د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    السجن لمتعاون مشترك في عدد من قروبات المليشيا المتمردة منها الإعلام الحربي ويأجوج ومأجوج    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الملك رَحِمْةَ الله بن الملك محمود بن الأمير على بن الأمير إبراهيم الدادنقاوى .. بقلم: د. حسين آدم الحاج
نشر في سودانيل يوم 22 - 02 - 2014

الملك رَحِمْةَ الله بن الملك محمود بن الأمير على بن الأمير إبراهيم الدادنقاوى.. ملك الفاشر
(1918 – 2014)
دكتور حسين آدم الحاج
[email protected]
إنْكَسَرَ المِرِقْ واتْشَتَتَ الرّصَاصْ *** وإنْهَدَم الرُكْنُ الكان بِلِمَ النّاسْ
لم نفق من صدمة وفاة الدكتور يحيى محمد محمود الملك فى نهايات شهر يونيو من العام المنصرم إلاّ وقد فُجعنا بوفاة عمّه الملك رَحِمْةَ الله محمود ملك الفاشر ورائد الإدارة الأهليّة بدارفور،، مضى والدنا وأبونا وقائدنا ومليكنا إلى رحاب ربّه راضياً مرضياً عنه موعود من ربّه بأن يدخلنّه فى جناته ورحمته فيا أيتها النفس المطمئنة إرجعى إلى ربك راضيّة مرضيّة فادخلى فى عبادى وأدخلى جنتى،، برحمته ومشيئته تعالى، وما علينا إلاّ الصبر والترحم (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ] )البقرة/154-156(.
كلُّ ابنِ أُنْثى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ *** يوماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ
(كَعبِ بنِ زُهَير)
ولقد عَلمْتُ لتأتينَّ مَنيَّتي *** إنَّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُهَا
(لبيد بن ربيعة)
لقد عمّ الحزن الجميع من أهل الفاشر خاصة ودارفور عامة ومعارفه حول أطراف المعمورة وخرجوا زرافات ووحدانا بالعاصمة نحو مقابر أحمد شرفى لتشييعه فى صبيحة الثانى عشر من هذا الشهر فبراير (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وفى دارفور تدافعت الوفود والمواكب صوب غرة المدائن مدينة الفاشر معزين بدموع صادقة، وإنعقدت ألسنتهم فلم يجدوا سوى اللهَ ملجأً بدعاء صادق ودمع ثخين،، ولئن خبروا الموت فى حاضرهم وماضيهم، فى مدنهم وقراهم، فى سهولهم وجبالهم فإنّهم فى يومهم ذاك وكانّهم يشعرون به أول مرة،، كيف لا وقد مضى كبير قوم وعزيز ملأ ورائد سلام ووئام وتعايش سلمى فى كل ربوع الوطن،، وقد إتصل بى شقيقى هاتفياً من الفاشر صبيحة يوم الوفاة ينقل إلىَّ الخبر الأليم فتحسبت الله سبحانه وتعالى وإتصلت فوراً بالخرطوم للتأكد من الخبر فقال لى محدثى على الطرف اللآخر لقد عدت من السترة قبل قليل وقد كان.
نعم،، إنكسر المِرِقْ واتشتت الرصاص حليل الملك الكان بلم الناس،، وإذا كان أهل المدينة والإقليم يرون أنفسهم يفتنون فى كل عام مرات ومرات، والموت يحيط بجنبات حيواتهم، وكبارهم يتناقصون شخصاً فشخصا فقد تمثل لسان حالهم ب:
دَبّ فيَّ الفَناءُ سُفْلاً وعُلْوَا *** وأراني أموتُ عُضْواً فعُضْوَا
(الحسن بن هاني، أبو نواس)
يموت جزء منك حين يموت لك شخص عزيز، هذا ما عناه أبو نواس بقوله (وأراني أموتُ عُضْواً فعُضْوَا) فكيف يكون الحال بموت زعيم وملكٍ كان رأس أمرٍ ودليل قومٍ.
عندما بدأت كتابة هذه المرثيّة بحثت عن أبرز مرثيات الشعر العربى فلم أجد أبلغ من أبيات مرثيّة الشاعرة الخنساء (رضى الله عنها) ترثى أخاها صخراً تتناسب ومكانة وعلو مقام الملك رَحِمْةَ الله بما تحويه من معانى ودلالات:
وَإِنَّ صَخراً لَوالِينا وَسَيِّدُنا ** وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشْتُو لَنَحّارُ
وَإِنَّ صَخراً لَمِقدامٌ إِذا رَكِبوا ** وَإِنَّ صَخراً إِذا جاعوا لَعَقّارُ
وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِهِ ** كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ
وقد كان الملك رَحِمْةَ الله حسبه كذلك، وقد ورد من بعض الرواة بأنّ هذه الأبيات للخنساء تعتبر الأبلغ تعبيراً فى مراثى الشعر العربى إذ جمع أيضاً بين الرثاء والمدح البليغ.
الملك رَحِمْةَ الله هو إبن الملك محمود بن الأمير على بن الأمير إبراهيم الدادنقاوى من مواليد مدينة الفاشر، وُلد فى بيت مُلك فى العام 1918م أى بعد نحو عام وقليل من ضم دارفور رسمياً إلى دولة السودان فى 1 يناير 1917م بمرسوم من الحاكم العام البريطانى بالخرطوم بتوصيّة من مجلس العموم البريطانى وِختم ملك بريطانيا العظمى وإيرلندة الملك جورج السادس كإضافة إلى إمبراطوريته التى كانت لا تغرب الشمس عنها، وكعادة تعامل البريطانيين مع أبناء الزعامات القبليّة والإدارات الأهليّة بعد إحتلالهم للسودان فقد بدأ تعليمه بالخلوة التى حفظ فيها أجزاءاً كثيرة من القرآن الكريم، شأنه شأن أطفال دارفور فيما مضى وإلى اليوم، قبل أن يكمل تعليمه الأولى بمدرسة الفاشر الأوليّة الصغرى التى أسسها الإنجليز عام 1916م وكان مخصصاً لأبناء الزعامات القبليّة، تابع بعدها دراسته فى معهد بخت الرضا بولاية النيل الأبيض تخرج فيه مدرساً فى عام 1935م ولم يتجاوز عمره آنذاك سبعة عشر ربيعاً، ذات التجربة مرّ به زعيمنا السياسى الكبير الشرتاى أحمد إبراهيم دريج فقد لاحظ المفتش الإنجليزى بزالنجى نبوغه منذ صغره وأقنعه بالتنازل عن منصب الشرتاويّة، الذى كان فى إنتظاره، للتدرج فى مسالك التعليم فإلتحق أيضاً ببخت الرضا قبل أن يواصل تعليمه الثانوى فالعالى، وبالنسبة للملك فقد تمّ تعيينه مدرساً بأم كدادة فى شرق دارفور عقب تخرجه، وأم كدادة هى أول مركز إدارى بدارفور أسسه الإنجليز حتى قبل الفاشر نفسها نسبة لدخولهم دارفور من ناحيتها، لكن ونسبة لصغر سنه فقد إقترح أخوه الملك محمد (دُبُج) أن يعمل كاتباً وشرتاى فى محكمتة بقريّة قوس بينة جنوبى الفاشر حيث إكتسب سمعة عطرة كوسيط يحكم بالعدل والنزاهة بينما كان شقيقه الملك محمد يقيم بمحكمته بالفاشر، وكانت تلك أولى خطواته فى مجال الإدارة الأهليّة أى أنّه بدأ صعود سلمها من القاع الأمر الذى أكسبه الكثير من الحكمة وحسن الإدارة من خلال التجارب العمليّة وتراكمات العمل وصقل الممارسة،، ونتيجة لنيّة شقيقه الملك محمد أداء فريضة الحج فى عام 1943م فقد إستدعاه للفاشر لينوب عنه فى الملك ويدير محكمته أثناء غيابه لكن كانت أقدار الله أن يتوفى الملك فى المدينة المنوّرة أثناء الحج عام 1944م نتيجة للرحلة الشاقة من دارفور إلى أرض الحجاز والتى كانت تتكلف نحو أكثر من شهر من السفر فخلفه شقيقه رَحِمْةَ الله فى الملك وعمره ست وعشرون سنة لكنّه، وعلى خلفيّة تجربته فى محكمة أخيه، فقد كان مستعدا لمهمته الجديدة بتركيز وفهم عميقين.
فى مرثيّتى السابقة للمرحوم الدكتور يحيى محمد محمود الملك ذكرت أنّ (أغلب الظن أن إسم الدادينقا مستخرج صفة لكلمة "دادا" فى لغات دارفور القديمة ومعناه مربو أبناء السلاطين)!!،، فى مكالمة هاتفيّة مع الأستاذة نفيسة محمد محمود الملك، شقيقة دكتور يحيى، أفادتنى أنّ جدّها الثانى "الأمير على" والد الملك محمود كان معلم ومربى السلطان إبراهيم قرض سلطان دارفور الذى أطاح الزبير باشا بعرشه وهذا يسند إفادتى أعلاه والذى إستقيته من مصادر مستمدة من روايات شفاهيّة عن تاريخ دارفور، وزادت الأميرة نفيسة أنّ جدّها الثالث "الأمير إبراهيم" والد الأمير على وجِدّ الملك محمود كان من أبرز قوات جيش السلطان تيراب وحامل سيفه عند غزوه لسلطنة المسبعات فى كردفان، لذلك أرى ضرورة التوثيق وقد أشرت لذلك فى مقالات سابقة فمعلومة صغيرة بإمكانها إضاءة حقائق هامة فى كهوف التاريخ المظلمة.
على نحو 78 عاماً منذ تدرجه فى سلك الإدارة الأهلية ومدى 70 عاماً منذ تسنمه الملك تولى ملك الفاشر أعمالاً كثيرة وعاش حياة حافلة متنوعة فى كل العهود التى مرت على السودان مع المستعمر الإنجليزى إلى فترة التحرر والإستقلال إلى فترات الحكم الوطنى ممثلاً فى حكوماتها الحزبيّة والعسكريّة تقلب خلالها فى المناصب ونال التقديرات والإمتيازات المختلفة منها:
* عضو مجلس المديريّة لمديريّة دارفور فى كل تكويناتها منذ منتصف الأربعينات وإلى بداية السبعينات عند حل الإدارة الأهليّة
* عضو الجمعية التشريعية، 1948
* عضو برلمان السودان الأول عقب إنتخابات 1953 عن حزب الأمّة
* شارك فى إحتفاليّة ورفع علم الإستقلال، أول يناير 1956
* عضو برلمان السودان الثانى عقب إنتخابات 1958 عن حزب الأمّة
* تمّ منحه زى الشرف الوطنى عام 1975
* تمّ منحه زى الشرف الوطنى مرة أخرى عام 1982
* تقلد ثلاثة أوسمة وطنيّة للجدارة والخدمة
* حصل على العديد من الشهادات والميداليات القوميّة والمحلية بدارفور
محكمة الملك بالفاشر كانت معلماً بارزاً من معالم المدينة إذ كانت مبنيّة من الطوب الجيرى الأبيض مطليّة بها أيضاً، وقد صُمم على الطراز التركى فى شكل برندة طويلة تمتد من الشرق إلى الغرب بحوالى ثلاثين متراً تقريباً مستندة على مداخل فى شكل أقواس فى واجهتها الجنوبيّة المطلة على ميدان النقعة بينما توجد غرف المكاتب فى مؤخرتها من الناحيّة الشماليّة وجنباتها الشرقيّة والغربيّة،، وللأسف فقد تمّ إحتلالها وتحويلها كرئاسة للإتحاد الإشتراكى السودانى فى عهد النميرى بعد حل الإدارة الأهليّة عام 1972م إلى نهايّة السبعينات حين أزيلت كلياً لتنشأ مكانها أمانة وقاعة لمجلس الشعب الإقليمى فى مطلع الثمانينات ومقر حاكم إقليم دارفور فى مطلع التسعينات ليتم تجديدها وتوسيعها مرة أخرى بعد ضم مبانى مركز الشباب إليها وتحتضن اليوم المجلس التشريعى لولاية شمال دارفور ومكاتب المؤتمر الوطنى وحكومة الولاية. المؤلم فى هذه التغييرات هو عدم الإنتباه للقيم التاريخيّة لموروثاتنا إذ أنّه بزوال هذا المبنى الأثرى فقد إنتهى أمره إلى غرفتين صغيرتين فى ساحة صغيرة أمام مبنى القضائيّة شرقى سينما الفاشر وإنحسرت معها نتيجة لذلك تلك الهيبة التى كانت تميّز محكمة الملك والإدارة الأهليّة لتنهار هذه الأخيرة تماماً فى الآونة الأخيرة تاركة فراغاً عميقاً لم تستطع الأجهزة الحكوميّة ملأها يشهد على ذلك الفشل المستمر فى حل الأزمة الناشبة بدارفور منذ ما قبل العقد المنصرم.
لقد أنشأ الإنجليز هذه المحكمة مباشرة بعد ترتيب إحتلالهم لدارفور وعيّنوا الملك محمود الدادنقاوى رئيساً لها عام 1916م وقاضياً لخلافات الأهالى وترسيخ الأمن، ولما كان الملك محمود من منطقة قوس بينة جنوبى الفاشر حيث تبعد بضع كيلومترات عنها فقد تمّ تعيينه ملكاً لكل المنطقة بما فيها الفاشر نفسها فى محاولة ذكيّة من الإنجليز تعويض الأهالى غياب السلطان وإستشعارهم بوجود خلفاً له وإدارة أهليّة يعرفون التعامل معها، كما أنّهم طبقوا سياسة للحكم فى كل السودان بأبسط التكاليف من خلال الإدارة الأهليّة، والإنجليز أهل سياسة، خاصة وأنّ الملك محمود كانت له هيبة عظيمة وإحترام عميق عندهم كما ذكرنا فى مقال سابق، وقد خلفه فى محكمته إبنه الملك محمد ثمّ رَحِمْةَ الله ومن هنا جاء لقب "ملك الفاشر".
كانت محاكم الإدارة الأهليّة ومنها محكمة الملك تتمتع بسلطات واسعة فى الحكم المحلى تتعلق بحل الخلافات المعقدة فى المواريث والديون والأراضى والبهائم والمزارع والبيوع والحواكير والأحوال الشخصيّة كالزواج والطلاق والنفقة وقضايا الخمور، وتشبه تعقيدات قضاياها جوانب من قصص المحاكم فى المسلسلات الدراميّة التلفزيونيّة الحاليّة، كما إنّ الملك كونه ملكاً فأنّه يرأس شعباً ذو تركيب إجتماعى وقبلى وطبقى معقد ويشرف على زعماء شتى للقبائل من شيوخ وعمد وشراتى، وعادة ما يلجأ الناس، خاصة فى القرى والأرياف والبوادى، إلى رؤساء تلك القبائل لحل الخلافات البسيطة بينهم أو لتسويّة أمور أعقد تتعلق بالأموال والديون والحواكير وقد يكتفى المتخاصمون بقضاء الشيوخ والعمد فى قراهم أما إذا تعقدت الأمور وسالت دماء أو فُقدت رقاب فيجب عليهم أن يتقاضوا عند محكمة الملك أو محاكم الولاية الأخرى،، بجانب ذلك فقد نشط الملك فى مجالات الصلح القبلى على مستوى السودان وظلّ عضواً ثابتاً فى لجان الجوديّة التى تكونّها الحكومة لدرء النزاعات القبليّة خاصة فى دارفور وكردفان ومن أجل ذلك ظلّ دائم الترحال بين الفاشر والخرطوم وأنحاء غرب السودان باذلا جهده ووقته وصحته وإلتزاماته المحليّة والأسريّة مستخدماً آليات الجوديّة والأعراف للتوفيق بين القبائل من أجل تحقيق التعايش السلمى والوفاق الإجتماعى.
إنّ أهم ما كان يميز الملك هو التواضع الجم والإحترام والحنين للكبير والصغير فقد كان تعامله أبوى وعفوى وشعوره أنّه أبو الكل وليس ملكاً فقط، ويتمتع بسعة الصدر خاصة فى محكمته كأساس للحكم العادل ولم نسمع يوماً بشخص يقول بأنّ الملك قد ظلمه فى حكم من الأحكام، وقد عرفته منذ طفولتى قبل دخولى المدرسة الإبتدائيّة إذ كنت أذهب إلى خلوة خالى المرحوم الفكى عبدالمجيد بجامع الفيزان المواجه لبيته لحفظ القرآن فكنت أتسكع الطريق من منزلنا فى وسط المدينة إلى الخلوة شأن الأطفال ماراً بمحكمته (لأطقع) بعض ثمرات شجرة تمر هندى نمت بالقرب من حائط المحكمة أو أشجار النبق أمام مبنى البوستة، وفى بعض الأحيان كانت والدتى ترسلنى إلى مزرعته فى رهد الفاشر عندما تنحسر عنها المياه حيث يقوم عماله بزراعتها بمختلف أنواع الخضر لأحضر لها بعض قطع الفجل الرطب تقوم بفرمه وإستخلاص ماءه يستعمله جدى لتنقيطه فى عينيه إذا أصابه رمد مثل القطرات الطبيّة اليوم، فقد كان رجلاً قوياً مشى برجليه من بلدته فى جديد السيل جنوب شرقى الفاشر حيث بايع الإمام المهدى فى الأبيض وإلتحق مع جيش حمدان أبو عنجة وكان من العشرة الذين تحلقوا حول الإمام حينما خاض البحر فى أبو سعد لحظة فتح الخرطوم وقاتل فى كررى ثمّ عاد إلى دارفور مشياً على الأقدام، إنتقل إلى الرفيق الأعلى عن عمر ناهز 106 سنة وكان يقرأ كتبه الصفراء، التى لا زلنا نحتفظ بها، حتى نهاية حياته دونما حاجة لنظارة طبيّة ولم يصبه شيئ من المرض سوى الكساح فى مؤخرة عمره، عليه رحمة الله تعالى.
فى نهايّة الثمانينات زرت الفاشر قادماً من أمريكا، وكالعادة بعد لزوم الضيافة والسلام فى الأيام الأول وفى كل مرة عقب عودتى أقوم وبتوصيّة من الوالدين بجولات العزاء والتهانى فى أرجاء المدينة بجانب برنامج خاص من عندى لزيارة كبارنا من أهل الفاشر، خلال ذلك توقفت عند بيت الملك بعد زيار للشيخ إسحق إبراهيم أبو التعليم فى دارفور، فإستقبلنى بدفء وحبور طاغى إذ كنا قبل ذلك نستضيفه فى ندواتنا بمركز شباب الفاشر ولم يكن يبخل علينا بشيئ من علمه وخبرته فإستضافنى فى ديوانه المرصع بالصور التاريخيّة والنياشين والكساوى الشرفيّة ومكتبة تحوى أمهات الكتب الدينيّة والتاريخيّة وتقارير مختلفة عن الإدارة الأهليّة،، بعد الزيارة خرج معى يودعنى إلى طرف الشارع فهمست له بأنّ لدىّ رغبة فى الإطّلاع أثناء عطلتى على كتاب "كررى" للمرحوم الرائد عصمت حسن زلفو، وهو كتاب مرجعى أعده المؤلف للحصول على درجة الماجستير فى العلوم العسكريّة، رأيته فى مكتبته وكان معدوماً فى ذلك الوقت بعد نفاذ الطبعة الأولى منه، فوعدنى خيراً،، بعد أيام توقف عند منزلنا يقود عربته اللاندروفر فى طريقه لعزاء فى داخل الحى فصادف وجود والدى عليه رحمة الله عند الباب وناوله الكتاب محذراَ بقوله: الكتاب دة من يدك ليد إبننا الدكتور! دلالة على أهميته وقد حاول الوالد جهده إستضافته فلم يفلح فدخل البيت وسمعته قادماً جهتى يردد بإعجاب: ملِك، ملِك، ملِك، وناولنى الكتاب قائلاً الملك بقول الكتاب دة من إيدى لإيدك وخرج وهو يردد ملِك، ملِك، فقلت له ملِك بن ملِك بن ملِك فردّ بقوة "أيوة"،،، إستمتعت بقراءة الكتاب وأعدته له عند نهاية عطلتى لكن عند عودتى الخرطوم ساعدنى صديقى الدكتور محمد آدم عبدالكريم والذى كان نائباً فى البرلمان ممثلاً لدائرة الفاشر جنوب حزب أمة فى الحصول على نسخة منه أضفتها لمقتنياتى التوثيقيّة، وهكذا كان الملك.
ومَكارمي عَدَدُ النُّجوم ومنزلي *** مَأْوَى الكرام ومَنزلُ الأَضْيافِ
(أبو فراس الحمدانى)
لقد ناديت فى مقالى السابق بضرورة التوثيق الجيّد والعميق لحياة وتجربة الملك رَحِمْةَ الله وغيره من عظماء دارفور،، أما وقد رحل الرجل فإنّه يبقى من الواجب توثيق حياته وتكريمه بصورة مركزة، فقد ترك الرجل ذخيرة نادرة من المقتنيات التى لا تقدر بثمن بجانب وثائق وملفات فائقة الأهميّة وصور وأوسمة شتى تعتبر فى حد ذاتها تاريخاً يمشى، هذه الأشياء لا بد من أن تُحفظ بصورة علميّة مع إمكانيّة توفيرها للباحثين والمؤرخين وجموع المواطنين وفى هذا لا أستكثر إذا ما إقترحت إنشاء متحف بإسم (متحف الملك للإدارة الأهليّة والحكم المحلى) لكنّى لا أستغرب أيضاً أن يسخر البعض من هكذا مقترح لأنّ طبيعة فهمنا المتخلف تجاه مثل هذه المبادرات وعلى مستوى السودان يبدو قاصراً عن تفهم أثر هذه المشاريع فى دعم الثقافة والمواطنة والتاريخ ودعم المرتكزات الإجتماعيّة والتراثيّة ورفع درجات الإلهام والتى تمثل جزءاً لا يتجزأ من بناء أمة قويّة متماسكة معتزة بتاريخها وتراثها، ولذلك نجد فى البلدان المتحضرة مئات المتاحف كثير منها متخصصة فى مجالات محددة ومصر القريبة ليس منا ببعيد إذ توجد فيها مئات المتاحف العامة والخاصة وللشخصيات القوميّة المشهورة مثل متحف أحمد شوقى، متحف محمود سعيد، متحف جمال عبدالناصر، متحف الدكتور طه حسين، متحف حسنى مبارك، متحف مصطفى كامل، وغيرها.
فى دارفور لدينا اليوم متحف واحد هو متحف دارفور الذى تحتضنه قصر السلطان على دينار وبارك الله فى السيّد الطيّب المرضى محافظ شمال دارفور الأسبق والحاكم المكلف لدرافور الكبرى فى مطلع الثمانينات لجهوده فى إنشاء هذا المتحف بمساندة قويّة من الملك رَحِمْةَ الله،، وبالرغم من تقاعس الجهود لترميم ذلك القصر والمتحف والعرض التركى الذى ما زال قائماً بشأنه إلا أنّ المسؤولين المحليين ظلوا يتعاملون مع الأمر بلا مبالاة وكأنهم غير معنيين بها. كذلك السلطان سعدالدين عبدالرحمن بحرالدين سلطان دار أندوكة كان قد تبرع بقصر والده والذى أشبه بقلعة على رأس جبل فى مدينة الجنينة لتحويله إلى متحف بمناسبة إختيار مدينة الجنينة عاصمة للثقافة السودانيّة للعام 2011م،، الوعد بهذا التبرع لم نسمع شيئ بشأنه حتى اليوم أو عن أىّ خطوة عمليّه لتنفيذه، وهناك عشرات الأمثلة من الأمكنة والشخصيات التى يمكن أن تنشأ لها متاحف ترفد الثقافة الدارفوريّة والسودانيّة بالمخبؤ من درر التاريخ والتراث خاصة وأنّ الكثير من الوثائق والتحف التاريخيّة الخاصة بدارفور إندثرت وإلى الأبد فى هذه المحرقة المستعرة،، وكمثال لأهميّة مثل هذه المشاريع فقد زرت متحف المطربة السيّدة أم كلثوم قبل عامين فى قصر المانسترلى بالقاهرة وقد تمّ إفتتاحه فى ديسمبر 2001 فهالنى وجود كامل أعمال المطربة من الصور والأغانى والأفلام السينمائيّة التى مثلتها فى باكر عمرها وسيرتها الذاتيّة المفصلة ومقابلات صحفيّة وتلفزيونيّة وقصاصات صحفيّة مكتوبة عنها بجانب المئات من الكتب والرسائل الجامعية والمجلات عن فنّها ومطبوعات أجنبيّة وجميع الأوسمة والقلادات والميداليات والشهادات التى حصلت عليها من كل العهود المصريّة التى عاشتها بجانب أنّها مثلت جزءاً هاماً من تاريخ الفن الغنائى المصرى والعربى وإضافة حقيقيّة للتراث الفنى والغنائى لمصر،، إذاً ما الذى ينقصنا أن ننشئ متحفاً للملك تعرض كل مقتنياته وإنجازاته فى مجال الحكم والإدارة؟؟ فقط نحتاج لقليل من الخيال وهذه بعض إشكالياتنا فى عالم اليوم إذ أنّ غياب ذلك يعنى عدم القدرة على المبادرة والإبداع الخلاق وإنعدام الرؤى، وإذا لم يتوفر دار منفصل لمثل هذا المتحف فقاعة واحدة بمتحف السلطان بالفاشر قد يفى بالغرض صوناً لتلك المقتنيات من التسرب والضياع، وعليه أدعو أسرة الملك وركائز مجتمع الفاشر تضافر جهودهم فى تحقيق هذا الحلم فى أقرب الآجال، وعليهم أن يضغطوا على الوالى محمد عثمان يوسف كبر الذى لقب نفسه بالسلطان ويربى الغزلان فى قصره أن يشرف شخصياً وبنفسه على هذا المشروع ويرأس لجنة خاصة بذلك كما رأس الملك رحمة الله نفسه اللّجنة التى أشرفت على تحويل قصر السلطان إلى متحف، كما أدعو أخى وصديقى الأمير/الملك محمّد الملك وريث والده بجانب أشقاءه الأمراء مصطفى ومهدى وصديق وبقية العقد من إخوانهم وأخواتهم الأمراء والميارم أن يولوا هذا الأمر إهتمامهم الخاص ويجمعوا إرث الملك وحفظه فى حيّز مكين من الضياع ويقودوا تنفيذ هذا المقترح بجد وهمة وسيتداعى كل أهل الفاشر ودارفور لمساندتهم ونحن من ورائكم وبالله التوفيق.
على قَدْر أَهْلِ العَزْم تأتي العزائمُ *** وتأَتي على قَدْرِ الكِرام المكارمُ
(أبو الطيب المتنبئ)
رحم الله الملك رَحِمْةَ الله فقد إنهدّ ركن ركين من مجتمع الفاشر ودارفور، كان قامة لوحده وأحد رجالات الادارة الأهليّة المشهود لهم بالحكمة والوطنيّة ورئيس المحكمة الأهليّة بالفاشر، ونحن إذ نعزى فيه أنفسنا فكذلك نعزى فيه أهل دارفور عامة، وأهالى مدينة الفاشر خاصة، وأهلى بحى الدادينقا بالأخص، وإلى أسرته الكبيرة فى الفاشر والخرطوم وخارج السودان، ونسأل المولى عزّ وجلّ أن يتغمده برحمته ويدخله جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا،، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
19 فبراير 2014


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.