( 1 – إلى أن يتحقق استقلال القضاء ) لما توفي القاضي المصعب بن عمران ، بعث الأمير الحكم بن هشام الأموي ، إلى القاضي محمد بن سعيد بن بشير ليوليه القضاء بدلاً عن المصعب ، فخرج القاضي بن بشير في طريقه إلى صديق له يستشيره في ذلك ، فقال له صديقه :- " أسألك عن ثلاثة أشياء أصدقني فيها " ، وكان منها :- " كيف حبك للمدح والثناء ، وكراهتك للعزل وحب الولاية ؟". أجاب القاضي بن بشير:-" والله ما أبالى في الحق من مدحني أو ذمني ، وما أفرح للولاية ولا أستوحش العزل " فقال له صديقه :- " إذاً أقبل على القضاء ". لا أظن أن مولانا حيدر قد عرج وهو في طريقه إلى القصر الجمهوري ، على أي من أصدقاءه الكُثر مستشيراً ، كما فعل مولانا بن بشير ، فللسلطة بريقها وسحرها ونحن نعيش في غير زمان القاضي بن بشير ، وقد أوردت الواقعة لمجرد التذكير بفهم سلفنا الصالح لحرمة ومكانة القضاء ، لكن إذا لم يكن مطلوباً من حيدر أن يكون استثناءً على أهل زمانه في حبهم للسلطة ، فإن المطلوب منه هو أن يكون استثناءً عليهم في القيام بواجباتها ، خاصة والأمر يتعلق بسلطة قال فيها رسولنا الكريم :-" من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين " – " يُجاء بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من صنوف السؤال ما يجعله يقول يا ليتني لم أحكم بين اثنين في ثمرة قط " هذا فيما يتعلق بمنصب القضاء ، فما بالك بمن يتولى منصب قاضى القضاة ؟؟؟. و يظل الأمل معقوداً على مولانا حيدر ، كما عقدناه على سلفه ، فنحن أصحاب حاجة وصاحب الحاجة ملحاح ، يطرق كل الأبواب ويجرب كل الناس ، غير أننا نحمد الله كثيراً ، أنها ليست بحاجة شخصية لكنها حاجة جميع أهل السودان في أن يخرج هذا البلد من هذه الغمة سالماً معافىً ، ويزداد الحمد بنعمة الصبر ونبذ اليأس ، بما يجعلنا نرفع لمولانا حيدر ذات رسالتنا للسيد رئيس القضاء السابق ، التي رفعناها له ضمن عدة رسائل لآخرين ، وجميعها ولله الحمد ، لم يجد أي حظ من الاستجابة ولم نخرج منه إلا بحفاوة الاستقبال وكرم الضيافة وبابتسامة بلا مدلول ، كان يوزعها على الناس بعدالة ، وللأسف عند هذا الحد ستنتهي سيرته . ومن عجب أننا لا زلنا نعيش في ذات المناخ السياسي والعدلي الذي صاحب تعيين السيد رئيس القضاء السابق وما انهالت عليه من نصائح ورسائل ، وإذا كان الحال قد ازداد سوءً وتعقيداً بما استوجب على السلطة محاولة البحث عن المخرج الآمن بطرح الحوار وصولاً إلى ما يتراضى عليه الناس ، فان الحاجة إلى مخاطبة السيد رئيس القضاء الجديد تصبح أكثر ضرورة ، لما يجب أن يكون للقضاء من كلمة و دور رائد في مثل هذه المرحلة . إننا ندرك حاجة النظام إلى تلميع صورة القضاء بان يسترد شيئاً من عافيته ، وبطبيعة الحال لا يمكننا أن نرفض ذلك ، فالانهيار الكلى للقضاء يعنى حياة الغاب وحياة الغاب تعنى هلاك الجميع . غير أن دعم محاولات الإصلاح الجزئي للقضاء ، لا تعنى التغاضى عن المطلب الأساسي المتعلق باستقلاله استقلالاً كاملاً ليقوم بدوره الكامل في أعمال سيادة حكم القانون وحماية الحقوق والحريات . إن الدستور الحالي وكذلك السابق ، ينصان على الفصل بين السلطات وعلى استقلال القضاء وعلى كافة الضمانات التي تكفل ذلك الاستقلال ، لكن النظام وبنهجه الشمولي عمل على تحطيم القضاء ذاتيا ، أي عن طريق معاول هدم أوجدها داخل الجسم القضائي ، سواءً كانت معاول مأجورة مأمورة كما في حالة "جلال الأول" ، أو معاول لا تحتاج لمن يأمرها لتقوم بعملية الهدم ، كما في حالة "جلال الثاني" صاحب الدولة العميقة ، ويكفى دلالة عليها أن تلاميذه يجلسون الآن على منصة القضاء ويمارسون السياسة علناً ، فقد بادروا ورفعوا مذكرة إلى القصر يعترضون على تعيين حيدر بحجة الخوف على دولتهم الرسالية المزعومة ، وهم في الواقع يتشبثون بعهد جلال ، عهد الفساد بكافة أشكاله ، عهد تزوير شهادات الميلاد ، عهد تزوير الانتخابات ، عهد تجنيب المليارات وعهد الجمع بين منصب القضاء وعضوية جهاز الأمن والحزب الحاكم !!فماذا تبقى !!! لقد تولى مولانا حيدر منصب القضاء وبلادنا تمر بفترة عصيبة لا تحتمل التردد ولا الفشل ، وعليه أن يدرك بأن كل العيون ، المتفائلة والمتشائمة ، تراقبه وان الفرصة أمامه لدخول التاريخ من أوسع أبوابه ، سواء بتحقيقه لاستقلال القضاء أو بالخروج من مكتبه مطروداً من قبل من يهابون استقلال القضاء ، لكنه محمولاً على أكتاف كل أهل السودان . إننا لا نطلب من مولانا حيدر فعل المستحيل ، لكن من حقنا مطالبته بالتشبث بالدستور وان يستقى العبر من تاريخنا الإسلامي المشرف ومن تاريخنا القضائي البعيد والقريب ، وأمامه سيرة مولانا الفاروق الذي صاغ كتابه الشهير لقضاته ، حاوياً أهم مبادئ وآداب القضاء من استقلال ونزاهة ورزانة وعدل وروية ، فانتقلت مبادؤه في العدل والقضاء للعالم عبر البحار ، وبعد ذلك وبقرون عديدة جاء مونتسيكو ليصوغها أساساً لإقامة العدل على أرض أوروبا ، لتظل أوروبا تنعم بالعدل الذي استقت أسسه ومنهجه من أرض الإسلام ، ولتصبح أرض الإسلام اليوم حماراً يحمل أسفارا . لهذا كان طبيعياً أن يكون تلاميذ مولانا الفاروق من أمثال القضاة شريح والماوردي وأبى يوسف ، الذي كان يتعمد إظهار هيبة القضاء أمام خليفة المسلمين هارون الرشيد ، فكان يذهب لدار الخلافة راكباً بغلته ، فيرفع له ستار الخلافة وهو راكب فيقوم الخليفة لتحيته تقديراً لمكانة القضاء . ثم لا يحول هذا التكريم بينه وبين أن يجادل الخليفة ويعلن رفضه لشهادته طعناً في عدالته . أما شريح فقد رفض شهادة الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وحكم بالدرع لصالح اليهودي لأنه لم يكن للإمام علي ابن أبى طالب شهوداً على درعه غير ابنيه ، فما كان من اليهودي إلا أن أعاد الدرع للإمام علي ونطق بالشهادتين تأثراً بعدل شريح واحترام الإمام علي لاستقلال القضاء ، فسر علي بذلك ودفع إليه بالدرع تبرعاً، فذهب مع علي يجاهد حتى استشهد أما القاضي سوار بن عبد الله ، فقد كان ينظر نزاعا بين تاجر وأحد القادة حول قطعة أرض ، فكتب إليه الخليفة المنصور بأن يحكم لصالح القائد ، فكتب إليه القاضي بأن البينة قامت لصالح التاجر ، فكتب إليه المنصور :- والله لتدفعها إلى القائد ، فرد القاضي :-والله الذي لا اله إلا هو لن أخرجها إلا بالحق . غير أن الخليفة المنصور لم يصدر قراراً بإحالة قاضيه للصالح العام ، بل شعر بالراحة والزهو وقال :-ملأتها عدلاً وصار قضاتي تردني للحق . ومالنا نغوص عميقاً بحثاً عن الدرر وفى التاريخ السوداني قضاة مملكة الفونج العدول ، الشيخ عبد الله القرشي والشيخ عبد الرحمن النويري والفقيه بقدوش وقاضى العدالة دشين . ولله درك قاضى المهدية الشيخ الحسين أبو زهراء !! فقد حدث وان اغتصب بعض الناس أموالاً لجماعة في دنقلا ، فرفعوا دعوى أمام قاضى دنقلا يونس ودكيم ، ثم استأنفوا حكمه أمام محكمة الإسلام بامدرمان برئاسة القاضي الحسين أبوزهراء ، فأصدر الخليفة أوامره للقضاة بان لا يعاد النظر في القضايا التي فصل فيها يونس ودكيم ، لكن الحسين كان قاضياً شجاعاً وعادلاً فقال :- " المال يأكله الآخرون ونحن نتحمل المسؤولية على أكتافنا ونقابل بها الله سبحانه وتعالى !! أنا رجل أسير حسب كتاب الله والسنة دون التحول عن الحق ، أو خشية لومه لائم حيال شريعة الله ." فغضب الخليفة ودفع الحسين حياته مهراً للعدالة ، فكان أول شهيد في التاريخ في سبيل استقلال القضاء . وللإنصاف نقول أن مبادئ العدالة ظلت تسطع في بلادنا حتى خلال الحكم الاستعماري الثنائي ، والذي تولاه في المجال المدني قضاة من بريطانيا ومستعمراتها ، وفى المجال الشرعي قضاة من مصر ، وكان أهم ما أرساه ذلك القضاء هو اطمئنان الناس إلى عدالته ، ولعل فينا من تسامع القول الذي كان يردده مفتش المركز الانجليزي في دنقلا : " إذا العمدة ظلمك استأنف لرئيس الفرع وإذا ظلمك استأنف لشيخ الزبير وإذا الزبير ظلمك الله ظلمك " وكان يعنى أنه لن يتدخل في قضاء شيخ الزبير ، وقد صار هذا القول مثلاً يردده الناس في كل السودان . ثم أن المكتب الذي يجلس فيه مولانا حيدر الآن ، سبق وان جلس فيه قضاة أفذاذ أمثال أبو رنات و صلاح الأمين وبابكر عوض الله وعثمان الطيب و شبيكة وميرغني مبروك ، إذاً فقد أتت الفرصة لمولانا حيدر لكي يستنشق عبير سيرتهم العطرة ويمشى على خطاهم وهم يدافعون عن استقلال القضاء . ثم هناك قضاة المحكمة العليا محمد يوسف مضوي وعبد المجيد إمام ومحمد إبراهيم النور ، هؤلاء الرجال الذين شكلوا حصناً منيعا في سبيل حماية مبدأ الشرعية الإجرائية ، إلى أن بلغ الأمر بمولانا عبد المجيد إمام أن نزل إلى الشارع وحال دون وقوع صدام بين القوات النظامية والمسيرة الشعبية المتجهة إلى القصر الجمهوري لتسليم الفريق عبود مذكرة التنازل عن الحكم ، بأن صاح في وجه القوات النظامية وبأعلى صوت :- أنا عبد المجيد إمام قاضى المحكمة العليا بهذا آمركم بالانسحاب وعدم التعرض للمسيرة السلمية . احتراماً لهيبة القضاء وكلمة القضاء ، ما كان من الضابط العظيم المقدم قرشي فارس ، إلا أن قدم التحية للقاضي واستجاب للتعليمات فواصلت المسيرة الشعبية طريقها إلى القصر فكانت أكتوبر . لقد رصد كل العالم هذا الموقف التاريخي للقضاء السوداني في تصديه لحماية الحقوق والحريات ، وللشرطة في احترامها لهيبة وكلمة القضاء . وقد دفع هذا الموقف الأستاذ المصري الكبير محمد عصفور بأن يطالب في بحث له في إحدى المجلات الدورية بأن يكون القضاء المصري كالقضاء السوداني من حيث الاستقلال في حماية الحقوق والحريات . ثم يذكر التاريخ جيل العمالقة مهدي ودفع الله الرضي وهنري رياض وعلوب وعمر بخيت وفاروق أحمد وعبد الوهاب المبارك وذكى ، والشيوخ الأجلاء الجزولي والعوض والصائغ وحنفي وعبد الرازق مختار ، كل في مجاله أسهم في صناعة العدالة وفى إثراء الفقه القضائي . وهناك مدرسة الدفاع عن هيبة واستقلال القضاء ، أبو عاقلة والتجاني الزبير والطيب عباس الجيلي ... والقائمة تطول ... عندما تولى أبو عاقله رئاسة جهاز الخرطوم منع دخول "صحن الفول" قاعات المحاكم وكان يردد :- هيبة القضاء لا تسمح . أما الطيب الجيلي قاضى مديرية شندي ، فالتاريخ يروى له موقف في دفاعه عن استقلال القضاء ، فقد مر النميري على شندي في بداية جولته على المديرية الشمالية وأرسل لمولانا الطيب من نقل له رغبة النميري مرافقته في الرحلة ، فرفض الطيب بحجة أن الرحلة سياسية تخص النميري وهو كقاضي لا شأن له بها ، فأبدى الرسول مخاوفه أن يغضب النميري ويقوم بعزله ، فأجابه الطيب بأنه لا يأبه لذلك ، ولم يكن أمام النميري إلا وان احترم هذا الموقف الشجاع . على مولانا حيدر أن يسأل : - أين نحن اليوم من موقف القاضي الورع بشارة عبد الله بشارة ، قاضى جنايات أمدرمان جنوب وهو يؤدى مهنته بتجرد وشجاعة ، عندما قدم إليه طلبا للموافقة على دفن جثمان الدكتور على فضل وقد أرفق مع الطلب تقريراً طبياً يوضح أن سبب الوفاة حمى الملاريا ، فشك في الأمر خاصة وأنه لم يمثل أمامه أحد من ذوى المرحوم ، وازدادت شكوكه عندما علم بأن المرحوم كان معتقلاً في "بيوت الأشباح" ، فلم يتردد مولانا بشارة في رفض واستبعاد التقرير الطبي لأن الجهة التي أصدرته غير مختصة ، وأمر بأن يتم التشريح بواسطة أخصائي الطب الشرعي لتحديد سبب الوفاة ، وبالفعل كشف تقرير الطبيب الشرعي أن سبب الوفاة وجود نزيف داخل الدماغ نتيجة ضرب بآلة حادة على الرأس ، فأصدر مولانا بشارة أوامره بفتح البلاغ والقبض على الجناة ، وقد لاقى نتيجة هذا الموقف المهني القائم على تقوى الله ما اضطره لتقديم استقالته ، ليفتح مكتبا متواضعاً للمحاماة يسبح فيه بحمد الله ، وحملة لقب "المولانات" يلبسون الحرير ويسكنون القصور ويركبون الفواره ويذبحون العدالة ، وبلا حياء يرفعون شعار الدولة الرسالية ويعترضون على تعيين رئيس قضاء من خارج دائرتهم المغلقة .!! وبعد ، هذا قليل من كثير وهو تاريخ فيه تذكرة وعبرة لأولى الألباب ، وعلينا أن نقيس المسافة بين الأمس واليوم لنرى كم هو محزن ومخجل واقعنا المعاش ، وكم هي ثقيلة المسؤولية الملقاة على عاتق السيد رئيس القضاء الجديد ، وكم هي طويلة البنود التي ننتظر منه تحقيقها ، لكنها قطعاً ليست مستحيلة . ( وفقكم الله – نواصل )... عبد القادر محمد أحمد / المحامى