تضمر الأيدلوجيا الحزبية نفيا مقنعا لمعنى الوطنية . فنسقفها المغلق غالبا ما يخفي تماهيا يوحي بتفسير ما للوطنية ضمن تعريف حصري لبرنامج الحزب وشعاراته . ولهذا حين نتأمل اليوم ما جرى للسودانيين بعد الحالة الثورية في أكتوبر العام 1964م التي أسقطت نظام عبود العسكري ؛ سنجد أن غياب الرؤية المعرفية للكيانية الوطنية ، كان يعبر عن حضوره بالأحزاب العقائدية التي لم تكن تتوفر في أدبياتها ، آنذاك ، على تصور معرفي دقيق ومنضبط لكيانية وطنية حديثة قابلة للاندراج في تصور عام ، وقادرة على استقطاب الوعي الجمعي للمواطنين . ففيما كانت الأحزاب التقليدية تمارس " الوطنية " الزائفة من خلال بنى عشائرية وطائفية ما قبل حداثية ؛ كان الحداثة المفترضة في الأحزاب العقائدية هي الوجه الآخر للآيدلوجيا . ذلك أن القاسم المشترك الخفي بين خطابي الأحزاب العقائدية والتقليدية جسدته الأوتوقراطية التي عكست غيابا لمرجعية الوعي النقدي في خطاب تلك الأحزاب . أي أن تلك الأحزاب جميعها كانت تمارس حراكا نسقيا مغلقا ظل باستمرار يتوهم مطابقة افتراضية بين رؤيتها الحزبية ورؤيتها للوطنية بحسبانها تأويلا مطابقا لبرنامج الحزب . والحال إن إخفاق ما عرف بثورة أكتوبر عام 1964م ، ثم انتفاضة إبريل عام 1985م نتجت عنه ، مرة أخرى ، عودة عسكرية لليسار واليمين بعد المساهمة في تلك الحالة الثورية ، عبر العنف الانقلابي (اليسار في 69 واليمين في 89) ليجسدا بذلك المفارقة الأكبر على غياب تلك الكيانية الوطنية المنضبطة بمفهوم المواطنة ومعناه القائم على الحقوق . ف" الكيانية الوطنية " بما تعنيه من وجود لنظام إدراك وطني عابر للأحزاب وعاكس لرؤية وطنية واعية بذاتها عبر منهج معرفي مؤسس ل" السودانوية " كان بإمكانها أن تكون مخاضا لحلول المشكلات المعيقة لاندماج السودانيين في هوية وطنية ، عبر أفكار وتشريعات ، ومناهج لمختلف جوانب الحياة السودانية ؛ بحثا عن حلول إستراتيجية ضامنة لمعادلات النسيج الوطني الضامن ، بدوره ، للسلام والوحدة والديمقراطية ، والمنبثق عن تجانس ترعاه الدولة ، ليكون انعكاسا للأمة في المواطن ؛ تجانس ينتجه نظام تعليمي موَّحد يجعل من الهوية والمواطنة وجهين لعملة واحدة بالطبع لا يمكننا نفي وجود صورة ما لهذا الاتجاه لاسيما مع الإحساس المبكر والخام بالوطنية السودانية لدى جماعة اللواء الأبيض العام 1924م، والجماعات الوطنية الأخرى التي واجهت الاستعمار الإنجليزي ، ثم الجهود الوطنية الخجولة في بعض مناهج وكتابات النظام التعليمي المبكر. كانت الوطنية في الذهنية العامة للسودانيين و العرب كما لو أنها معطى جاهزا لا يحتاج إلى تأسيس أو صيرورة أو رؤية لهويتها الواضحة في علاقات المواطنين ووعيهم (هنا ربما كان الإسلام الموروث ، وهويات ما قبل الحداثة : الطائفية ، القبائلية ، تعكس التباسا وتشويشا في وضوح ذلك الوعي الوطني وتمثلاته) أي أن ما غاب هو : ضرورة التفكير في الحاجة إلى إعادة إنتاج مفهوم الدولة - الأمة ، الذي كان هو موضوع الوطنية في الغرب ، والذي قام عبر صيرورة دامية ومعقدة انتهت باتفاقية وستفاليا العام (1648) التي أحلت الدول الوطنية محل الإمبراطوريات الدينية ، والمواطنين في تشريعاتها العامة ، محل المؤمنين ، والشعب محل الطوائف . ومع أن التفكير في الكيانية الوطنية كان ضرورة قصوى ، لكن ذلك لم يحدث على النحو العميق الذي يستوعب معنى الوطنية وينتج مفاعليها الموضوعية في واقع الدولة السودانية . ولأن واقع الدولة السودانية اليوم أصبح واقعا مأزوماً ومنقسما، باتفاق الجميع ؛ فإن غياب تلك الرؤية المتمثلة لمفهوم الكيانية الوطنية هو سبب ذلك المأزق لواقع السودان اليوم ؛ إذ أن الوصول إلى تلك الرؤية وهو ما عجزت عنه تاريخيا ، جميع الأحزاب السودانية . لقد كان من شأن غياب التركيز على تأويل معرفي للفكر الوطني في خطاب الأحزاب الذي ظل مرتكزا على آيدلوجيا نظرية يشوبها ميل أممي في ذلك الخطاب ، لاسيما في سنوات الحرب الباردة ؛ أن جعل من خطاب الإسلامويين خطابا طهوريا ومتعاليا عن الواقع ، فيما جعل من خطاب الماركسيين خطابا منفعلا بأطروحات وتنظيرات الاستقطاب في الحرب الباردة ، دون أن يكون أي من الخطابين قادرا على الالتفات إلى إشكالات البنية الداخلية والعميقة للمجتمع السوداني والتي كانت في حاجة إلى استقطاب تناقضاتها بالتفكير في هوية سودانوية تعيد بناء السودان عبر تعميق معنى مفهوم الدولة - الأمة ، أو الدولة الوطنية . هذا ما أدركه غاندي مثلا ، وهو يعيد تأسيس كيانية وطنية واعية بالتحديات الداخلية للهند ما بعد الاستعمار ، تم تطويرها ، بعد ذلك من خلال الحكومات المتعاقبة . حدث ذلك في الهند ، قبيل وبعد الحرب الباردة ، وفي قلب الاستقطاب الأيدلوجي بين المعسكرين: الاشتراكي والرأسمالي ، لكنه لم يحدث في السودان ، ولا في المنطقة العربية . ونخشى القول أن ما يحدث اليوم من تصفية للربيع العربي في مصر ، مثلا ، هو ضرب من إعادة إنتاج تصفية ثورتي أكتوبر وإبريل السودانيتين في زمن مختلف ، وبأدوات مختلفة . نقلا عن موقع العربي الجديد