شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تفكيك السلطة القضائية (5) القاضي الشيطان .. بقلم: عشاري أحمد محمود خليل
نشر في سودانيل يوم 23 - 07 - 2014

نشرت سودانايل بعض مقالاتي عن فساد السلطة القضائية السودانية. فمشروعي الوحيد فيما تبقى من حياتي هو تقديم إسهام مقدر لتخريب معمار الفساد القضائي في السودان. التخريب المشروع القائم على البينات وعلى العلم والمعرفة.
ثم نشرت سودانايل مقال الأستاذ الدكتور المحامي يوسف الطيب محمد التوم يرد على كتابتي. ويدافع بقوة عن ذات السلطة القضائية، التي يسميها "قضاءنا الوطني"، الذي "مازال بخير ويعمل بمهنية عالية، ومازال يحتفظ بهيبته ووقاره". ومضى يقول إن السلطة القضائية السودانية تستلهم السلف من قضاة الإسلام الصالحين، وإنه ينبغي عدم توجيه النقد والتجريح لها.
ثم نشرت سودانايل بيان تجمع المحامين الديمقراطيين عن الفساد في الأجهزة العدلية. يجب أن لا ننسى هذا البيان الجيد. علينا أن نتفكر فيه وأن نتابع موضوعاته. وأن نضغط على تجمع المحامين الديمقراطيين أن يضيفوا إلى بيانهم فقرات أساسية تتحدث عن فساد زملائهم المحامين من الذين يصنفون أنفسهم على أنهم من الديمقراطيين والتقدميين والشيوعيين ومن قادة المعارضة الحزبية. فقد خص البيان المحامين الإسلاميين والإنقاذيين بالذكر وكأنهم المحامون الوحيدون المشاركون في صناعة الفساد في الأجهزة العدلية. وهذا يضعف إمكانات العمل المشترك والتحالفات لمكافحة الفساد في الأجهزة العدلية. ولنتفق على أن محاميا إسلاميا نزيها واحدا أفضل لأهل السودان من جميع المحامين الفاسدين غير-الإسلاميين مجتمعين. للأسباب موضوع هذا المقال.
.
تكمن أهمية هذه أشكال الكتابة في أنها تضع السلطة القضائية والقضاة كموضوع لمحادثات السودانيين عن الشأن العام. فيما يتعلق بالفساد القضائي. ونكون بهذه الكتابة ثبتنا الحق في أن نتكلم عن فساد القضاة وعن فساد المؤسسة القضائية. وفي سياق وجود من يدافع بقلمه عن السلطة القضائية، سيكون ممكنا للقراء أن ينظروا في ذلك أيضا.
(2) أساليب المقاومة بغير الكتابة
قبل أن أواصل، أورد كلمة قصيرة عن أساليب أخرى للمقاومة الشعبية ضد الفساد القضائي. وسأخصص لها مقالا منفردا.أرى أهمية التفكر في ابتداع وسائل مجتمعية شعبية متعددة لمقاومة الفساد القضائي في المحاكم. بغير الكتابة. أفكر في أهمية مراقبة الحركيين للقضاة في محاكمهم. ودفع المتقاضين ضحايا فساد القضاة إلى أن يتحدوا هؤلاء القضاة. وأن يحرض الحركيون المتقاضين على عدم ترك أمرهم كله للمحامي، وأن يبينوا لهم أهمية أن يأخذوا حذرهم من محامين يتعمدون سوء تمثيل موكليهم، للرشوة بالتكتكة.فمن يصدق أن يكون المحامي خائنا لموكله؟ لكن ذلك أمر معروف.
وأن يتم الضغط على السلطة القضائية لتنشر جميع الأحكام الصادرة في الأنترنيت. وأن يجري تثقيف المجتمع أن القضاة لا يستحقون أي احترام إلا بعد أن يكتسبوه بالنزاهة الثابتة في قراراتهم القضائية المنشورة.وأن تُجرى المحادثات على المستوى المجتمعي اليومي مع الشباب ومع غيرهم للتخلص من الأوهام عن نزاهة القضاء السوداني وعن كيفية تفكيك خطاب الترهات عن الأمانة وعن نشر العدالة وقيم النزاهة الذي يصدر من القضائية ومن رئيس القضاء. وأن يتم تمثيل الفساد القضائي في الأعمال الفنية، في الموسيقى والغناء والأفلام والرسم وفي الدراما المسرحية. وفي الشعر.
إننا نتعامل مع "السلطة" القضائية السودانية. وهي سلطة فاسدة، بقضاتها، فيما عدا قلة من القضاة والموظفين وبضعة محامين فيها. لا يمكن لها أن تطالبني بالدليل لأني سلمته لها بيدي مباشرة، وعبر القنوات الرسمية.والسلطة القضائية أشد خطرا تدميريا للحياة المجتمعية وللمجتمع من السلطة التنفيذية والتشريعية. مِصر السيسي.
.
والكتابة بالنسبة لي ضرب من ضروب مقاومة فساد السلطة القضائية. ضروري فيها أن تكون لديك الأدلة بالأسماء والوقائع والوثائق والتواريخ والأرشيف الكامل لتَدفُّق الأوراق. وفي سياق ذلك أنت تستمر تُحلل وتُدقق وتَنظر وتعيد النظر وتكتب. غرضي الأساسي هو التحريض والتخريب، دائما في إطار القانون الفاسد، وبتحديه أحيانا. لأني مدرك أني أتعامل مع القاضي الفاسد ومع السلطة القضائية الفاسدة. لا مجال عندي لحديث منمق عن "الإصلاح القضائي". ودونك برامج الأمم المتحدة وغيرها للإصلاح والحوكمة. زيارات وسفرات للقضاة وكمبيوترات وورشات عمل.ذاتها خفة العقل واليد في كثير برامج الأمم المتحدة.
.
لكن، لابد من الوسائل الأخرى الغير خطابية لتخريب معامير الفساد القضائي. تلك التي ركبتها السلطة القضائية تستفز بها الشعب السوداني تحتقره وتطغى عليه وتقهره. لا نريد أن نحرق المحاكم التي تستحق الحرق كما فعل المصريون والليبيون والتونسيون. ولا نريد أن يتم إطلاق النار في السودان على القاضيالفاسد، كما حدث في اليمن وفي العراق، الأصوب كان أن يكتفوا بضربه بالنعال والبصق عليه. ولا داعي لنتف ذقون القضاة الفاسدين ولا لحلق رؤوسهم. لكني لا أرى أي حرج في أن يتم صفد أيدي القضاة الرجال والنساء الفاسدين وأرجلهم بالسلاسل الغليظة وتطويبهم كما فعل خليفة المهدي الذي يقولون لنا إنهم يستهدون بقضائه. إنهم في السلطة القضائية السودانية يتناسون ذلك إبداعه التاريخي الوحيد، التطويب للقاضي الفاسد. المماثل لإبداع كسرى الفرس الذي سلخ جلد القاضي الفاسد سيامنيس حيا ثم نسج كرسي العدالة من سيور الجلد المسلخ وأَجلس في الكرسي ابن القاضي عله يعتبر بما حدث لوالده.
.
فيأتي هذا المقال ومقالين بعده عن "شخصية القاضي الفاسد".من هو هذا القاضي الفاسد؟ هذا المُخلقَن، ما هويته، ما دواخله، وماذا يدور في دماغه؟
يُعتبر القاضي الفرد "مؤسسة" في ذاته. وكنت بيت كيف يعمل كمؤسسة تجارية تتاجر في القرارات القضائية الفاسدة.
فلا ننخدع بالقول إن علينا أن نركز على "السيستيم" فقط، لا على الأفراد!
ولا يمكن أن نفهم حركيات الفساد القضائي المؤسسي إلا إذا فهمنا هذا القاضي الفرد، كشخص وكشخصية. ومن ثم، يمكن أن نستخدم هذه المعرفة لتطوير أدوات المقاومة الشعبية ضد هذا القاضي الفاسد الفرد المؤسسة، وضد السلطة القضائية التي تحميه وتوفر له المجال واسعا ليفسد في الأرض.
القاضي المستحوذ بالشطن
إن الخصيصة الجوهرية في القاضي الفاسد في المؤسسة القضائية السودانية ليست ذلك احتقاره لسيادة القانون، يدوس عليها بحذائه. وليست صدوره من سوء أدب القاضي، لا يجد الفقه الإسلامي بشأن القضاء لديه غير الاحتقار. وهي ليست اعتماده الكذب والخداع والغش خصالا صيرها كالأصل في السلوك الأخلاقي بينما يفصل بالفساد في قضايا المتخاصمين. وليست الخصيصة خراب دواخله النفسانية المستنسخة، مهترئة بقيح الحيف وبصديد الجور متدفقين من مدد نفسانيات مؤسسة السلطة القضائية الفاسدة.
.
بل إن الخصيصة الجوهرية في القاضي الفاسد هي استحواذه الكامل بالشطن، أي بالشر الشيطاني. وهذه المقولة كنت أصلا أبحث عنها وفيها في مظانها في القرآن والسنة وفي التراث العربي الإسلامي، وفي التصويرات الثقافية العالمية للقاضي الفاسد كشخص منسل عن بني الإنسان بائع كيانه للشيطان ملتحق به ومتقمص لشخصه ولشخصيته.
ووجدت عندها أن القانونية الأمريكية لاورا أندركوفلر كانت بينت مقولة القاضي الفاسد بأنه المستحوذبالشطن، بينتها بسداد عظيم في مقال لها عن الفساد، تحت عنوان «الاستحواذ بالشر: فكرة الفساد في القانون».وطورت مقالها إلى كتاب بذات العنوان في العام 2013. وقد كنت خصصت هذا الكتاب لطلابي في كلية كولبي الجامعية في مقرر درسته لهم عن "الفساد".
فكرة الاستحواذ بالشر لدى لاورا أندركوفلر
تظل أستاذة القانون لاورا أندركوفلر (2005، 2009، 2013)، المتخصصة أصلا في فقه قانون الملكية، من أهم الأكاديميين المشغولين اليوم بمفهمة الفساد القضائي. وقد أخضعت للانتقاد كافة تعريفات الفساد القائمة على عدم القانونية، وخيانة الأمانة، والغدر، والسرية، وخرق الثقة العامة، وعدم المساواة، وعلى الشرور الاقتصادية. ثم بينت عدم كفاية تلك التعريفات بشأن «جوهر» الفساد. وأتت بمفهمة استحواذ الشخص الفاسد بالشر، الشر بمعنى الشطن، من الشيطان. كالخصيصة الجوهرية في تعريف الفساد، بما في ذلك الفساد القضائي. منطلقة في ذلك من قراءتها لخطاب الاستفظاع الأخلاقي للفساد. ومن دراستها لوضعيات للفساد في السياسة وفي القضاء وفي الحياة العامة.
.
وخصصت أندركوفلر جزءا من كتابها للفساد القضائي. بتسجيل بينات استفظاعه في القانون، بما في ذلك في لغة أحكام قضاة المحكمة العليا الأمريكية. بعلة إثارة فساد القاضي أعمق مشاعر الغضب والاشمئزاز والرهبة.(ولا ننس أن المحكمة العليا الأمريكية نفسها كانت متهمة بالفساد في قضية بوش ضد غور).
ويمكن أن نستخلص من كتابات الأستاذة الأمريكية مقولتها إن الفساد، هنا على المستوى الفردي للقاضي، وضعية تتجاوز مخالفة القانون. وتتجاوز استغلال القاضي للمنصب العام لمصلحته الشخصية. وتتجاوز خيانة الأمانة. إلى ما هو أكثر عمقا. وتستنطق لاورا أندركوفلرمفهمة الفساد من منطلق جوهره المتمثل في «الاستحواذ بالشر» لدى الشخص الفاسد ككيان متصير. وهي تتحدث أيضا عن أن النظام القضائي يمكن أن يتمثل الاستحواذ بالشر.
تخلص لاورا أندركوفلر إلى مقولتها بشأن استحواذ الشخص الفاسد بالشر إلى تكييف يعرِّف الفساد بمكونات أخلاقية. وهذا كان عبرت عنه الخطابات المجتمعية التي وصفت الفساد بعبارات تصويرية مثل «سرطان»، و«فيروس»، و«مرض»، و«وباء»، وكانت هذه الخطابات تنطلق من استفظاعها الآثار المدمرة التي يسببها الفساد، محطماً الأشخاص والمجتمعات وحكوماتها.
لكن أندركوفلر، ومع إعطائها الغلبة لنجاعة فكرة الفساد كاستحواذ بالشر، تخصص حيزا من كتابها تناقش فيه المشكلات النظرية والقانونية المستبطنة في تعريف الفساد كالاستحواذ بالشر. وتذهب إلى أن هذه الفكرة القوية، فكرة الاستحواذ بالشر الشيطاني، قد تنطوي أحيانا على تكلفة عالية. في أثرها السلبي على القانون الذي يفترض فيه أن يُجَرِّمَ الأفعال لا الشخص، ولا الحالة الشخصية، ولا النزعة الذاتية الشرانية. مما تحمله فكرة الاستحواذ بالشر. خاصة وأن توصيف الشخص وتكييفه على أنه مستحوذ بالشر وأنه نازع إليه بشكل يكاد يكون قارا في الذاتية، يجعلنا نقصي هذا الشخص الفاسد من دائرة الإنسانية وأن نصنفه ككائن خارجي.
.
وبالرغم من اتفاقي مع فكرة أندركوفلر، أذهب إلى أهمية اعتماد مقولة الاستحواذ بالشر لأجل التعرف على خبايا سلوك القاضي الفاسد، ولأجل مفهمته، والتنظير لفساده. وهذا مستوى في النظر له مكوناته ومبرراته في تعبئة الشعور العام ضد الفساد القضائي وتفسيره بلغة تعبر عن طبيعته الحقيقية. أما القانون، فأمر خارجي على ذلك. وبشأن القانون، لا أختلف مع لاورا أندركوفلر. أي، إن القاضي الفاسد، حتى وقد أكون وصمته بالشر، يمكن أن تتم محاكمته بصورة عادلة، فقط على «الأفعال» التي كان اقترفها، لا على نوازعه الذاتية الشرانية.
وقد مثلت لهذا الفصل بين ما هو تفسيري و ما هو قانوني، في كتابي غير المنشور عن الفساد القضائي. بشأن المسطرة التجريبية التي طورتها لإثبات الفساد القضائي. فبهذه المسطرة يتم الحكم على القاضي بأن أفعاله فاسدة، وبأنه قاض فاسد، فقط بعد إثبات الأخطاء القانونية المتكثرة في نص القرار القضائي، بالإضافة إلى إثبات أفعال الخداع والاحتيال والكذب والفبركة والتزييف والغش وتصنع عدم العلم بالقانون. وهذا الإثبات القانوني التجريبي لفساد القاضي بإعمال المسطرة التحقيقية لا يتطلب استنطاق النوازع الشريرة القارة في دماغ القاضي الفاسد.
هذا الإثبات «القانوني» الأولي يعين على فهم جوهر فساد القاضي على أنه من نوع الاستحواذ بالشر. فالتكييف للقاضي الفاسد كشخص مستحوذ بالشطن يأتي فقط في سياق التعرف بصورة لصيقة على «أفعاله»، وعلى مدى فظاعتها بأي مقياس للرذالة والاهتراء الأخلاقي.
أي، إني، على خلاف من أندركوفلر، أنطلق عكسيا بشأن مقولة استحواذ القاضي الفاسد بالشر. فهي تنظر أولا في النزعة الشرانية، مفترِضة تطبيقها في القانون وأثرها في تطبيقه. ثم هي من بعد ذلك تبحث عن المشكلات التي تنطوي عليها إثارة موضوع تلك النزعة الشرانية في سياق تطبيق القانون. بينما أنا أستنتج النوازع الشريرة لدى القاضي فقط بعد أن يكون تم إثبات فساده أو في سياق إثبات ذلك الفساد. لأن طبيعة شخصية القاضي الفاسد تستبين فقط عند الإثبات العلماني على أساس الموضوعية والبينة، وبأدوات التفكيك والتحليل القانوني وتحليل الخطاب والهندسة الاسترجاعية.
.
ذلك لأنه إذا بقينا على المستوى القانوني فحسب، وعاملنا «أفعال» القاضي الفاسد على أنها مجرد «أفعال» اقترفها ويلقى جزاءه القانوني عليها، وفق القانون، سنكون ضيعنا إمكانات مشروع التصدي، على المستوى المجتمعي، للفساد القضائي ومقاومته وهزيمته سياسيا وموضوعيا وأخلاقيا. لأن تفسير جوهر الفساد القضائي، والنظر إليه شعوريا وعاطفيا على أنه عمل شرير قاصد، وأن له خصوصية ووحدانية جوهرية مريعة، ذلك التفسير هو الذي يعبئ الهمة لمقاومته شعبيا ولهزيمته. فالعاطفة لها دور في التعامل مع الفساد القضائي وفي مكافحته ومقاومته اليومية.
.
من جانبي، أعمل أولا على أن يتبين لي، بالتفكيك الموضوعي العلماني، أن القاضي فعلا أفسد نص قراره القضائي. وأنه استخدم الانحراف عن القانون والخداع والكذب والاحتيال والإخفاء. وأنه بذلك شرِّه تسبب، قاصدا، في الضرر المقدر للمتقاضين الخاسرين نتيجة قراره. عندئذ، يمكن للقانون، على علاته الداخلية الفظيعة، أن يأخذ مجراه وفق الفقه القانوني القائم ووفق القوانين السارية التي تجرم تلك «الأفعال»، كأفعال مفارقة للقانون.
.
لكن الأمر لا ينتهي بالنسبة لي عند هذا الحد. ونهايته عند ذلك الحد القانوني هي المشكلة التي نجدها عند أولئك الذين يتحدثون عن "القانون" وعن "الدستور"، وعن "الفقه الإسلامي". فكلها في رأيي لا تعدو كونها وثائق مركبة تركيبا وليست منطلقات أصولية ولا قابلة للاحتكام إليها في القضايا المهمة التي تعترضنا، خاصة في وضعيات القهر والفساد في ظل هذه حكومة الإنقاذ، وفي ظل الحكومة المستقبلية التي سيكون فيها الصادق المهدي والترابي ومن لف لفهما.
فبمجرد وجود حزب الصادق المهدي وحزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي، وحزب المؤتمر الإنقاذي، وهي الأحزاب المرشحة للفوز مجتمعة في أية انتخابات ستأتي، نكون واثقين من استمرار فساد مؤسسة السلطة القضائية ومن تكريس ذات فنيات القهر والطغيان في المستقبل. وقد تكون الضمانة الوحيدة لخلق قوة ضدية للفساد القضائي هي الحركات المسلحة، والحركة المجتمعية الشعبية التي ستستمر تقاوم بوسائلها. وسيكون خطابها قريبا من خطاب الأحزاب الصغيرة، منها الحزب الشيوعي الذي تكمن قوته في بقايا خطابه التاريخي الأصولي ضد الفساد والقهر، وليس له خطاب حديث يعتد به بشأن الفساد القضائي تحديدا، رغم تكثر عدد المحامين الشيوعيين لا يتحدثون عن فساد السلطة القضائية.
.
فكل محاجة مجتمعية للمقاومة بالقانون أو بالدستور أو بالفقه الإسلامي تكون محاجة استراتيجية وقتية تطمح إلى تقويض خطاب القهر من داخله وبلغته وبوسائله. فلا أفترض صحة القانون الساري، ولا مشروعيته المطلقة، ولا نزاهته. فالقانون ذاته نسجه الإسلاميون نسجوه في غرفة مظلمة بالتآمر كانوا يريدون به تثبيت أركان مشروعهم الحضاري الخائب. والحال منطبق على الدستور وعلى المفهمة المتخلفة عند الإنقاذيين للفقه الإسلامي.
.
وهذا نوع الانتقاد يطرح أهمية العمل المجتمعي الحركي المنظم للتصدي إلى الفساد القضائي بآفاق مشروع للتغيير لا يمكن تصورها دون هزيمة ذلك الفساد القضائي في أشكاله الفردية المتمثلة في أشخاص القضاة الفاسدين، وفي أشكاله المؤسسية في النظام القضائي الفاسد.
وكل عمل مجتمعي سيجعل المفهمة الأخلاقية-الدينية للفساد فاعلة وضرورية لشجبه ولمعاقبته. ونرى أن أندركوفلر تسجل في كتابها أن مكافحة الفساد تتطلب أكثر من التهديدات القانونية، «تتطلب: محاسبية أخلاقية، وتقييما أخلاقيا، وقانونا أخلاقيا» (137-138). وتقدم أندركوفلر مفهمة الفساد كاستحواذ بالشر على أنها «مفهمة عليا»، ليس للفساد الشخصي فحسب، بل كذلك للفساد المؤسسي، حين يتم استحواذ «النظام» ذاته بالشر (140).
.
إن التعامل ضد فساد السلطة القضائية السودانية، وضد كل فساد في المؤسسات الأخرى، لا ينتهي عند بوابة القانون. ولا هو يبدأ عندها. وينبغي أن لا ننظر إلى فساد القاضي أو فساد المؤسسة القضائية حصرا عبر كوة القانون. فهذا الاقتصار يريده القضاة المسيطرون بالحيلة وبالاحتيال على تفسير القانون وعلى إنتاجه.
فالفساد القضائي ليس مشكلة قانونية. هو مشكلة مجتمعية متعددة الجوانب المعرفية. وهذا يعيدني لفكرة هذا مقالي عن القاضي الفاسد المستحوذ بالشر العظيم. والشر العظيم له أسس تجريبية في الحياة يرصدها علم النفس وعلم الطب النفسي، خاصة في أبعادها المتعلقة بالسلوكيات الغير طبيعية مثل السايكوباثية والسوسيوباثية والنرجسية. وقد عرفه إجرائيا العالم النفساني فيليب زيمباردو في كتابه، «الأثر الإبليسي»، على النحو التالي:
ينطوي الشر على قصد السلوك بطرق تؤذي الأبرياء الآخرين وتسيء إليهم، وتحطهم، وتجردهم من إنسانيتهم، أو تدمرهم –أو، إن الشر هو استخدام السلطة والقوة المنتظمة لتشجيع آخرين أو السماح لهم لينفذوا تلك الأفعال السابقة، لحسابك ونيابة عنك. والشر، باختصار، هو أن تكون عارفا بالأفضل لكنك تفعل الأسوأ.
.
كذلك للشر أساس بيولوجي مادي في دماغ الإنسان، هنا القاضي الفاسد. في العصبونات الدماغية مكان حركيات العواطف الشريرة كالعدوان والخداع، وحركيات اتخاذ القرار، وحل المشكلات، والتسبيب، والذاكرة، والتعلم، وغيرها. وهي من السلوكيات الأساسية التي يُنزِّلها القاضي من دماغه الفاسد لإنتاج سلوكياته الفسادية. بالإضافةإلى اعتماد الإدراك البشري لوجود الشر، والشيطان شخصيا. هو المعبر عنه في المعتقدات وفي الثقافات البشرية.
والوقائع تدفعنا دفعا إلى أن ننظر إلى السلطة القضائية السودانية على أنها مؤسسة لها عقل شرير ويد شريرة. مثلها مثل قضاتها الأفراد مستحوذة هي أيضا بالشطن. الشر الشيطاني المستشري فيها كثقافة حرابية قارة، وكعقيدة راسخة لدى معتنقيها من قيادات القضاة، ولدى قادتهم المتحدثين باسم الفساد. مما سأعرض له تباعا في مقالات لاحقة.
.
أهمية الحذر من القاضي الفاسد
ومن ثم، فإزاء هذا القاضي المستحوذ بالشر العظيم، والمحمي من قبل السلطة القضائية الشريرة، أرى أنه ينبغي على المواطن، خاصة المتقاضي، أن يتخذ أقصى درجات الحذر والحيطة. فإن هذا المواطن المتقاضي المستهدَف بل هو لعلى موعد مع الشيطان ذاته، ينتظره في المحكمة. الشيطان المتقمصه القاضي الفاسد في وعيه الكامل بمخططاته للشر. القاضي الفاسد قاطع الطريق. الهمباتي المرابط متربصا في قاعة تلك محكمته. أو هي القاضية الفاسدة الممتسكة بسَعر الفساد في وعيها الكامل بالذات الفسادية، هي المتقمصته شيطان الشر كرفيقته متربصة. بعد أن تخلى الله عنهما القاضي والقاضية وألزمهما له ذلك الشيطان. الشيطان الذي «يجري من ابن آدم» دما باردا متمددا في الشرايين. مغذيا عصبونات الناصية الدماغية، مخدع الشر العظيم في الدماغ القضائي الفاسد. «كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة».
.
ففساد القاضي، هو الفساد بهذا معناه القرآني العميق. المتجاوز لمجرد عدم أخلاقية أفعال القاضي أو لشناعتها. الفساد في مرحلة ما بعد الخيانة. وفيما بعد الفجور. وما بعد الهوس الواعي. وما بعد المعصية. في دائرة الغرابة المريعة. في الشر العظيم. القار في الغرف المظلَّمة في دماغ القاضي. الشر المُفعَّل بالسلطة التقديرية الإفسادية المكرسة. امتداداته متدفقة في السلوكيات الإجرامية المخرَّجة من ذلك الدماغ الفاسد. إفسادا قضائيا في الأرض. مكيَّفا على أنه الكفر ذاته، «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون». وما هذا الاقتباس إلا في سياق المقاومة المجتمعية الاستراتيجية تدير الطاولة ضد قاضي الإسلام الذي ظل يكفِّر ويستتيب ويجلد ويحكم بالشنق وبالرجم يتم سقيه من ذات كأسه.
.
فخطاب مقاومة الفساد القضائي يذهب إلى أن القاضي الفاسد، رجلا أكان أم امرأة، إبليس يائس من الرحمة الإلهية. قامع لتلك قلائل عصبونات الفطرة المُحبة للبقاء باختيار الصلاح التطوري. هذا القاضي مطْلقٌ نيران عصبونات الشر يُفعِّل هيجانها في دماغه. إن هذا القاضي الفاسد معتزم دوما طريق الجريمة القضائية عنه لن ينثني. منسلخ عن جوهر الصلاح المشرئبة إليه العقول والقلوب. حتى لدى غلاة المجرمين الطغاة. أو عند العصاة القساة.
القاضي الفاسد مثلي قرينه الشيطان المتنزَّل في دماغه يعيش وفي عقله يوسوس. مسكونة إدراكاته، هذا الممسوخ، بالشر. الشر، ليس كما نتخيله غير محدد المعالم. وليس كما نظنه ولا كما نصوِّره تصويرا بلغة الاستعارة في أشكالها الجمالية. بل الشر هنا كحقيقة اجتماعية مُجسْدنة ومُتصيِّرة في أفعال القاضي الثابت فساده. حقيقة مادية تسري في الواقع السلوكي الخاضع للتشريح بأدوات العلم والمعرفة. حقيقته الشر ندركها بالعقل. وبالإدراك، نراها، بل نبصرها. ونسمعها، ونشمها، ونحسها باللمس. في الكتابة الاحتيالية المتدبرة التي ينسج بها القاضي الفاسد نص قراره القضائي بالانحراف والخداع والتدليس. فتستدعي لدينا الإدانة الأخلاقية الصارخة المعبرة عن الاشمئزاز والرهبة.
.
والقاضي الفاسد، في غياب المحاسبية المؤسسية، وفي ضعف المراقبة الشعبية، يُقطِّع أسلاك الخوف في دماغه الفاسد. فيستأسد يتنمر يَحْرَنْفِش. ويتصير حيوانا عدوانيا شريسا. نراه حديدي الأعصاب مباغتاً. ينْقَض على المتقاضي الغافل ينهشه بوحشية طقسية. لا تخالجه مشاعر للشفقة ولا للرحمة. ولا ينتابه ندم. يخوض ويلعب في نص القرار القضائي. يُهدِّم مواد القانون. يخنق الوقائع. ويغتال الحقوق غيلةً. ثم، هو القاضي الفاسد، يجثم بعجيزته فوق الجثث. في هدوء إجرامي يبتسم. يأكل ويشرب. يتلمظ يتجشأ قيء فعاله الاحتيالية. محكمته هي كنيفه ومذهبهيُخرِّج فيهما مَدد نصوص قراراته القضائية الفاسدة. وفي أريكة محكمته يتمطى في خموله ويستعرض، في مخياله، آخر أخبار الترقيات إلى محكمة الاستئناف وإلى المحكمة العليا، وما بعدهما.
وهو، هذا القاضي الفاسد، من أوابد الحيَّات الشياطين في مفعاة القضائية. يُعَمِّر فيها بعقود العمل المتطاولة، وبشهادة الميلاد المزورة. لا يموت حتف أنفه. فلابد من قَصْد القضاء عليه. بالمقاومة الشعبية المرتكزة على العلم وعلى المعرفة والبينة.
فلقد حاولت تبيينالبعد غير الأخلاقي في شخصية القاضي الفاسد. وأن هذا القاضي الفاسد لا يعدو كونه شخصا مستحوذا بالشطن. عليه، يمكن للمقاومة الشعبية من قِبل المواطنين والمتقاضين والحركيين في المحاكم وخارجها أن تتصدي له وهي تعرف الآن هذه حقيقته.
عشاري أحمد محمود خليل
[email protected]
////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.