بات عمر غربتنا وعمر نظام الإنقاذ صنوان فلا ضربت أجراس عودتنا ولا أنصلح حال الوطن ، ولا أدركت الإنقاذ من خطابها الأول إلا النقيض. منذ عام تسعة وثمانين يوم تسارعت خطانا بدفع الشباب ووهج الثورة إلى خطوط المعارضة الأولى ضد نظام الانقلاب الجديد عبر القاهرة وإريتريا وأثيوبيا وعواصم أخرى وحتى اليوم هي أكثر من عقدين، تكاثفت فيها غربتنا عن جغرافيا الوطن رغم جريانه مجرى الدم في أوصالنا ،هي سنوات تطاول فها البنيان وتقلصت فيها مساحة الوطن وتراجع فيها مفهوم السيادة الوطنية بالوجود الفعلي للقوات الأجنبية على أرضه بغض النظر عن مبررات ومسوغات ذلك الوجود، وأصبحت المشاركة السياسية المطلوبة رهينة بهوى الحزب الحاكم وأصبح الفساد الاقتصادي يتخذ ملاذات قانونية آمنة حيث أصبح نهب المال العام على مرأى ومسمع من أصحابه ومستحقيه عملا غير مخالف للقانون بل عمل وطني تحت مسميات وعناوين ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب . وحتى محاولات الوفاق الوطني رغم مرارات الماضي وخسائر الحاضر تتبدد لتمسك المعارضة بما تسميه ضرورة تحويل دولة الحزب إلى دولة الوطن ليستقيم ظل الدولة وهذا حقها ، وتمسك حزب الدولة بما يسميه تراث دولة الإنقاذ ومكاسب التمكين وهذا ليس بحق . ومثلما نعاني في غربتنا تعاني المعارضة في ساحات نضالها وتعاني الإنقاذ في أروقة سلطانها، إلى حين إشعار آخر . ألا يكفي عقدين من السنوات أن تحمل كل طرف على إعادة حساباته وإعادة تقييم خطوه وخطواته حتى لا يتسرب الوطن من بين الأيدي ؟ تقول المعارضة وحكيمها إنها معنية بالاتفاق على ثوابت وأجندة وطنية غير مفتونة بمنصب لم يضف إلى صاحبه إلا شبهة التعدي على المال العام ،لأن العبرة بالاتفاق على جوهر القضية وسبل حلها وليس بشكليات المشاركة وهو موقف أدعى بأن يحمل المستشعرين من أهل السلطة لما يواجه السودان من تحديات أن يكونوا الأكثر حرصا على الاستجابة الوطنية طالما أن المطلب ليس لذات او لعين بل لاستقامة المسار . عقدين مضيا تبدل فيهما المشهد السياسي بين مشهد الأمس ومشهد اليوم فكم من معارض سابق التحق بركب السلطة وكم من متحمس بشّر بالنظام انطوى على نفسه وانزوى يبرئ نفسه عن ما ارتكب من أخطاء حتى أن عراب النظام نفسه جعل من زيارته الأخيرة لمصر حائط مبكى، وانقسم المبشرون بالإنقاذ على أنفسهم بين قياصرة ومنبوذين.وأصبحت المعارضة المسئولة في حيرة من أمرها بين رغبة في الحوار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتردد في المشاركة قد يكون له ما يبرره . ورغم ما تدعيه الحكومة من ثقة في نفسها في تجاوز الأزمات إلا أن ذات هذه الثقة هي التي أدت إلى تواتر الأخطاء والأزمات على نحو ما نشهده اليوم من قضايا ملتهبة تحيط بالوطن . لأن الصحيح هو أن تكون الحكومة وحزبها قد أدركت ان حصاد أكثر من عقدين في الحكم كافية لأن تعيد حساباتها فيما يحقق الإجماع الوطني والشراكة السياسية الحقيقية دون هيمنة أو استغلال لموارد الدولة أو ما تبقى منها ،ولا أدري كيف يمكن أن يرى حزب الحكومة أن مطلب تحول المؤسسات العامة والموارد العامة لأن تكون ملك الدولة والشعب أمر لا يمكن تقبله مهما كان حجم التحديات. أحسب أن السودان اليوم يواجه من التحديات ما يستوجب من الجميع التوصل إلى صيغة ما لحفظ وصيانة ما تبقى منه ولدرء ما يخطط له . ففي مقال موجه للقارئ الأميركي والغربي نشر مؤخرا للناشط الأميركي جون برندر غاست ، دعا غاست إلى ممارسة ضغوط جديدة على السودان حتى تتمكن المجموعات الأخرى في جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي وحتى الشمال القصي من تحقيق أهدافها والتي تعني في نهاية المطاف استكمال مخطط إضعاف السودان وتقسيم ما تبقى من هذا الوطن المقسم . أليس في هذا ما يستوجب التنازلات ؟ هي مجرد تأملات في ذكرى غربتنا التي تشهد تشكل سودان جديد في شتاتها بكل تفاصيله وأجيال جديدة نأمل أن نجسد لها مثالا في سودان يتسم بالحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان لتكون أكثر قدرة على تشكل بدورا جسرا لسودان المستقبل الذي نوصيهم به في آخر وصايانا.