ما إن تبرهن بالدلالة القطعية المثبوتة معمليا بعد فحص العينة، بأنني مصاب بسرطان الكارسنويد حتى تلقيت خطاب ترحيب من جمعية مرضى السرطان التي تتخذ من مستشفى (برنسيس مارغريت) التخصصي مقرا لها. هذا المستشفى يعتبر من أكبر المستشفيات التخصصية في العالم لكن معظم نزلائه باتوا في رحاب الأبدية فنادرا ما تعود منه لبيتك حيا، أكاد أجزم أننى ضمن القلائل الذين زاروا هذا المكان وظلوا على قيد الحياة!. رحبت الجمعية بي عضوا أصيلا وزودتني بكتيب عن أدبيات الكارسنويد إضافة إلى موقع الكتروني نصحتني بزيارته وأسطوانة مدمجة تحتوي على إفادات مرضى وأطباء وعلماء وأزعم الآن أني قرأت عن سرطان الكارسنويد أكثر مما قرأت أشعار محمود درويش الذي ظللت أتابعه منذ (بين ريتا وعيونى بندقية) حتى الجدارية. إنها العضوية الوحيدة التي تنالها دون عقيدة الايدلوجيا، وبلا مساندة حزبية ودون تزكية من جماعة أو طائفة، تنالها بشرف (الورم) وبذيوع (الانتشار) وبالتقرب إلى الموت ومصادقته وتحويل معناه من فناء إلى بعث متجدد!!. انها العضوية الوحيدة التي لم أسع الى اكتسابها ولم أقرأ لوائحها، ولم أطلع على شروطها، ولا أعرف الآن موقعى فيها بالتحديد، هل أنا قيادي أم كادر وسيط أم منتسب أم كادر سري؟ لكنها في كل الأحوال لا توصف (بالإنتهازية) لان (الورم) هو المدخل للالتحاق بها!!. بعد شفائي وعودتي للسودان قررت الاستقالة من كل العضويات المنسوبة لي والمنتسب اليها والإبقاء فقط على عضوية جمعية مرضى السرطان لأنها العضوية الوحيدة المبرأة من شبهة الغرض، والمعصومة من شهوة السلطة، والمجاورة للموت وحسنت أولئك رفيقا!!. لم تكف كندا عن إدهاشها لي بعد خطاب الجمعية السريع، فقد لاحظت أن تلفزيون الغرفة التي خصصت لى بعد إزالة نصف رئتى لا يعمل وبقدر ما حاول ابني الزبير تشغيله فشل لكن في اليوم الثالث، جاءتني امرأة من ذوات الرطين البديع، تحمل جهازا صغيرا في يدها اليسرى وسألتني إن كنت أريد مشاهدة مباريات كأس العالم فنقلت لها رغبتى الاكيدة فأشرت على الجهاز الذي تحمله ثم سألتني عن قنوات الأخبار والموسيقى والمسلسلات وبعد أقل من عشر دقائق كنت أشاهد (رودريغس) نجم كلومبيا، وأستمع لآر كلى الذي طلبه ابني، وأتابع تقدم (داعش) في العراق. الدهشة الكبرى كانت في اليوم الرابع مع زيارة المشرفة الاجتماعية للمستشفى فقد أخبرتني بأنها المسؤولة عن الزهور للمرضى وطلبت مني تحديد الوان الزهور التي أحبها لتضعها في مدخل الغرفة قبالة عيني لتكون الزهور أول ما أراه في الصباح، لم أندهش لجوهر المعنى ولكن ما أدهشني هو أن تكون هنالك امرأة وظيفتها الزهور، و(أكل عيشها) الارج والرحيق، ونهاية رسالتها أن ترج مرضاها بالعطر فيستفيقون على الزهر!! أما الدهشة المركزية فقد طبعت إدارة المستشفى كتيبا من 40 صفحة يتعلق بعمليتي الجراحية يبدأ من تحديد موقع الورم ويمر بمقترح جهاز (البت سكان) لكيفية إجراء العملية وموافقة الجراح، ثم الحركات الرياضية التي يجب أن أمارسها طوال حياتي، ثم الجهات التي أتصل بها في حال تعثرت حالتي. هذا الكتاب ليس من تأليف أحد، إنه من تأليف رئتي، وهو الكتاب الوحيد في العالم الذي تطبع منه نسخة واحدة فقط. وهو أيضا الوحيد الذي لا يدخل سوق المنافسة من بوابة المبيعات الأوسع انتشارا والأعلى توزيعا لأنه من تأليف رئة!!. [email protected] //////////