1. الآفاق الاقتصادية: الخطوة الأولى نحو اقتصاد سوداني مزدهر هي تغيير الثقافة الاقتصادية عن السودانيين. لابد أن تزول أسطورة السودان بلد الموارد الطبيعية من أذهان الناس ولنبدأ بتغيير الضلالات التي تدرس للأطفال في المدارس من شاكلة "سلة غذاء العالم" وما شابهها، ويا حبذا لو وضعت مكانها فكرة (لعنة الموارد) وهي المفهوم الاقتصادي الصحيح الذي يحكي حالة التدهور الاقتصادي للدول التي تعتمد على الموارد الطبيعية. حبذا لو درس أطفالنا قصة (المرض الهولندي) بدلاً من إضلال أفكارهم بالكلام عن طول نهر النيل أو قدوم محمد علي باشا إلى السودان بحثاً عن الذهب. حبذا لو تعلم أولادنا أن الدول إنما تنهض بالعمل الجاد الدءوب وأن الموارد ليست شرطاً ضرورياً للنهوض والأمثلة كثيرة. ينبغي أن ندرك جميعاً أن الصناعة ليست ثقافة غربية وأن الزراعة ليست ثقافة شرقية وأن تبادل المصنوع بالمزروع ليس هو الميزة النسبية بل هو كسل اقتصادي لا يغتفر! إن التغيير المطلوب في ثقافتنا الاقتصادية لا يقف على مشكلات الإنتاج بل إنه يشمل سيئات استهلاكية غرست جذورها عميقاً في ثقافتنا وتحصنت بمسميات زائفة كالكرم. ينبغي علينا أن نعيد تعريف مفهوم الكرم لدينا بناءً على العقل والدين، وأن نميز بين الكرم وبين السرف والتباهي. فدعوة ما يزيد على الألف من وجهاء القوم للعشاء هو سرف وتباهي بغض النظر عن المناسبة. وإكثار أصناف الطعام في وجبة واحدة سرف. والتعارك بالأيدي لدفع الحساب في مطعم فاخر ثم تدافع عجوز تطلب إحساناً بعد الخروج من المطعم هو مزيج من التباهي والنفاق والبخل. ذات المنطق يسري على الملبس والمفرش والزينة. إن البخل في الإنتاج و(الكرم) في الاستهلاك هو عنوان ثقافتنا الاقتصادية المقلوبة، ولن تتحقق لنا أي نهضة اقتصادية ما لم نبدأ بهذه المفاهيم. إذا أقررنا أن الثقافة قابلة للتغيير فإن ما سواها هيّن، ولنسأل الآن: ما الذي يمنع السودان من النهوض كما نهضت الكثير من الأمم؟ ما الذي يمنعه من أن يحاكي النموذج الكوري مثلاً؟ لا شيء، لا شيء إطلاقاً. وقبل أن أحكي لكم قصة النجاح الكوري على لسان أحد أبنائها، وحيث إنني في معرض تصحيح المفاهيم الخاطئة، سأتناول المزيد منها بالتفنيد على لسان ذات الشخص. يقول الكوري الجنوبي أستاذ اقتصاد التنمية بجامعة كامبردج هاجوون تشانق في كتابه الناجح "23 شيئاً لا يقولونها لك عن الرأسمالية" إن أحد المفاهيم المتداولة الآن عن إفريقيا هو أن قدرها ألا تنمو وتنهض وذلك لأسباب منها: مناخها الاستوائي الموبوء بالأمراض، جغرافيتها القطرية حيث العديد من الدول ليس لها موانئ بحرية، غناها بالموارد الطبيعية (لم يذكر السودان!) ما يجعل أهلها كسالى يفشي فيهم الفساد، وهي منقسمة عرقياً ما يعيق إدارة أهلها، ضعف مؤسساتها، وأخيراً مشكلة الثقافة حيث لا تشجع الثقافة الإفريقية على العمل الجاد أو التعاون أو الادخار. هذه المفاهيم رد عليها هاجوون رداً وافياً في كتابه وأدعو الناس للاطلاع عليه حيث لا مجال هنا لهذا التفصيل. ولكن ما أود التركيز عليه هو المانع الثقافي الذي يظن كثير من السودانيين أنه يحول دونهم والنهوض (لا التفات هنا إلى من يقولون بالنهوض الزراعي!). وهذه الخصائص الثقافية تشبه كثيراً ما يقال عن الأفارقة بشكل عام وكثيراً ما يجلد بها السودانيون ذواتهم: الكسل والانفعال وعدم النظام وقلة القدرة على التعاون والعمل الجماعي وما شابه ذلك. هذا باعتبار أن هذه الصفات لا تصلح للنهوض بالاقتصاد وأنها إن كانت جزءًا من الثقافة فقد حُكِم على الناس بالشقاء لأن الثقافة لا تتغير، ولكن هل هذا صحيح؟ يحكي د. هاجوون في كتابه "السامريون الأشرار Bad Samaritans" إن مستشاراً استرالياً طاف عدداً من المصانع في دولة نامية ثم قال لموظفي الدولة المرافقين له إنه بطَل عجبه من رخص العمالة في بلدهم عندما رأى الناس في العمل وإنه لا عجب من قلة رواتبهم لأن إنتاجهم قليل، وقال "عندما رأيت رجالكم في العمل أحسست أنكم قوم قنوعون جداً وسهلو المراس تظنون أن الزمن ليس مشكلة. عندما تحدثت إلى بعض المديرين أخبروني أنه من المستحيل تغيير عادات هي من الإرث القومي". بتعبير آخر – تعبير هاجوون – القوم كانوا كسالى. المدهش هو أن هذا البلد النامي هو اليابان في 1915! والأسترالي لم يكن وحده، فأحد المبشرين المسيحيين الأمريكان وصف اليابانيين بأنهم "كسالى لا يكترثون لمرور الوقت إطلاقاً!". وبريطانية اشتراكية اسمها بياتريس ويب وصفتهم بأنهم "ميالون للدّعة ولديهم استقلالية شخصية لا تطاق". كل هذه الصفات لا تشبه بأي حال صفات اليابانيين اليوم، فقد اشتهروا بالدقة في العمل واحترام الوقت وتقديس العمل الجماعي والنشاط. أذكر أنني قرأت قبل سنوات أن متوسط زمن التأخير للقطارات الداخلية في طوكيو كان 15 ثانية! هذه دقة متناهية في الزمن، فمن يصدق أن ذات القوم كانوا قبل أقل من مائة عام يوصفون بالكسل وقلة احترام الوقت! ذات الصفات التي نوصف – أو نصف أنفسنا - بها الآن. والدهشة لا تقف على اليابان، فالألمان أيضاً – ولدينا في السودان احترام زائد لكل ما هو ألماني – لم يحوذوا في الماضي ذات السمعة التي لديهم اليوم. كان الانجليز في بدايات القرن التاسع عشر (نهضة الألمان الاقتصادية بدأت في منتصف القرن التاسع عشر) يصفون الألمان بأنهم أغبياء وخاملون! وذكر هاجوون أن أحد أصحاب المصانع الفرنسيين وصف عماله الألمان بأنهم "يعملون كيف ومتى يشاءون!". مجدداً ذات الصفات التي تطلق علينا الآن. وهذه الصفات أطلقت على اليابانيين والألمان قبل أقل من ثلاثين سنة من انطلاقتهما الاقتصادية، فلا حجة إذا بأن هذا التغيير سيستغرق وقتاً طويلاً وإن صح هذا فإنه يوجب علينا البداية فوراً لا ترك الأمر برمته. المصدر: الشرق القطرية 18/6/2014م