مقتل البلوغر العراقية الشهيرة أم فهد    إسقاط مسيرتين فوق سماء مدينة مروي    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    كهرباء السودان: اكتمال الأعمال الخاصة باستيعاب الطاقة الكهربائية من محطة الطاقة الشمسية بمصنع الشمال للأسمنت    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    أمس حبيت راسك!    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سبتمبر الأخضر ... نفح الذكرى ومرارة التاريخ (4) .. بقلم: د. عبد الله البخاري الجعلي
نشر في سودانيل يوم 23 - 09 - 2014


بسم الله الرحمن الرحيم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
(28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ
(29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
كانت الساعة حوالي الحادية عشر صباحا ، وشارع الشنقيطي من حولي يغلي كالمرجل . الكل هنا كانت تأخذه الحماسة ، والكثير منا أحس بنشوة عابرة لأنتصار معنوي على قوات الأحتياطي المركزي ، التي آثرت وقتها التراجع وعدم الأصطدام مع المواطنين الغاضبين والأكتفاء بالوقوف عند أول الشارع أمام جامعة العلوم والتقانة - مجمع الشنقيطي .
حاولت الأتصال ساعتها ببعض أصدقائي ، أقصد السؤال عن أحوال المناطق الآخرى بمدينة أم درمان و مثلث العاصمة ، وكان لسوء حظي أن الرصيد في هاتفي السيار كان فارغا ، وكل مكاتب تحويل الرصيد حولي بتقاطع الشنقيطي كانت قد أغلقت أبوابها وغادر بعض أصحابها المكان والبعض الآخر أنضم لحشود المتظاهرين .
تقاذفتنا قنابل الرصاص المطاطي و الغازات المسيلة للدموع من كل حدب و صوب من الساعة التاسعة وحتى الحادية عشرة صباحا ، و مابين كر و فر بيننا وبين قوات الأحتياطي المركزي ، كانت النساء من حولنا في المكان يشجعون و يدفعون الشباب للصمود ، و يحملن أغصان و أوراق شجر النيم ، يقمن بتوزيعها لكل الشباب الثائر للتخفيف من أثر هذه الغازات المسيلة للدموع .
على صعيد آخر مافتىء البعض ممن أعتاد على ممارسة التظاهر يحذر من حوله من مغبة غسل الماء بالوجه ، أو محاولة حمل عبوات تلك الغازات المسيلة للدموع ، لأرجاعها و رميها على قوات الشرطة خوفا من أن أحد أنواعها قد ينفجر على يد من يحاول حملها .
بدأ بعض الشباب الثائر يتجه نحو الأشارات المرورية ويقوم بتحطيمها ، وجنح آخرون لأقتناص غنيمة حكومية أخرى أسمها ( باص الوالي ) ، قاموا بعد أنزال السائق و مساعده بتحطيمه وحرقه لما كان يمثل لهم أحد رموز ومتعلقات النظام الحاكم و الوالي عبدالرحمن الخضر .
في أثناء ذلك كنا ومجموعة بسيطة من الشباب الجامعي نحاول بصعوبة جمة توجيه هذا الشباب الثائر نحو أهداف رئيسية ،وهي الأبتعاد عن التخريب في الممتلكات العامة ، والأكتفاء بصد هجوم قوات الشرطة و شحذ أكبر كمية ممكنة من المواطنين للخروج للشارع وعدم الخوف من أستعمال القوات النظامية للرصاص الحي لأن البعض وقتها كانت لديه مخاوف كبيرة من أضطرار الشرطة لأستعمالها هذا السلاح ضد المتظاهرين العزل لفضهم .
كانت لدينا حتى تلك اللحظة الفارقة حسن ظن كبير بتلك القوات النظامية و من يقودها ويعطيها الأوامر وذلك بعدم تعدي الخطوط الحمراء و اللجوء للقتل بالرصاص الحي من أجل ترهيب المواطنين وأجبارهم لفض التظاهرة !
لم نستطع بشكل مثالي ان نحكم قبضتنا و تسييرنا لذلك الشباب الثائر بسبب حالتي الغضب العارم واليأس الشديد اللتان كانتا تتملكهم و تدفعهم بلا هوادة لتحطيم كل شيء يمت لحكومة هذا النظام .
كان جمعهم أشبه بخليط كوكتيل الفواكه لا تظهر عليه أي سمة حزبية ، وما كان ظاهرا أمامي بشكل واضح لا يقبل التشكيك ، أن جلهم من الجيل المحطم من تلك الأغلبية الصامتة التي دمرت الأنقاذ حياتها ، و أستنفدت أحلامها ، وقهرت رغبة الطموح للحياة في دواخلها ، فخرجت هذه الجموع نحو التظاهر تقصد في الأساس التنفيث عن ضغوطاتها الحياتية و أسماع الحاكم جراحاتها و أنكسارتها التي مثلتها ببشاعة مرة قيادة الطغمة الفاسدة لحزب المؤتمر الوطني و التي تتحكم في مصائرهم ومصير هذه البلاد لربع قرن من الزمان دون وازع من ضمير أنساني أو محاسبة أو مراجعة حقيقية لأخطائهم الكارثية .
كانت البراءة و الصدق ينضحان من دواخلهم ، حتى أنهم لم يكونوا يعرفون ماذا كان يجب عليهم ان يصيحوا و ينادوا به لأستنهاض همم الناس من حولهم .
حاولت في بعض الأحيان بعد أن شعرت بروح الثقة التي منحوني لها بتلقينهم بعض الشعارات الثورية التي تحفظها أفئدتهم لكن بساطتهم و نقائهم حجبتها عن ألسنتهم .
كنت أطالبهم أيضا مرارا و تكرارا أن يلتزموا السلمية مع أي مواطن آثر الفرجة أو عدم الأشتراك في المظاهرة ، وأن يكفوا أيضا عن السؤال عن هوية أي شخص يدخل بينهم حتى لا يتسرب الشك لنفوسهم في ولاء من كان في صفوفهم ، فيظن الكثير منهم أننا مخترقون من قبل ألوية النظام ، فينفرط العقد .
حدث أثناء ذلك أمر مؤسف للغاية كان في حوالي الساعة الحادية عشرة النصف ، بعد خلو المكان تقريبا من قوات الشرطة .
جائت عربة بيضاء جياد قادمة من أتجاه الشرق من تقاطع شقلبان بشارع النص نحو مركز الفوران و الهياج للشباب الثائر في تقاطع الرومي .
ظن الكثيرون من هؤلاء الشباب الثائر وقتها أن تلك العربة تتبع لجهاز الأمن ، فقاموا بالصياح و توجيه الجموع نحوها من أجل تحطيمها ، و كان بداخل تلك العربة شاب في حوالي العقد الرابع من العمر تجلس في جواره أمه .
قامت جموع المتظاهرين بمحاوطة العربة ثم القفز من فوقها و من أمامها ومن خلفيتها حتى أن نفر منا قام بمحاولة أثناء و توقيف هؤلاء الشباب الثائر من ذلك الفعل ، وشرح لهم أن هذه الشاب لا يمت بأي صلة لجهاز الأمن .
أعتقد أن الأصرار الغريب وغير الحكيم لذلك الشاب لسلك هذا الطريق الملتهب رغم أنه قد يكون نبه لتفاديه من شارع النص ، أستفز الشباب الثائر و جعلهم أكثر أقتناعا بأنه من عيون النظام ، فغلبت في الأخير كثرتهم على حكمتنا و شجاعتنا .
أخرجنا الشاب و أمه من العربة بصعوبة ، وقمنا بحمايته من عدوان الجموع المحتشدة حوله وقمنا بتركيبه هو و أمه ركشة للهروب من مسرح المكان رغم أصراره عدم مغادرة العربة . للأسف الشديد تحطمت العربة كليا ، وحاول البعض أحراقها كبص الوالي غير أننا أستطعنا بمجهود جبار أثنائهم عن ذلك .
وقتها جاءني اتصال من صديق وزميل دراسة من خارج العاصمة وهو الأخ ( أ . ص ) يحاول الأستفسار عن سلامتي بعد أن تنامى لعلمه أن شارع الشنقيطي قد ألتهب و خرج سكان الحارات التي حوله للتظاهر ضد قرار رفع الدعم عن المحروقات .
طمأنته على حالتي وطلبت منه أن يرسل لي رصيد في هاتفي السيار ثم ليتقصى لي عن أخبار و أحوال المناطق الأخرى بالعاصمة .
كنت ساعتها متحمسا لحد بعيد حتى أنني أعتقدت جازما أن كل أرجاء العاصمة بل كل السودان قد أنتفض وخرج للشارع أعتراضا على هذا القرار المثير للجدل .
بعد حوالي ربع ساعة عاد لي بأتصال آخر نفس هذا الصديق ، وملكني تقرير شبه شامل عن حالة الوضع العام في مدن العاصمة الثلاث .
كانت المفاجأة الثقيلة و المريرة على قلبي حينما علمت أن مدينتي الخرطوم و بحري تغطان في سبات عميق ولا يوجد بهما أي حراك شعبي ، وحتى مدينة أم درمان نفسها فالحراك فيها أنحصر حتى تلك اللحظة في ثلاث بؤر محددة هي شارع الشنقيطي ، و منطقة ودنباوي ، و محلية أمبدة .
المدهش والمثير للتعجب و التحسر ساعتها أن حتى شارع الوادي و النص وهما الشارعان المحاذيان لشارع الشنقيطي ، كانت فيهما حركة المرور شبه عادية ، وكأن شيئا لم يكن يدور في الشنقيطي .
تأكدنا من تلك المعلومة جيدا من بعض الشباب الثائر المنضم ألينا و القادم من الحارات المجاورة لهذين الشارعين ، الأمر الذي أحبط كثيرا ممن كانوا متواجدين ومحاصرين في منطقة تقاطع الرومي .
في حوالي الساعة الثانية عشر والنصف بعد منتصف النهار شعرنا أن الشارع على طوله أصبح ملك لنا ، أنسحبت كل قوات شرطة الأحتياطي المركزي وتمركزت في أول شارع الشنقيطي .
وبدأ بعضنا يطرق أبواب الناس تارة بحماسة وتارة أخرى بتوتر من أجل طلب المزيد من المواطنين و حثهم للخروج للشارع و أحتلاله حتى لا تنفرد قوات الشرطة بمجموعات صغيرة من الشباب .
تواترت ألينا أنباء طيبة من هنا و هناك ......... بعضها تحدث عن حرق الشباب الثائر دار المؤتمر الوطني بمحلية أمبدة وأتلاف كل مافيه من أثاث و أوراق ، وكذلك عن صدامات شديدة بين الشرطة وشباب حي ود نباوي ، وبداية ظهور مجموعات صغيرة في شارع النص بالقرب من الثورة الحارة الأولى مع تجدد الصدام في مدينة ود مدني .
في تلك الدقائق و اللحظات حصلت ثلاث أحداث مفصلية كانت لها أبلغ الأثر في تحطيم معنوية هؤلاء الشباب النقي الخلص الذين كانوا بجواري ، فأدى ذلك الى تشتيتهم لفرق و جماعات متفرقة لم نستطع بعدها أن نجمع شملهم ولمامهم .
الحدث الأول بدأ عندما رأينا أن النظام قد عاد للعبته المعهودة التي أعتاد وتمرن عليها كثيرا مع مواطن الداخل ، فيما يخص دغدغة و أثارة الفزع الشعبي عبر النعرة الأثنية المستحكمة والتي رسخها بينهم .
كان ذلك الأمر تكرار ممل و قبيح و سيء لتجربتي ( الأثنين الأسود ) بعد مقتل الراحل جون قرنق ، و( دخول الراحل خليل أبراهيم لمدينة أم درمان ) ، وأقصد في ذلك سلاح العنصرية البغيضة المقيتة المستشري في المجتمع السوداني مؤخرا .
قامت وعلى مايبدو لي تشكيلات من مؤيدي النظام من نسوة المؤتمر الوطني داخل الأحياء بتسريب أشاعة قبيحة وسط نساء أم درمان الثائرات اللاتي كن يقفن بشجاعة و مروءة بين المتظاهرين في الشارع ، مفادها أن هؤلاء الشباب الثائر جلهم من ( الغرابة ) أهل دارفور والذين يتبعون و يدينون للجبهة الثورية .
وذهبت هذه الأشاعة القذرة لأبعد من ذلك وتحدثت عن أن هذا الشباب الثائر النقي هم من ( الزرقة ) وبعامل الحقد الأجتماعي و الأثني على أهل المركز ( عرب مثلث حمدي ) سوف يقومون بعد كسرهم لشوكة الشرطة بأعمال تخربية و أنتقامية عشوائية بين السكان و المواطنين .
وبالفعل وجدنا أن هذا السلاح العنصري البغيض وأن لم يثني الشباب الثائر عن الصمود و التظاهر في الشارع غير أنه أفلح الى حد بعيد في خلخلة الصفوف و أثناء و أثارة الرعب لدى كثير من النسوة اللاتي بدأن يسألن المتظاهرين بأشفاق و خوف غريب غير مبرر ...... هل أنتم ناس خليل أبراهيم ؟ هل أنتم من الجبهة الثورية ؟ ومن كانت تبدو على سحنته وملامحه صورة أهلنا بدارفور ، كن يفرون منه و يدعون أبنائهم للأنسحاب من المظاهرة أو للأبتعاد منه !
في دقائق معدودات وبشكل مذهل ومؤسف و محزن للغاية أصبح النسوة اللاتي كن قبل لحظات قليلة يهتفون بالحرية والثورة ضد النظام ، أنقلبوا لينطقوا بلسان الجاهلية عن أن الغرابة وناس خليل هم من وراء هؤلاء الشباب المغرر بهم .
تذكرت ساعتها على الفور كلمات لشيخ حسن عبدالله الترابي سمعتها عنه مباشرة في محاضرة كان ألقاها قبل أكثر من ثلاث سنوات بالعاصمة القطرية الدوحة كانت بعنوان ( ثورات الربيع العربي ..... موقع السودان من ذلك ) .
كان شيخ حسن مازال خارجا وقتها حديثا من سجنه ، و الذي فرضه عليه الحواريون السابقون ، وكان يتحدث خلال تلك المحاضرة بمرارة عن أن هذا النظام الفاسد و الذي يحنث باليمين و يكذب بالقرآن ، لا يعرف ولايراعي أبسط حقوق السجين التى تعلمناها من الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه في الصدر الأول لدولة الأسلام الأولى بالمدينة .
ثم قال وهذا ما يعنينا من جزئية كلامه ، أنه ورغم ماقاساه من جور و ظلم وقساوة من آتى بهم وكان سببا ليكونوا هم اليوم حكام للسودان ، ألا أنه لا يتمنى أبدا فرضية خلعهم وأسقاط نظامهم بالقوة كمثل الحالة التي سارت عليها الأحوال في مصر أو تونس أو اليمن لأن ماسوف يعقبها من تدمير و خراب وتصفية حسابات قد يفوق سوءا مايتصوره أي شخص .
فأضافة للغبن والظلم المتراكم في النفوس بفعل الأنتهاك السياسي المتواصل واليومي للنظام للكثير من قطاعات شعبه ، تحدث الشيخ أيضا عن أن هنالك سبب جوهري آخر أكثر خطورة تجذر في مجتمعنا الحالي قد يكون له تبعات سيئة في حالة أنهيار النظام .
قال أن هنالك نعرة عنصرية بغيضة رسخ لها هذا النظام بين أبناء الشعب السوداني من أجل ان يسود نظامه وتترسخ قبضته على الشعب وهي أشبه بنظرية ( فرق تسد ) ، وضرب مثالا لذلك حينما قال أنه تعجب كثيرا من حالة اللامبالاة ورد الفعل الشعبي الضعيف تجاه كارثة أنفصال البلاد ، الأمر الذي لا يوازي أبدا تلك الجهود التي أهرقت فيها أحبار وأقلام وأصوات النخبة في المقالات والكتب و الندوات نواحا و تثكيلا على تلك الكارثة الوطنية .
يواصل الترابي والحديث له ...... ( لم نجد أثر لكل حديثنا عن تلك الكارثة الوطنية بل و العكس تماما من ذلك ، وجدنا أن الكثير من القطاعات الشعبية والمواطنين كان يصرح و يقول بكل بساطة وسذاجة و سطحية مسايرا دعاية عنصرية في أعلام النظام للتخفيف والتقليل من جريمة الأنفصال في العقل الشعبي ( الحمدالله انو ربنا خلصنا من العبيد ديل وحال السودان بعدها أقتصاديا و أمنيا سوف ينصلح بأذن الله ) !
هذه النعرة العنصرية أضحت للأسف ثقافة شعبية يتحدث بها البسطاء و العامة ، وهذا ماسوف يجعل تبعات أنهيار النظام دون ترتيبات متفق عليها بين القوى السياسية المعارضة للتغيير والتحول الديمقراطي بلاءا على هذه البلاد ( حسب رأي الشيخ ) .
وأضيف من عندي أن تجربة هبة سبتمبر كشفت لنا بجلاء كل مزايا وأبعاد هذه النعرة العنصرية بكل قبحها ، والله أعلم كم من الأجيال القادمة سوف نحتاج لعلاج وأستئصال هذه المرض العضال الذي نخر بعمق الروح القومية و الوحدة الوطنية في مجتمعنا السوداني قبل أن تهل علينا أصوات أنفصالية أخرى من أقاليم طرفية جديدة تنادي بتقرير مصيرها من الدولة السودانية .
الحدث الثاني كان في حوالي الواحدة ظهرا وكان وقتها أعداد المتظاهرين قد بدأت تتناقص بشكل كبير بسبب خلو الشارع تماما من أي وجود أمني وخروج كل مدارس الأساس و الثانوي وكذلك طلاب جامعة التقانة للشارع العام وأختلاطهم بنا بشكل عشوائي .
أثناء وقوفنا في تقاطع الرومي جاءت عربة مشبوهة وقفت على مسافة بعيدة منا ، ثم نزلت منها مجموعة من الأطفال المشردين من الجنسين لا يتعدى عمر أكبرهم الخمس عشر ربيعا على أكبر تقدير .
كانوا يحملون سواطير و عصي و سكاكين ، وبعد قليل نبهني أحد الحاضرين بجواري أن هؤلاء هم الذين سمعنا عنهم كثيرا ويطلق عليهم السودانيون لقب ( عصابات النيقرز ) .
تتبعت تحركاتهم بشكل مركز و دقيق ، كانوا يمشون بأنتظام غريب كالفرقة العسكرية في المارشات ، مروا بجانبنا في المظاهرة وبينما كنت أعتقد أنهم سوف يشتبكون معنا أو أنهم سوف ينضمون ألينا ، ألا أنهم لم يفعلوا هذا ولا ذاك !
لم يعيرونا أي أهتمام و مروا بجانبنا وتابعوا مسيرهم وكأننا سراب أو فراغ ، كنا بالنسبة لهم كالأشخاص غير الموجودين في المكان ، وبدى لي بوضوح تام أنهم كانوا يوجهون جل تفكيرهم نحو هدف معين لايريدون أن يحيدوا عنه .
حاولت أن أنبه من حولي بأن هؤلاء سوف يسرقون شرارة الثورة وصيتها الطيب في نظر الشعب السوداني من بين أيدينا أذا قاموا بأي جرائم بشعة أو تخريب في الممتلكات ، فلم يعير كل من كان في المكان لكلامي أي أهتمام أو أنصات .
ذهب البعض لأسوأ من ذلك سلبا و بدأ بنصحي أن نتفادى هؤلاء حتى لايشغلونا عن أهدافنا الرئيسية ، والبعض الآخر كان يرى بسطحية أن أي مزيد من التخريب على أيدي هؤلاء سوف يصب في مصلحة الثورة عبر أشاعة الفوضى العامة التي سوف تضعف الحكومة وقواتها النظامية وتجبر الشعب السوداني للخروج معنا للشارع !
وحدث ما كنت أخشى حدوثه ، هؤلاء الأطفال كانوا بوضوح موجهون لفعل معين ، والدليل الساطع والبرهان المبين لذلك أنهم تركوا كل محلات منطقة تقاطع الرومي من كافتريا و مطاعم و محلات تجارية و دكاكين وذهبوا الي صيدلية قاموا بفتح بابها عنوة بعد كسر مفاتيحها ، ثم قاموا بتدمير و تكسير كل محتوياتها وبدلا من أن يسرقوا الدواء قاموا برميه في الخور و صناديق القمامة التي كانت بجوار الصيدلية .
عندما فرغ الأطفال من تدمير كل مرفقات الصيدلية و تفريغها من كل محتوياتها من أدوية وقفوا أمامها يقفزون و يصيحون ببراءة و فرح بأنجازهم !
أكثر ما أحزنني في هذه اللحظة وأصابني بكدر و أحباط شديد أنه وأثناء أعتداء هذه المجموعة الصغيرة على الصيدلية ، ركضت دون وعي مني نحو هؤلاء الأطفال المساكين المغرر بهم أحاول نصحهم لولا أن أصحاب المحلات التجارية المجاورة منعوني من ذلك .
كنت أصيح في الناس....... فليعتبر كل واحد منكم أن هذه الصيدلية ملكا له لنحميها جميعا ،و نحن أكثر من هؤلاء الأطفال و بأمكاننا أن نصدهم ونمنعهم ، فنتفادى بذلك تلك الجريمة و أي توسع في التخريب بعد الصيدلية من قبلهم .
قلت لهم أيضا أن ذلك سوف يلطخ صيت الهبة وسوف يستغله النظام أسوأ أستغلال ، ولكن ورغم ندائي وأسترجائي لهم للتحرك وأيقاف هؤلاء الأطفال المسمون ( النيقرز ) ألا أن كلامي لم ينفذ لأسف الشديد الى قلوبهم ، و راح أدراج الرياح وسط سلبية و رد الفعل البائس لكل من كان في المكان وحاضرا للجريمة .
أستمر هؤلاء الأطفال في تخريب الصيدلية وحاولوا أن يتوجه بعضهم للكافتريا التي بجانبها ولكن وقوف أصحابها بالسيخ والعصي أمامها أرهبهم رغم ماكانوا يحملونه من سكاكين و عصي و سواطير .
هذا ما جعلني أتأسف كثيرا على ضياع الغيرة الوطنية والتلاحم الشعبي في لحظات الأزمة ، حيث أن كل صاحب محل أكتفى بالوقوف أمام محله و بدأ يقول نفسي نفسي ومالي لغيرها من بال .
بكيت في تلك اللحظة ماضي جميل في سودان أفتراضي زاهي اندثر عن الوجود في المخيلة الشعبية للمواطن ، بعد أن دفنه الأنقاذيون بكل أخلاقه و أرثه وعاداته و تقاليده السمحة الجميلة مع النظام الديمقراطي الذي أنقلبوا عليه .
أصدقكم القول أيها القارئ الكريم أنني وعندما كنت أتفرس في ملامح هؤلاء الأطفال المساكين ، لم أشعر تجاههم بأي ضغن أو كره أو حقد ، بل على العكس فالبراءة والجهل و غياب الفهم و الوعي عن مايقومون به كان واضحا في ملامحهم البريئة ، مما جعلني أكثر حسرة و أشفاقا عليهم وللظروف التافهة الحقيرة التي جعلت تلك الأيادي القذرة التي لاتخشى الله عز وجل تستخدمهم أسوأ أستخدام و توظفهم أقبح توظيف .
وقتها أتصل بي صديق آخر ( أ.س ) وهو من الشباب السوداني المثقف والنير الذي تعرفت عليه في أحدى زياراتي للقاهرة عن طريق أخي و رفقة عمري الأخ راشد حسين أحد شباب الحزب الشيوعي السوداني .
كان يحاول أيضا هذا الصديق الوفي الأطمئنان على صحتي ، وعن الوضع العام في منطقة الرومي التي شاع خبرأنتفاضتها في كل أرجاء العاصمة ، فقمت بأعلامه أختصارا عن أهم مايجري فيها ، وعن كل الأحداث التي رافقت هذا الحراك .
أصر هذا الصديق ( أ . س ) أن يأتي ألي وينتشلني من هذا المكان أشفاقا منه على شخصي ، وقال لي أنه تناهى لسمعه أن قوات مقدرة و تعزيزات كبيرة من شرطة الأحتياطي المركزي في طريقها للمكان خصوصا أن كل العاصمة تمارس حياتها بشكل طبيعي ماعدا منطقتكم ، وحتى مظاهرتي منطقة ودنباوي و امبدة عرف أنهما قد تم تفريق أصحابها والسيطرة على الوضع في المكانين .
حاولت أثناءه من المجيء ولكنه أصر بألحاح أن يأتي ألي ، وبالفعل وتحت تعنته قلت له .......... ( أعمل حسابك يا صديقي لأننا تقريبا محاوطون من كل الجهات الأربعة لعزلنا من سكان أي مناطق مجاورة تريد أن تنضم ألينا هنا ، وخلينا في الأخير على اتصال ) .
أغلقت هاتفي السيار وبعدها فقط بلحظات قليلة جائت بالفعل وحسب كلامه قوة جديدة و معززة بأعداد أكبر من العساكر لمنطقة الرومي وقاموا برمي علب من الغازات المسيلة للدموع ، وهذا هو الحدث الثالث الذي أنا بصدد التوقف عنده قليلا .
كان نوع الغاز المسيل للدموع الذي سقط علينا وقتها مختلف تماما عن ذلك الذي أعتدنا عليه طوال الساعت الأربع الماضية ، ثم وماهي ألا دقائق معدودات حتى وجدت نفسي أسقط على الأرض مغشيا علي ، وحاولت بعدها بصعوبة جدا وأنا أحبو على الأرض الوصول لأقرب منزل للشارع .
بمساعدة كريمة من أصحاب البيت وبعض من كان متواجد في الشارع أدخلوني أحد المنازل وبدأت صاحبة البيت بحنان الأم وهي تدعو على النظام ، تحاول بأجتهاد وبكل السبل المتاحة أن تفيقني مما أنا فيه ، وبالفعل وبعد ثلث ساعةأو نصف ساعة تقريبا أستطعت أن أعود للوعي .
لا أستطيع أبدا أن أجزم لك القارئ العزيز أن هذا النوع من الغاز المسيل للدموع الذي أستخدمته الشرطة معنا في الأخير هو الذي أدعت القيادية في حزب الأمة د.مريم الصادق المهدي أنه يحوي غازا مشنج للأعصاب
و لكن ماأستطيع التأكيد عليه هنا أنه مختلف تماما عن ذلك النوع الأول ( العادي ) الذي كنا نقاومه في الساعات الأربع الماضية بدعك العيون بأوراق النيم ، والدليل أنني سقطت مغشيا علي سريعا بعد أطلاقه ، ثم بعدها وهو الأهم للذكر أنه أستطاع أن يفض كل جموع مظاهرة تقاطع الرومي بسرعة شديدة ويشتت شملهم .
عند الساعة الرابعة عصرا وصلني صديقي ( أ. س ) بسيارته وأنتشلني من المكان ، وعرفت أثناء ذلك أن أول شهيد بالعاصمة قد سقط من جامعة التقانة نتيجة أصابة مباشرة في الصدر برصاص حي بعد صدامات شديدة بين طلاب الجامعة و الشرطة .
أثناء الطريق حكى لي صديقي كيف أن الطريق كان سالكا من الخرطوم مرورا ببحري حتى وصلني في شارع الشنقيطي ، ولم يكن هنالك أي تحفز أو بوادر شعبية للخروج للشارع من مواطني المدينتين .
تبادلنا سويا الحسرة و مشاعر الأحباط من كون خروج بعض المناطق بأم درمان لم يكن له كبير الأثر في تحريك الشارع العام بالعاصمة ، وتشائمنا من أن يكون مصير ماحدث اليوم كمصير الأحداث والمظاهرات النوعية المحدودة التي حدثت في العام الماضي ، غير أن الأيام التالية وعلى عكس ما توقعناه أنا و صديق كانت على مايبدو حبلى بالأضافة المثيرة للأمل و الباعثة للحزن في آن واحد .
نختم هذا المقال بجزء يسير مستقطع من حوار فكري طويل دار بين شاب ثائر و عجوز حكيم عركته التجارب ، كان مسرحه كتاب (البحث عن الثورة ) بريشة الأديب الأريب أحسان عبدالقدوس .....
هذا هو منتهى الضياع السياسي !
زفر العجوز دخان الشيشة في هدوء وقال : أن حالتك ولو أنها تعتبر حالة سياسية شاذة ،ألا أنها حالة عامة
صرخ الشاب : لماذا ؟ وكيف تصل حالة شاذة الى أن تكون حالة عامة ؟ قال العجوز في بساطة : لأننا .. كما سبق أن قلت لك .. نحن لا نعيش قضية وطنية ولكننا نعيش حالة وطنية !
قال الشاب في أستخفاف : ماهو الفرق بين أن نعيش قضية أو نعيش حالة ؟ قال العجوز في تأكيد : فرق كبير ... فالقضية تقوم على تخطيط محدد نحو هدف محدد .. أما الحالة فقد تعجز عن أن تحدد التخطيط أو الهدف حتى مع سلامة النية وقوة الأمل .
* وأكاد أتفق في الأخير دون أي مواربة والى حد بعيد مع حديث العجوز الحكيم و الشاب الثائر ومن خلفهما مع الأستاذ أحسان عبدالقدوس ، أذا ما أسقطنا حديثهم عن ثورة 23 يوليو المصرية على هبة سبتمبر الأخضر ، بالقول أن ماعشناه من تجربة في هبة سبتمبر لم يكن أبدا قضية وطنية ، يتحمل تبعاتها و عواقبها كل أفراد الشعب السوداني بشكل متساوي .
كانت هبة سبتمبر حالة وطنية شاذة عاشها نفر قليل من شباب هذه الوطن النقي الذي خرج مضحيا بحياته من أجل التغيير وخلاص المستضعفين من أبناء هذا الشعب من جبروت هذا النظام الفاشي ، فقابل أعزلا وبصدر مفتوح رصاص القوات النظامية ، وتحمل هو لوحده في الأخير العواقب و التبعات الوخيمة .
لن ننساكم أبدا يا نجوم هبة سبتمبر الأخضر شهداء كنتم أو معذبون في بيوت الأشباح أو مشردون في بقاع الأرض ، وأتمنى أن لا ينساكم الناس في بلدي المنكوب وينسوا تضحياتكم وسط زحمة الحياة .
ويبقى لحديثنا عن سبتمبر الأخضر بقية
abdalla al-bukhari al-gaali


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.