليين.
ت‌) وطالبت العريضة بتساوي فرص الجنوبيين في التعليم مع الشماليين. واحتجت على خطيئتين أساسيتين في تعليم الجنوب. أولهما ترك التعليم كله بأيدي الإرساليات المسيحية وثانيهما إبتعاث الجنوبيين ليوغندا لتلقي تعليمهم العالي. وأتخذ الإجراءان في سياق "سياسة الجنوب" (1930) التي تبناها الإنجليز لإدارة جنوب السودان بمعزل عن شماله حتى يأتي الوقت لتحديد هويته كما تقدم. وكان حدس الإنجليز لدى وضع السياسة أن يضموه إما لكينيا او يوغندا. وعليه لم يٌدَرس الإنجليز العربية في مدارس الجنوب استعداداً لليوم الذي يفترق شقا البلد كل إلى مأوى ثقافي يأويه. وهاجمت مذكرة الجمعية هذه السياسة من كل جانب فيها. فطالبت بفتح مدارس حكومية لأنه ليس بوسع الإرساليات الصرف على تعليم واسع حسن للجنوبيين. فحتى حين وفرت ذلك التعليم فرضت رسوماً فوق طاقة الأسر. أما يوغندا فلم تأخذ من طلاب الجنوب إلا النذر لمعيارها البخيل في قبولهم بمدراسها. فقد عاد منها طلاب جنوبيون كثيرون سعوا إلى مدارسها صفر اليدين. وطالبت العريضة بتدريس اللغة العربية في مدارس جنوب السودان لتمكين خريجيها من مواصلة تعليمهم العالي بوطنهم بدلاً من تكففه في الخارج.
والتمست العريضة من الحاكم العام أن يٌرقي مستوى معيشة المستخدمين الجنوبيين ليشجع الأسر على إلحاق أبنائها وبناتها بمدارس الجنوب. فهذه الأسر، متى شاهدت عيش اولئك الموظفين على الكفاف، ستمتنع من دفع بناتها وأولادها في طريق عاقبته غير سارة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.