فات على بعض الرُّسلاء والرَّسيلات في الوسائط الصّحافية، فهم استشهاد الأخ الدكتور عبد الرحمن أحمد الخضر والي ولاية الخرطوم، بما أخبر به العلماء عن أن الإمام أحمد بن حنبل وحاله مع السلطان. والمعروف أن ابن حنبل إمام السنة – يرحمه الله – قد عاصر أربعاً من الخلفاء العباسيين، وهم على التوالي: المأمون والمعتصم والواثق ثم المتوكل. وكانت محنته على أشدها في عهود الخلفاء العباسيين الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق، ثم تغير الحال في عهد الخليفة المتوكل. ويمكن تلخيص موقفه – يرحمه الله – في تلك العهود الثلاثة، بما ذكره ابن كثير – يرحمه الله – "في البداية والنهاية" عن موقف الإمام أحمد من الخليفة المأمون، إذ روى أنه كان لا يصلي خلف عمه إسحاق بن حنبل، وخلف بنيه ولا يكلمهم أيضاً؛ لأنهم أخذوا جائزة السلطان. وقال أيضاً: "وبعث المأمون مرةً ذهباً يُقسم على أصحاب الحديث، فما بقى منهم أحدٌ إلا أخذ، إلا أحمد بن حنبل، فإنه أبى". ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم، وكذلك في أيام ابنه الواثق، معارضاً لرغائبهما، مُحاججاً لقناعاتهما. وأحسبُ أنه وجدَ قَبَولاً طيباً من الخليفة العباسي المتوكل، وقرّبه الخليفة، ولم يسمع الخليفةُ فيه وشايةً، أو يستجيب لتحريض بعض العلماء، وخاصته من الحاشية في الإمام أحمد بن حنبل. ولما كان الإمامُ أحمد بن حنبل قد مرَّ في العهود الثلاثة بمحنة عُرفت بمحنة الإمام أحمد بن حنبل في ما يتعلق برأيه في خلق القرآن، وغير ذلك من مُجادلات تلكم العهود في قضايا فقهية وفلسفية، استعصم خلالها الإمام أحمد بن حنبل بما فِهِمَ من الكتاب والسنة، ولذلك عندما وجد قَبولاً طيباً من الخليفة المتوكل، حرص على تقديم المشورة والرأي والنّصيحة، دون التفاتةٍ إلى دنيا يصيبها. من هنا لم يُخبرنا علماءُ ذاك الزمان عن أحمد بن حنبل وحاله مع السلطان، إلا أنه قال لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتُها للسلطان. وهذا ما ثبت عنه – يرحمه الله – من قولٍ مأثورٍ في هذا الخصوص. مما لا ريب فيه، أن الأخ عبد الرحمن الخضر، استنجد بدعاء أحمد بن حنبل، في استشهاده عندما أدلى بذاك الحديث، من باب المقاربة وليست المقارنة، كما فهمها البعض. أخلصُ إلى أن هذا الفهم الذي أرسى مبادءه الإمام أحمد بن حنبل في كيفية التّعامل مع السلطان، أراد أن يستشهد به الأخ عبد الرحمن الخضر، فحَرّف بعضُهم الكلم عن موضعه، وجاء المعنى مُخالفاً للمبنى. ولما كانت الألفاظُ أوعية المعاني، تدارس معي الأخ عبد الرحمن الخضر هذا الأمر، مساء أول من أمس، فأشرتُ إليه بأنّ مقصد الإمام أحمد بن حنبل أن تُبذل النصيحة للسلطان، باعتبار أن الدين النّصيحة، تصديقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: للَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ". ولأنّ الإمام أحمد بن حنبل يُدرك أن الدعاء مُخ العبادة، فلذلك قال: "لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان" من باب الإيثار بأن يعدل السلطان لصلاح الرعية، استجابة لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". ورأيتُ من الضَّروري تصحيح هذا الفهم في هذه العُجالة، حتى لا يلتبس عند الكثيرين، لا سيما وأني علمتُ من الأخ عبد الرحمن الخضر أنه أورد هذا القول المأثور نصاً ورُوحاً، ولكن لم يُفهم مقصده، ومُراد الاستشهاد به. ولما كان الإمام أحمد بن حنبل من الذين وقفوا سداً منيعاً ضد رغائب السلاطين، وتحمل في ذلك ما تحمل، فرأيتُ من الإنصاف أن نُصحح هذا الفهم المغلوط عنه، بوضع شيءٍ من التّفصيل حول ذاكم الدعاء الذي أصبح قولاً مأثوراً عن الإمام أحمد بن حنبل – يرحمه الله تعالى. ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الله تعالى: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً". وقول الشّاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحسين المعروف بالمتنبئ: وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ وكَذا تَطْلُعُ البُدورُ عَلَيْنَا وكَذا تَقْلَقُ البُحورُ العِظامُ ولَنَا عادَةُ الجَميلِ منَ الصّبْرِ لَوَ أنّا سِوَى نَوَاكَ نُسامُ كُلُّ عَيْشٍ ما لم تُطِبْهُ حِمامٌ كلُّ شَمسٍ ما لم تكُنْها ظَلامُ