--------- ___________ في سودان اليوم، بعد ربع قرن من حكم الإنقاذ، وبسببه، نحن نعيش زمن الردة والرداءة. الردة على قيم وخصال تربينا عليها وتوارثناها جيلا بعد جيل، ورداءة زمن أختلت فيه المعايير وتسطحت المفاهيم وابتُذلت الشعارات، فصارت الدولة مملوكة لجماعة، وأصبح القمع والقهر بسبب الهوية والقبيلة والرأي المغاير ممارسة مشروعة وشرعية، وأضحى الفساد مباحا محللا، ولم يعد الوطن بالنسبة للكثيرين إلا محل إقامة إجبارية لن يترددوا أبدا في هجره..!!. والردة والرداءة إمتدت وتمددت لتشوه مفهوم الثوابت الوطنية وسياجها من الخطوط الحمراء.ويقصد بالثوابت الوطنية تلك المسلمات والمرجعيات التي يتراضى ويتوافق عليها الجميع في إطار برنامج قومي لبناء الوطن، وتشمل مفاهيم الهوية والدولة والوطن والدين والمصلحة الوطنية، إلى غير ذلك من المفاهيم التي لا يمكن المساس بها، ويكون الاقتراب منها خطا أحمرا يستدعي الإيقاف والعقاب. وتاريخيا، الخط الأحمر هو خط تدركه النفس البشرية السويةولا تتخطاه. وهو خط، اذا تمعنته، ستجده مشتركا بين شعوب الارض جميعها. فالمجتمعات البشرية، كما تشاركت فى الماء والكلأ والنار، استمدت خطوطها الحمراء من نفس هذه الاساسيات. فمثلا لا توجد ثقافة انسانية ولا دين لا يوصى بسقي العطشان. فصفة العطش هنا صابغة لما عداها من صفات فلا يمكن ان يسأل العطشان عن دينه او جنسه او سبب عطشه حتى. والاسير حالة ادق تفصيلا، فهو العدو بلا أي اشتباه، ولكن وقوعه فى الاسر لا يحل استباحته. وهكذا لا تعرف الخطوط بالحمراء الا اذا حفظت حق الحياة الكريمة لإنسان. أما، إذا تتبعنا الخطوط الحمراء التى تضعها حكومة المؤتمر الوطني كل هوجة والثانية، سنجد انفسنا نتحرك فى دوائر مغلقة لا تفضي الى نهاية ملموسة. وهى للاسف نفس الدوائر التى ظل الوطن حبيسها طوال ربع قرن من عمره، وهدفها الرئيس هو مواصلة الكنكشة على السلطة عن طريق تكتيكات قائمة على عدد من المغالطات المنطقية الجاهزة للعب بنفسية الجماهير تحت شعارات من نوع السيادة الوطنية، خصوصية وضع القوات المسلحة، الدين، الأرض، العرض...، وغيرها من مثيرات العاطفة. فمثلا، تقول الحكومة أن القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وغيرها من القوات النظامية وغير النظامية التابعة لها، خطا احمرا، تمنع ما عداها الكلام عنه إلا على طريقة "الفيل يا ملك الزمان". لكن، كيف يستقيم ذلك والحكومة لها مطلق الحرية فىتشكيل وإعادة تشكيلهذه المؤسسات طيلة ال25 عاما الماضية، علما بأن هذه الحكومة لا يتفق معها الآخرون، ومعظهم لا يعترف بها، فهي حكومة حزب واحد ولا تمثل حكومة كل الوطن، في حين هذه القوات وهذه الأجهزة هي ملك للوطن؟وكيف يستقيم ذلك، وهذه المؤسسات طرف رئيسى فى مسألة الحرب، ومسألة بقاءعيون الامهات مفتوحة حتى الفجر في إنتظار الغائب، والمسألتان تقتاتان على دم وكرامة الانسان، ودم الانسان وكرامته خط احمر، ومنذ آلاف السنين، وليس 25 عاما فقط..؟! مثال آخر: الحكومة تعتبر لقاء المعارضة أو تفاهمها مع الجبهة الثورية خطا احمرا، أما هي فيحق لها ان تفعل ما تشاء، تدير حوارا او تسترضى مجموعة، تعلن عن اتفاقية ثلاثية او ثنائية، لا يهم، فالمهم ان الحكومة هي التي خطت الخطوط الحمراء، وهي فقط من يحل له تعديهاأو تحويلها إلى خطوط خضراء. لكنا، نرى غير ذلك. نرى أن للجبهة الثورية قضية، وهي قضية ابرزت صراعات المركز والهامش، وتفاقم هذه الصراعات جعل الحرب والموت حدثا عاديا ومناسبة يومية. ونحن نرى، أن التقاعس عن بذل الجهد لوقف هذه الحرب وبسط السلام الشامل هو الخط الأحمر الحقيقي.وإذا كانت السيادة الوطنية تعنى ان نسكت عن انتهاكات حقوق الانسان وعن قصف المدنيين، فهذا يعني أن نقبل أن هولاء المدنيين ليسوا من بني الإنسان، وأن نقبل بتسرب مفهوم الوطنية من بين يدى السيادة لتبقى السيادة وحدها سافرة ومستفزة لان السيادة الوطنية اول ما تعنى حق المواطن فى الحياة والعيش الكريم والمشاركة فى اتخاذ القرار السياسى. وهذا يعني أن "الزهايمر" السياسى قد استفحل وتمكن لدرجة نسيان أن البلاد،في ظل الإنقاذ، أصبحت، ولأول مرة في تاريخها، أكبر قاعدة عسكرية لقوات الاممالمتحدة والإتحاد الأفريقي، وكأن مقر بعثات القوات الدولية لم يكن الا "كراكون فى الشارع"..! والحكومة عندما ترفع الكارت الأحمر وتضع الخطوط الحمراءلشل أي حراك مضاد، فإنها تنسف أى "ميس"، أو بيت أمان يرتكن اليه المشفقون على عموم الناس الفقراء من وعثاء المعارك...، علما بأن الأصل عند مشرعى القوانيين وواضعى الخطوط، أن تتساكن الخطوط الحمراء مع علامة المرور الخضراء المميزة التى تشعرك بامان الانطلاق.ولكن، للأسف يبدو أن هذه العلامة الخضراء ضاعت فى بلادنا،فأستوطنتنا حرب لا تخضع للمنطق، وتتجدد اسبابها ومحفزاتها مع كل حركة هوجاء من النظام، والنتيجة اننا اصبحنا شعب محبط، لا يثق فى الحاضر ولا المستقبل، ولا توفر ابواب مطاراته حتى الخروج الآمن. لكن، لدى الشعب أيضا خطوطا حمراء: الإستبداد والطغيان خط أحمر، حماية الفساد ونهب المال العام ومنع الحديث عنه خط أحمر، الإعتقال والتعذيب خط أحمر، تقسيم البلاد خط أحمر، الغلاء خط أحمر، كنكشة حزب واحد على السلطة خط أحمر، دعاوى إستمرار الحرب وإجهاض السلام خط أحمر.....وفي الحقيقة، عندما تصبح الثوابت والمرجعيات والخطوط الحمراء محل تساؤل وخلاف وتصادم،فهذا يعني وجود أزمة عميقة، أعمق من كونها أزمة سياسية عادية نتاج للحراك الاجتماعي والسياسي في البلد، أزمة الفشل في تحقيق مشروع بناء الدولة الوطنية.وبسبب ذلك، فأنها تأخذ طابعا عنفويا وطائفيا وقبليا وتضع مؤسسة الدولة في مهب الريح.وهكذا، من الممكن جدا أن يضيع الوطن في خضم معركة تصادم وإصطراع الثوابت والخطوط الحمراء. والذي في يده القرار، والملكية الحصرية لرسم الخطوط الحمراء، وينفي الآخر، يتحمل الوذر الأكبر. التاريخ والبداهة والمنطق السليم، تؤكد ألا ثوابت وطنية ولا مرجعيات ولا خطوط حمراء بدون التراضي والتوافق والمشروع القومي المجمع عليه. وبخلاف ذلك، يصاغ الوطن ويدار حسب مشيئة وإيديولوجية الحزب الحاكم ومصالح الجماعة المسيطرة، وعندها تكون الثوابت والخطوط الحمراء مجرد وهم، ومجرد آلية لقمع الآخر وتخوينه وإقصائه. [email protected]