قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة شهد المهندس تشعل مواقع التواصل بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها بأزياء مثيرة للجدل ومتابعون: (لمن كنتي بتقدمي منتصف الليل ما كنتي بتلبسي كدة)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    مروي.. رصد مسيرات فوق ارتكازات الجيش السوداني    إقصاء الزعيم!    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان: آفاق غبشاء (3-3) .. بقلم: علي عبد الرحيم أبو مريم
نشر في سودانيل يوم 19 - 06 - 2014


المرحلة الثالثة: آفاق ما بعد الانتقال
1. الآفاق السياسية
المرحلة الثالثة في مراحل التحول الديموقراطي هي مرحلة تعزيز الديموقراطية (Democracy Consolidation) وتأتي بعد المرحلتين الأوليتين، مرحلة التغيير ثم المرحلة الانتقالية حسب تصنيف البعض. الحدود الفاصلة بين المرحلة الانتقالية ومرحلة تعزيز الديموقراطية هي خطوط غير واضحة حيث قد يصعب أحياناً وصف بلد معين في مراحله الانتقالية بأنه ديموقراطي أو غير ديموقراطي، فإذا قبلنا تعريف الديموقراطية في حدها الأدنى وهو اختيار الحاكم عبر انتخابات حرة ونزيهة حسب المعايير الدولية وحد أدنى من الحريات المدنية، فإن تعزيز الديموقراطية يبدأ مباشرة بعد استيفاء هذه الصفات.
هنالك اختلاف اكاديمي حول مفهوم تعزيز الديموقراطية نفسه (راجع اندرياس شيدلر "ما هو تعزيز الديموقراطية؟") ويمكن وصفها سلباً باعتبارها العمل على المحافظة على الحد الأدنى منها ومنع العودة الى القهرية، أو بأنها العمل من أجل البقاء (survival). الوصف الثاني ايجابي وهو العمل على (تجويد) الديموقراطية في المعيار الذي وضعه شيدلر: حكم قهري – ديموقراطية اقتراع – ديموقراطية ليبرابية – ديموقراطية متقدمة.
الذي يهمنا في حالة السودان هو ضمان تجاوز المرحلتين الأوليتين، الحكم القهري والديموقراطية الهشة التي تعتمد على الاقتراع دون أن تترسخ في المؤسسات والثقافة على الوجه المطلوب. أو باستخدام تصنيف شيدلر، وبناءً على واقع السودان الحالي، تعزيز الديموقراطية المطلوب هو التعزيز السالب: العمل لبقاء الديموقراطية ومنع العودة الى القهر كما حدث عندنا أكثر من مرة. أقول هذا لأنه التدرج الطبيعي لبلد عاشت في الحكم القهري لربع قرن، سيكون من السذاجة أن نبذل جهداً في اختيار الطلاء المناسب لتزيين الحائط اذا كانت اللبنة نفسها لا زالت رطبة وطرية لم تبلغ التماسك والصلابة المطلوبة. المهمة الأساسية لنا جميعاً كسودانيين ستكون متى وصلنا الى الحكم الديموقراطي، هي أن نقفل جميع منافذ الحكم القهري ونسد كل الدروب العائدة اليه حتى لا يبقى لنا سبيل الا الاستمرار في درب الحرية مهما وعر وتمنّعت علينا مسالكه. وحتى نتمكن من ذلك فهنالك عاملان مهمان لا بد من توفرهما في سنوات الديموقراطية الأولى وهما: سلبية الجيش وايجابية القضاء، لنفصل في ذلك فيما يلي.
سلبية الجيش: وهي عكس ما كان مطلوباً من الجيش في الفترة الانتقالية حيث أن الوجود الايجابي في المشهد السياسي كان ضرورياً لتأمين حالة الانتقال الحرجة وحراسة التحول الهش من الاطماع الخارجية والانتهازية الداخلية. أما بعد أن تبدأ البلاد مرحلة الحكم الديموقراطي فالمطلوب هو خروج الجيش من المشهد السياسي تماماً. معلوم أن الديموقراطية الوليدة ستتعثر كثيراً قبل أن تحسن المشي ولكن لو حملها الجيش على ظهره فإنها لن تحسنه قط. ومعلوم أيضاً أن هذه الوليدة سينهكها كثرة التعثر وصعوبة الوصول الى مراميها وأنها ستلجأ باكية الى الجيش ليحملها الى تلك المرامي بدلاً من أن يتركها لمعاناتها، ولكن على الجيش أن لا يتدخل اطلاقاً، مهما تعثرت وأدمت وتكدمت وعلا بكاؤها واستنجادها طلباً للغوث يجب أن لا يتدخل، في النهاية ستمشي الوليدة ويعتدل خطوها دون عون منه.
الجيش نفسه ينبغي أن ينمّي حسّه المهني الذي أفسدته سنوات طويلة من العمل السياسي. ينبغي أن تعمل القيادات العسكرية الوطنية على إعادة صياغة الذهن العسكري بحيث ينفر عن السياسة كما ينفر الآن من المدنية أو (الملَكية) كما يسميها احتقاراً. ينبغي أن يعاد الى العسكر ذلك الاحساس بالامتياز والذي مصدره الطبيعة النبيلة للعمل الذي يقومون به، حماية الناس من العدوان. ولكن هذا الامتياز له ثمن يستوجب الدفع. ينبغي أن ترد الى العسكر تلك المهابة والرفعة التي كانت تسِمُهم في زمن ما، حيث كانت الجندية من أشرف المهن وقد صارت الآن من أحقرها، حيث كانت العذارى يتغنين لصاحب البدلة الخضراء والنجوم اللامعة وحيث كان (الضابط) هو المهنة التي يتمناها الأطفال. ينبغي أن لا يُضار العسكر في معاشهم حتى لا يهجر صغارهم المهنة ويطلب كبارهم الحكم تعويضاً عن عزة مفقودة. ينبغي أن يؤمَنوا على سكنهم وعلاجهم وتعليم أبنائهم وتوفير معاشهم، وهذا ينبغي أن يدفع ثمنه السودانيون في مقابل أن يضع العسكر أرواحهم لحمايتهم. هكذا هي الجيوش في انحاء الدنيا، هذا والا حملوا السلاح الذي بأيديهم وأخذوا مطالبهم عنوة، وكم من الشرور في هذا العالم منبعها ضيق المعاش!
لا شك أن أقصر سبل الردة عن الديموقراطية الى القهر هو الجيش. وهو إن لم ينقلب على الديموقراطية لحقارة أصابته منها، فإنه قد يفعل استجابة لغواية السياسيين الذين أعجزتهم لأواء المنافسة فلجأوا الى القوة وليس من قوة سواه. لذلك، وحتى لا تؤتَى الحرية من قِبَل الجيش ينبغي أن يعاد الى نفوس العسكر ذلك الفخر والاعتداد، فيُعظَّم دورهم وعملهم في ثقافة الناس، وتؤمَّن معاشاتهم حتى لا تذلهم الحاجة.
ايجابية القضاء: اذا كان الجيش هو أخطر وسيلة للانقلاب على الديموقراطية، فإن غياب العدالة هو أخطر أسباب الرغبة في تغيير الحكم، وأشد ما تكون الحاجة الى العدالة البائنة المسفرة هو في سنوات الديموقراطية الأولى حيث تنفلت كل وحوش الرأي العام من معاقلها القديمة تبحث عن فرائس. سيسرف الاعلام في تناول القضايا العامة بالنقد والتشهير وسيختصم السياسيون فيما بينهم على جرعة الماء! سيذهل بعض الناس فضاء الحرية اللامتناهي الذي انفتح أمامهم فيركضون فيه بلا هدف. في هذا المناخ سيتوجب على النظام العدلي أن يكون في أفضل حالاته وصمام الأمان سيكون القضاء.
نذكّر أننا ربما نحتاج الى سلبية العدالة في فترة الانتقال كمهر لانتقال سريع وقليل التكلفة، فإذا ما عبرت البلاد تلك المرحلة وبدأت عهداً من الحرية والديموقراطية أصبح لزاماً أن تنتقل العدالة من السلبية الى الايجابية وأن يقوم عليها قضاء حر مستقل وشديد الكفاءة. عندما ينسحب الجيش من الحياة العامة بالسلبية المطلوبة في هذه المرحلة، سيصبح القضاء هو المرجع الوحيد للفصل في الخصومات العامة والخاصة ولن يكون ذلك بقوة السلاح كما كان أحياناً في السابق، بل بقوة المؤسسة والنظام القضائي وكفاءته، وهي مسؤولية جسيمة يمكن أن يكون ثمن التقصير عن أدائها فساد النظام الديموقراطي الوليد وزهد الناس فيه.
يجدر بنا أولاً أن نهدم الخرافة التي تقول بالنزاهة الفطرية للقضاء. لافتة للانتباه تلك الخرافة التي تسري في معظم الدول بأن مؤسساتها يمكن أن يتخللها الفساد ولكن قضاءها دائماً بخير. لعل الأهمية البالغة للقضاء باعتباره المرجع الأخير للناس في اختلافاتهم تجعل من الاعتقاد في سلامته ضرورة سيكولوجية، ولكن علينا التأكيد أنها لا تعكس الواقع بالضرورة. نزاهة القضاء ليست صفة ملازمة له بل هي مكتسبة واكتسابها يستدعي بذل الكثير من الجهد وربما أكثر للمحافظة عليها. وقد أعيت الدول الديموقراطية وسائل (تنزيه) القضاء منهجياً من حيث صلاحيات القاضي أو كيفية اختياره. فنجد مثلاً في بريطانيا أن القاضي الذي يفترض أن تقف أمامه السلطة السياسية في خصوماتها، موظف تعينه الحكومة نفسها ما قد يطعن في حياده، وفي أمريكا حيث يختار القضاة بالانتخاب نجد القاضي مطعون الحياد أمام داعمي حملته الانتخابية. لا يوجد حسب علمي نظام قضائي (يضمن) نزاهة القاضي، ويبقى عنصر النزاهة الشخصية حاضراً باستمرار ما ينفي امكانية اطلاق الثقة في القضاء.
لاشك أن النظام الحالي قد دفع بكثير من منسوبيه الى القضاء كعادته في تغذية مؤسسات الدولة بمنسوبيه لخدمة أغراضهم في الحكم. ولكن المظالم التي أحدثها هذا النظام في الناس على كثرتها، كانت في غالب الأحيان – حسب علمي – بعيداً عن قاعات المحاكم. ظل القضاء رغم انتساب كثير من أفراده الى النظام الحاكم، والى حد كبير، نظيف اليد من مظالم النظام والتي تولت كبرها الأجهزة التنفيذية. لا أقول هذا ارتداداً عن ما سبق أن أشرت إليه من خرافة نزاهة القضاء الفطرية، ولكنه واقع أعزوه لسببين: الأول أن القانون مقيِّد لأحكام القاضي، وتبقى المساحات التي يتحرك فيها القاضي برأيه مساحات محدودة، فإن أراد القاضي محاباة النظام فهي لن تتجاوز هذا الضيق. السبب الثاني هو – وكما في حالة الجيش – عراقة المؤسسة القضائية والفخر والاعتداد عند منسوبيها. فالانتماء لهذه المؤسسات يطغى أحياناً على الانتماءات الأخرى سواءً كانت حزبية أو عقدية أو غير ذلك، ويمنع محاباة القاضي لغيرها، الأمر الذي يعزّز مهنيته ويرفع من قدرها، هذا ولا أستثني بالطبع الورع الذي يكون عند بعض القضاة هو المحرك الأساس لأحكامهم.
سيكون التكلان كبيراً في فترة الديموقراطية الوليدة على تقاليد مؤسسة القضاء العريقة ورسوخ حالة الانتماء إليها والفخر بها لدى القضاة السودانيين. أرجو أن تستعيد كليات القانون في الجامعات ألقها القديم ليدخلها الأفذاذ لأن المسؤولية ستكون عظيمة ولن يقوى على حملها الا صفوة من الناس. كذلك وكما كان الحال بالنسبة للجيش يجب أن يعطى القضاة أولوية في تأمين معاشهم على حساب دافع الضرائب بالقدر الذي يعزز من رفعة القضاء وعلو كعبه واستغنائه عن غيره دون طغيان.
خلاصة الأمر أن أفقنا السياسي سيعتمد على قدرتنا على تعزيز الديموقراطية متى وصلنا إليها، وهذا التعزيز بدوره يعتمد على مؤسستي الجيش والقضاء وقدرتهما على التكيّف مع الوضع السياسي بتحول الجيش من الايجابية في الفترة الانتقالية الى السلبية في ما بعدها والعكس بالنسبة للقضاء. وتعزيز الحس المهني لهتين المؤسستين بالشكل الذي يسمو فوق تحيّزات السياسة. هنالك بالطبع عوامل أخرى يمكن أن تسهم في تعزيز الديموقراطية كإصلاح الأحزاب السياسية والاعلام والتوعية الجماهيرية وغير ذلك مما تركنا ذكره لضيق المساحة.
2. الآفاق الاقتصادية:
الخطوة الأولى نحو اقتصاد سوداني مزدهر هي تغيير الثقافة الاقتصادية عن السودانيين. لا بد أن تزول أسطورة السودان بلد الموارد الطبيعية من أذهان الناس ولنبدأ بتغيير الضلالات التي تدرس للأطفال في المدارس من شاكلة "سلة غذاء العالم" وما شابهها، ويا حبذا لو وضعت مكانها فكرة (لعنة الموارد) وهي المفهوم الاقتصادي الصحيح الذي يحكي حالة التدهور الاقتصادي للدول التي تعتمد على الموارد الطبيعية. حبذا لو درس أطفالنا قصة (المرض الهولندي) بدلاً من إضلال أفكارهم بالكلام عن طول نهر النيل أو قدوم محمد على باشا الى السودان بحثاً عن الذهب. حبذا لو تعلم أولادنا أن الدول إنما تنهض بالعمل الجاد الدؤوب وأن الموارد ليست شرطاً ضرورياً للنهوض والأمثلة كثيرة. ينبغي أن ندرك جميعاً أن الصناعة ليست ثقافة غربية وأن الزراعة ليست ثقافة شرقية وأن تبادل المصنوع بالمزروع ليس هو الميزة النسبية بل هو كسل اقصادي لا يغتفر!
إن التغيير المطلوب في ثقافتنا الاقتصادية لا يقف على مشكلات الانتاج بل إنه يشمل سيئات استهلاكية غرست جذورها عميقاً في ثقافتنا وتحصنت بمسميات زائفة كالكرم. ينبغي علينا أن نعيد تعريف مفهوم الكرم لدينا بناءً على العقل والدين، وأن نميز بين الكرم وبين السرف والتباهي. فدعوة ما يزيد على الألف من وجهاء القوم للعشاء هو سرف وتباهي بغض النظر عن المناسبة. وإكثار أصناف الطعام في وجبة واحدة سرف. والتعارك بالايدي لدفع الحساب في مطعم فاخر ثم تدافع عجوز تطلب احساناً بعد الخروج من المطعم هو مزيج من التباهي والنفاق والبخل. ذات المنطق يسري على الملبس والمفرش والزينة. إن البخل في الانتاج و(الكرم) في الاستهلاك هو عنوان ثقافتنا الاقتصادية المقلوبة، ولن تتحقق لنا أي نهضة اقتصادية ما لم نبدأ بهذه المفاهيم.
اذا أقررنا أن الثقافة قابلة للتغيير فإن ما سواها هيّن، ولنسأل الآن: ما الذي يمنع السودان من النهوض كما نهضت الكثير من الأمم؟ ما الذي يمنعه من أن يحاكي النموذج الكوري مثلاً؟ لا شيء، لا شيء اطلاقاً. وقبل أن أحكي لكم قصة النجاح الكوري على لسان أحد أبنائها، وحيث إني في معرض تصحيح المفاهيم الخاطئة، سأتناول المزيد منها بالتفنيد على لسان ذات الشخص.
يقول الكوري الجنوبي استاذ اقتصاد التنمية بجامعة كامبردج ها جوون تشانق في كتابه الناجح "23 شيئاً لا يقولونها لك عن الرأسمالية" إن أحد المفاهيم المتداولة الآن عن إفريقيا هو أن قدرها أن لا تنمو وتنهض وذلك لأسباب منها: مناخها الاستوائي الموبوء بالأمراض، جغرافيتها القطرية حيث العديد من الدول ليس لها موانئ بحرية، غناها بالموارد الطبيعية (لم يذكر السودان!) ما يجعل أهلها كسالى يفشي فيهم الفساد، وهي منقسمة عرقياً ما يعيق ادارة أهلها، ضعف مؤسساتها، وأخيراً مشكلة الثقافة حيث لا تشجع الثقافة الافريقية على العمل الجاد أو التعاون أو الإدخار. هذه المفاهيم رد عليها ها جوون رداً وافياً في كتابه وأدعو الناس للاطلاع عليه حيث لا مجال هنا لهذا التفصيل. ولكن ما أود التركيز عليه هو المانع الثقافي الذي يظن كثير من السودانيين أنه يحول دونهم والنهوض (لا التفات هنا الى من يقولون بالنهوض الزراعي!). وهذه الخصائص الثقافية تشبه كثيراً ما يقال عن الأفارقة بشكل عام وكثيراً ما يجلد بها السودانيون ذواتهم: الكسل والانفعال وعدم النظام وقلة القدرة على التعاون والعمل الجماعي وما شابه ذلك. هذا باعتبار أن هذه الصفات لا تصلح للنهوض بالاقتصاد وأنها إن كانت جزءً من الثقافة فقد حُكِم على الناس بالشقاء لأن الثقافة لا تتغير، ولكن هل هذا صحيح؟
يحكي د. هاجوون في كتابه "السامريون الأشرار Bad Samaritans" إن مستشاراً استرالياً طاف عدداً من المصانع في دولة نامية ثم قال لموظفي الدولة المرافقين له إنه بطَل عجبه من رخص العمالة في بلدهم عندما رأى الناس في العمل وإنه لا عجب من قلة رواتبهم لأن انتاجهم قليل، وقال "عندما رأيت رجالكم في العمل أحسست أنكم قوم قنوعون جداً وسهلو المراس تظنون أن الزمن ليس مشكلة. عندما تحدثت الى بعض المديرين أخبروني أنه من المستحيل تغيير عادات هي من الإرث القومي". بتعبير آخر – تعبير هاجوون – القوم كانوا كسالى. المدهش هو أن هذا البلد النامي هو اليابان في 1915! والاسترالي لم يكن وحده، فأحد المبشرين المسيحيين الأمريكان وصف اليابانيين بأنهم "كسولون لا يكترثون لمرور الوقت اطلاقاً!". وبريطانية اشتراكية اسمها بياتريس ويب وصفتهم بأنهم "ميالون للدّعة ولديهم استقلالية شخصية لا تطاق". كل هذه الصفات لا تشبه بأي حال صفات اليابانيين اليوم، فقد اشتهروا بالدقة في العمل واحترام الوقت وتقديس العمل الجماعي والنشاط. أذكر أني قرأت قبل سنوات أن متوسط زمن التأخير للقطارات الداخلية في طوكيو كان 15 ثانية! هذه دقة متناهية في الزمن، فمن يصدق أن ذات القوم كانوا قبل أقل من مائة عام يوصفون بالكسل وقلة احترام الوقت! ذات الصفات التي نوصف – أو نصف أنفسنا - بها الآن.
والدهشة لا تقف على اليابان، فالألمان أيضاً – ولدينا في السودان احترام زائد لكل ما هو ألماني – لم يحوذوا في الماضي ذات السمعة التي لديهم اليوم. كان الانجليز في بدايات القرن التاسع عشر (نهضة الألمان الاقتصادية بدأت في منتصف القرن التاسع عشر) يصفون الألمان بأنهم أغبياء وخاملون! وذكر هاجوون أن أحد أصحاب المصانع الفرنسيين وصف عماله الألمان بأنهم "يعملون كيف ومتى يشاؤون!". مجدداً ذات الصفات التي تطلق علينا الآن. وهذه الصفات اطلقت على اليابانيين والألمان قبل أقل من ثلاثين سنة من انطلاقتهما الاقتصادية، فلا حجة اذا بأن هذا التغيير سيستغرق وقتاً طويلاً وإن صح هذا فإنه يوجب علينا البداية فوراً لا ترك الأمر برمته.
قصة كوريا يحكيها هاجوون:
ولد هاجوون تشانق في كوريا الجنوبية عام 1963 في وقت كانت كوريا فيه واحدة من أفقر دول العالم (متوسط دخل الفرد في 1961 كان 82 دولار في حين كان في غانا 179 دولار في السنة). انتمى هاجوون لأسرة من الطبقة المتوسطة العليا حيث كان أبوه – خريج هارفارد – موظفاً حكومياً كبيراً في الدولة رغم ذلك كان يسكن في شقة من غرفتين بلا دورة مياه (حمام بلدي!). ذكر هاجوون أن أحد أقربائهم زارهم يوماً وسأل والدته عن ماهية (الدولاب الأبيض) الغريب في صالتهم، كانت تلك هي الثلاجة! وكان الجيران يخزنون اللحم الغالي عندهم كما لو كان بنكاً. عندما دخل هاجوون الى المدرسة في 1970 كان الفصل يزدحم ب65 تلميذاً (كفصلي عندما دخلت المدرسة) ولكن مدرسة هاجوون كانت خاصة، المدرسة العامة بجوارهم كان الفصل يضيق ب 90 تلميذاً. يذكر هاجوون أن الجنرال بارك حاكم كوريا في ذلك الوقت أعلن عن خطة للنهوض بمستوى دخل الفرد الى 1000$ بحلول عام 1981 والذي كان يعتبر هدفاً مبالغاً في الطموح. في عام 1973 قام الجنرال بارك باطلاق مشروع برنامج الصنعنة الكيميائية والثقيلة (HCI) حيث أسس أول مصنع للحديد الصلب وباحة لصناعة السفن وبدأ انتاج أول سيارة محلية التصميم (وإن كانت الاجزاء معظمها مستوردة). ثم توالى انشاء المصانع للالكترونيات والماكينات والكيماويات وغيرها من الصناعات المتقدمة. في الفترة ما بين 1972 و 1979 فقز دخل الفرد بأكثر من خمسة أضعاف واستطاع الجنرال بارك الوصول الى هدف ال 1000$ قبل الموعد بأربعة سنوات، وقفزت الصادرات الكورية في ذات الفترة تسعة أضعاف. يذكر هاجوون أن هوس البلاد بالنهضة الاقتصادية كان منعكساً حتى في التعليم (وهو ما رجوته في بداية هذا الفصل للتعليم عندنا). يقول إنه وفي ظل الشح والحاجة الماسة في البلاد للعملة الحرة كان التبليغ عن من يُرى وهو يدخن سجائراً أجنبية واجب وطني. كانت العملة الصعبة هي "العرق والدم لجنودنا الصناعيين الذين يخوضون معركة الصادرات في مصانع البلاد" يقول هاجوون. (قارن هذا بما نصرفه نحن على السيارات – الكورية للمفارقة! – والشوكولاتة والفواكه وكريمات الزينة!)
كان الذين يصرفون المال في مواد استهلاكية رفاهية في كوريا يُنظر إليهم على أنهم غير وطنيين بل ومجرمون، وكانت الدولة تمنع استيراد البضائع الكمالية أو تفرض عليها جمارك عالية. بل إن السفر كان ممنوعاً حفظاً للعملة الصعبة ما لم يكن بإذن الحكومة لعمل أو دراسة. يقول هاجوون إنه لهذا السبب لم يخرج من كوريا حتى بلغ 23 عاماً حين خرج للدراسة في كامبردج.
كانت كوريا في مطلع الثمانينيات قد تمكنت من تقليد الكثير من المنتجات الصناعية المتقدمة ولكنها لم تتمكن في ذلك الوقت من الابتكار والابداع لتحتفل ببراءاتها العلمية وماركاتها التجارية العالمية. اليوم تعتبر كوريا واحدة من أكثر الدول ابداعاً حيث تصنف من الخمسة الأوائل عالمياً في عدد البراءات العلمية، بينما كانت في الثمانينيات تعيش على (الهندسة العكسية)، وتعتبر من (عواصم القرصنة) في العالم. بنهاية الثمانينيات ثبتت كوريا مكانتها كإحدى أفضل الدول متوسطة الدخل (upper-middle-income) وكان أبرز دليل على ذلك أن الدول الأوروبية أعفت الكوريين من طلب تأشيرة الدخول، فالكوريون لم يعد لديهم ما يدفعهم الى الهجرة غير الشرعية الى أوروبا. في عام 1996 انضمت كوريا الى نادي الدول الغنية OECD. انتقلت كوريا في أقل من 40 عاماً من تصدير خام التنجستان والأسماك والشعر المستعار الى تصدير السيارات والسفن والهواتف الذكية (انتهى كلام هاجوون).
اذا قارنا التجربة الكورية بالحال السوداني فإننا نجد أن السودان كان في الستينيات يصدر المنتجات الزراعية وهو اليوم كذلك يصدر المنتجات الزراعية بالإضافة الى الذهب (أيضاً مادة خام!). قارن ذلك بالانتقال من تصدير الشعر المستعار الى هواتف سامسونج الذكية. كان مستوى دخل الفرد في السودان في 1961 هو 157$ وهو اليوم 1500$ أي حوالي 10 أضعاف في خمسين سنة. قارن ذلك بالانتقال الكوري من 82$ الى 33,000$ أي حوالي 400 ضعف! ليست الغاية هنا هي بث مزيد من الاحباط فقد نلنا منه الكفاية، ولكن بث الأمل، فكل ما يظن السودانيون اليوم أنه يمنعهم من النهوض كان مثله في كوريا في الستينيات أو أسوأ منه سواءً كان من الراهن الاقتصادي أو الثقافة الشعبية أو حتى السياسة (كوريا ظلت ديكتاتورية حتى 1987).
لا شيء يمنعنا من النهوض كغيرنا من الأمم، نحتاج أن نثق في هذه الحقيقة ثقة تامة أولاً، ثم ننظر في واقعنا بعين مجردة من الأوهام والخرافات سواءً كانت عن منح لا نملكها أو موانع ليست فينا. وأكرر، السودان ليس غنياً بالموارد بالشكل الذي نتصوره بل هو فقير في غالبها، ولكن السودانيين أيضاً ليسو شعباً ذو مناعة فطرية من التمدن والصناعة، ولا ينبغي أن يقعد بنا الكسل أو التنوع الإثني أو قلة احترام الوقت أو قلة القدرة على العمل الجماعي أو النظام، كل هذه الصفات قيلت عن من هم طليعة الشعوب اليوم في النشاط واحترام العمل والوقت والدقة والمهارة في العمل والنظام. بل ربما يكون للسودانيين خصيصة حيث أن أحد الاكاديميين ذكر في ورقة كتبها عن ثقافة شعب الملايو المتهم بالكسل وعن قدرتهم على النهوض، ذكر ما أسماه قصة مشهورة عن ميكانيكي سوداني تمكن من اصلاح عطل كبير في عربة ب (توليفة) ذكية تدل على حس حِرفي وصناعي عالي لدى هذه الشعوب (شعوب الدول الفقيرة).
الذي نحتاجه الآن هو نشر الوعي بين الناس وزرع الثقة في النفوس. فالنهضة متاحة لكل الشعوب الا من أبى، والذي يأبى هو الذي يقعد ممسكاً بمنجل ورسن حمار ويتوعد شعوب العالم بالسبق الى المجد! الذي يأبى هو من يقعد على بداية الطريق ينظر الى الأفق الأغبش فيصيبه اليأس حين لا تنجلي له الأنوار من مكانه ويقول هذا أمر لا طاقة لنا به وإنا ههنا قاعدون. لذلك فإن علينا أن لا ندع قيادَنا بأيدي أمثال هؤلاء، بل ندعه لأصحاب البصائر والخيال الذين لا تعجزهم الرؤية من خلال الغبش ولا يقعدهم طول الطريق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.