طرح الزميل صلاح شعيب جملة من الاضاءات على شاعر الأغنية الراحل أبو آمنة حامد؛ مع ثلة من الأسئلة المشروعة حول حياة الرجل وعلاقته بمحيطه الفني والظروف التي كابدها كغيره من مبدعي بلادي وكثير منهم يعف اللسان حياءً عن نشر معاناتهم خشية أن يتململوا حزناً وأسفا وهم في مراقدهم الأبدية تلك. مات شاعر الأغنية الفذ محمد بشير عتيق وهو يتوق الى طباعة أعماله الشعرية الخالدة في وجدان الناس ورحل دون تحقيق حلمه النبيل. ورحل الفنان أحمد الجابري كروان الفن السوداني وقد انفض سامر المبدعين من حوله بالحارة الخامسة بأمدرمان، ورأيت الفنان الذري ابراهيم عوض بحي العرب أم درمان وهو لا يحظى بعشر معشار ما يحظى به متسلقو جدار الفنون اليوم من المجروسات والراستات والدفارات ومرددي أغاني الراب. أبو أمنة حامد مبدع من الدرجة الاولى لا يختلف على تفرده إثنان على الرغم من تحفظ الكثيرين على منهجه كفنان ينتظر منه المجتمع أن يقدم له المثال الحي والقائد لجيل جديد من المبدعين المتفردين. لست من جيل أبو آمنة حامد وأقولها تأدبا لا تهربا من الوقار أو خشية أن تنتاشني سهام الاحالة الى المعاش، لكني مع ذلك عرفته عن قرب في رحلات ثقافية وفنية عديدة، وما ينبيك عن الاصحاب مثل السفر والترحال. عاش أبو امنة فقيرا لكنه كان غنيا بانتاجه الادبي ورفقته الماتعة وتعليقاته الساخرة المتفردة. وكما قال زميلنا صلاح شعيب لم أر مثله من يجيد المزج بين العامية والفصحى وهو يلخص الاحداث تلخيصا شيقا جميلا شاردا جريئا ومحرجا للصحفيين في كثير من الأحيان. سئل ذات يوم عن النظام السياسي الأمثل لحكم السودان ، وكان مقدم البرنامج يمني النفس بأن يسمع منه ما يشيد بالتجربة الاسلامية في الحكم، والانجازات التي حققتها الانقاذ وهي لا تزال في عامها الأول، لكن الفتي الهدندوي كان صعب القياد مثل وحش نافر شارد لا يستقر على حال ، وكانت إجابته ، أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بعث الى الأمة ، قال له جبريل عليه السلام (إقرا ) ولم يقل له أعمل انقلاب. كان صديقا لوزير نافذ يمضي معه الساعات الطوال وتصادف ان دخلت الى مكتب الوزير وابو امنة معه والوزير منشغل بالرد على هاتفه المكتبي ، فاذا به يقول لي ، ما الذي أتى بك الى هذه المقبرة. قيل له بماذا تصف نفسك ؟ قال أنا هدندوي ضل طريقه في النيل .. وكان محقا في ذلك الوصف ، فالهدندوي ببيئته الجبلية الصلبة لم يكن متكيفا أبدا مع مناخاته النيلية الجديدة. ولهذا السبب تقلب في وظائف عدة ، حصل على دبلوم العلوم الشرطية من كلية الشرطة وتخرج ضابطا ولكن أنى لشاعر متمرد رافض أن يصبح مسؤولا عن ضبط النظام العام وهو أول المنقلبين عليه، وانتقل الى العمل بوزارة الخارجية وكان منزله في القاهرة ملتقى السمار من كل شاكلة ولون ، وعاد الى ديوان الخارجية بالخرطوم واذا بالدبلوماسية أكثر قسوة في انضباطها من الشرطة نفسها في طرائق اللبس والأكل والكلام وادارة الحوار وضوابط العمل والسلوك، والشاعر البدوي يطلق العنان لهفواته وخلجاته لترسم خطواتها قبل أن يرسم هو خطواته المقبلات. وقد حدثني زميل له بانه كان يخلع ربطة عنقه ويضعها على مكتبه وتبقى على ذلك الحال أياما ، وعندما جاء الدكتور منصور خالد وزير للخارجية وقع ابو امنه حامد ضحية لسياسة الانضباط المراسمي الصارم التي وضعها الوزير الجديد وقيل انه حذره مرارا من سلوكياته التي تناقض وظيفته كدبلوماسي وكانت قاصمة الظهر أن خرج الوزير من مكتبه بسيارته الفارهة وما أن استدار على شارع الجامعة فاذا به يفاجأ بشاعر الدبلوماسية جاثيا الى جانب عدد من العامة يحتسي كوبا من ( ست الشاي) وقيل أن تلك الحادثة كانت سبب فصله من الخدمة رغم مرافعة الكثيرين عنه بانه شاعر شعبي يجد نفسه ويلهم افكاره من مجالسة العامة ولو على الطرقات العامة وان دفعه ذلك الى خلع جلباب الدبلوماسية الى الأبد.وهكذا مضى زمن على الدبلوماسية السودانية وكان في معيتها الشعراء صلاح أحمد ابراهيم ومحمد المكي ابراهيم والناقد عبد الهادي الصديق ، صاحب نقوش على قبر الخليل ، وهرب ملهم الشعراء من ديار الدبلوماسية ليبقى ملهم الدولارات التي هاجمها الوزير نفسه. فوجئت بمحبة جارفة حباها له أبناء بحر الغزال في واو ، استمعوا إلى أشعاره ورددوا أغانيه، سال من شعرها الذهب ووشوشني العبير ، ولسان حال دينكا واو ومريال باي ونهر الجور يقول : إنني لم أفهم اللحن لكني على الايقاع ساهر. عاد أبو آمنه من عاصمة بحر الغزال وكتب مقالا جميلا بعنوان واو الجوهرة،عددته من عيون الكتابات الادبية والثقافية الماتعة. [email protected]