( أعيد نشر هذا المقال / النوستاليجا بناءاً على طلب عدد من أبناء الفريع – خاصة الأجيال الجديدة منهم - الذين لم أتشرف بمقابلتهم و أوصلوا لي هذه الرغبة عن طريق بعض إخوتهم الكبار من جيلي ) بعد غياب دام لأكثر من عشرين عاماً، وتجوال في أركان الدنيا الأربعة ، رفع الله قدمي في مطلع شهر سبتمبر الجاري ، و أعانني على زيارة وطني الصغير و مسقط رأسي ، قرية الفريع القديم ، في الطرف الشمالي من مدينة الدامر . في زمان طفولتنا و يفاعتنا في خمسينيات القرن الماضي لم يكن هنالك غير فريع واحد لذلك لم يكن المرء في حاجة لإلحاق صفة " القديم " بإسمه..لكن الآن بعد ظهور فريع آخر شرق خط السكة حديد عرف بالفريع الجديد ( أو حلة فوق ) على طريق الإسفلت الجديد إلى مدينة عطبرة ، فضلاً عن ظهور حي آخر شمال الفريع الجديد أطلق عليه اسم " البان جديد " ، أصبح من الضروري التمييز بين هذه الأحياء الجديدة وبين فريعنا الأصلي الواقع شمال حي العشير في الطريق إلى الدامر و جنوب حي الكنوز في الطريق إلى عطبرة مروراً بقرية العكد ( حيث مصنع الأسمنت القديم ) . طريق الإسفلت الجديد لعطبرة و منها إلى هيا و بورتسودان ( طريق التحدي ) أصبح هو الطريق الرئيسي بين الدامر و عطبرة ماراً بحي الفريع الجديد ثم بالكبرى الوسيع الجديد على نهر عطبرة ( أو الأتبراوي كما يعرف بين أهالي المنطقة ) و ذلك بدلاً من الشارع القديم غير المعبد الذي كان يمر عبر قريتنا الفريع القديمة . الطريق المسفلت و الجسر الجديد على الأتبراوي وضعا على المنطقة مسحة من الجدة و التطور لا تخطئها العين. للمقارنة أذكر أن الرحلة من قريتنا لعطبرة تلك الأيام عبر الطريق والكبري القديمين كانت تستغرق على الأقل ساعة من الزمان – هذا في غير زمن الأمطار و في حالة توفر مركبة بحالة جيدة - أما الآن فإن نفس الرحلة لا تأخذ أكثر من خمس عشرة دقيقة مع وجود الحافلات و عربات الأجرة الحديثة ! ( في تلك الأيام كنا إذا أردنا دخول السينما في عطبرة التي كان عرضها يبدأ في حوالي السادسة و النصف كان علينا أن نبدأ في تجهيز أنفسنا منذ الرابعة عصراً ! ) . كما ذكرت ، في شمال الفريع القديم توجد قرية الكنوز ( موطن الصديق و ابن الدفعة في الدامر الأولية الشمالية و أسرع عداء بالمدرسة : الأستاذ عوض الله الحسين .. أين هو الآن ياترى ؟! ) .. التي لاحظت أنها ازدادت اتساعاً و عمراناً بل أصبحت تحتضن مدرسة ثانوية جميلة المباني للبنات . كذلك قام شمال الفريع الجديدة حي آخر – كما أسلفت – هو حي البان جديد .. وقد سعدت عندما وجدت فيه بعضاً من الأهل و الأصدقاء : الشيخ الهجا ، عوض البرعي ، و لاعب الدامر الفذ ( و فريق الشاطئ العطبراوي لاحقاً ) الأستاذ المعلم عباس الطيَب الناظر الذي يعد من أحرف لاعبي كرة القدم الذين شهدتهم مدينتا الدامر و عطبرة في خلال الستينيات و السبعينيات من القرن الماضي .. و هو شقيق لاعب الدامر الفنان الآخر المغترب بالسعودية حالياً الأستاذ أحمد الطيَب . ( ذكر لي الأستاذ عباس مرة أنه أثناء المباراة لم يكن يهتم بالنتيجة قدر اهتمامه بالاستمتاع باللعب الجميل و أنه كان يحزن عندما يعلن الحكم نهاية المباراة ! ) على ذكر المدارس و التعليم ، سررت كثيراً عندما علمت أن بالدامر حالياً حوالي عشر مدارس أساس و خمس مدارس ثانوية للبنين و للبنات و كلية للمعلمين و المعلمات هذا بالإضافة لوجود كلية التجارة التابعة لجامعة وادي النيل بالدامر. و أهم من ذلك وجدت أن نار المجاذيب لا تزال متقدة في خلاويهم و مساجدهم المعروفة تحفَظ كتاب الله و تعلَم التجويد و التفسير و الفقه . وقد أتيح لنا خلال زيارتنا شرف الالتقاء بخليفة المجاذيب الشيخ / هاشم السهيلي و إبنه المأمون و مرشدهم الشيخ / مجذوب المكي . لم تخل الزيارة ، بالطبع ، من بعض الطرائف أذكر منها أن بعض أندادي و معارفي حرصوا على امتحاني .. فكان الواحد منهم يقترب مني كثيراً و ينظر في عيني مباشرة و يسألني هل عرفتني ؟! ولما كنت كثيراً ما أسقط في الامتحان ، قلت في نفسي بما أن الهجوم هو خير وسائل الدفاع فمن الأفضل أن أبادر بسؤال من يقابلني : هل عرفتني ؟! ولدهشتي رسب عدد منهم - و صرت بهذه الطريقة اتفادى الحرج ! إبن عمنا المعلم و الموجَه التربوي الأستاذ محمد عبد الحفيظ الشين رجل لا تنقصه الفكاهة - فعندما أثقلت عليه بضرورة زيارة فلان وعلان أصبحت ردوده مختصرة للغاية : - يا أخي نمشي نزور فلان ؟ - سيبك منو ..هو الآن خارج الشبكة ( يعني أصبح فاقداً للذاكرة ! ) . - طيَب نزور علان ؟ - البقية في حياتك .. ده دقَولو خروج نهائي ز ماااااا ن( يعني أنه توفيَ ! ) . أخيراً : ما أجمل أن يمد الله في الأيام ليتمكن المرء من العودة – بعد زمن طويل - لمسقط رأسه و مراتع طفولته ليرى ما فعلت الأيام بها و بأنداده الذين أحبهم و عاش معهم طفولته و صباه الباكر و ما فعلت بالديار و الأمكنة التي ألفها و أحبها - على وجه الخصوص الخلاوي والمدارس التي شهدت أولى خطواته نحو الدراسة و البحث عن العلم و المعرفة استعداداً لحياة مقبلة ما كان يدرك كبير شيء عن كنهها و أسرارها . [email protected]